بوبكر حمداني: مشروع مراجعة مدونة الأسرة .. تشريع متجدد لأسرة متغيرة

بوبكر حمداني: مشروع مراجعة مدونة الأسرة .. تشريع متجدد لأسرة متغيرة مولاي بوبكر حمداني

ترأس الملك محمد السادس الاثنين 23 دجنبر الجاري جلسة عمل خُصصت لمشروع مراجعة مدونة الأسرة، عقب استكمال الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الاسرة لمهامها وتقديم تقريرها النهائي، وقد تميزت هذه الجلسة بتوجيهين استراتيجيين جوهريين: الأول يتعلق بتكليف الحكومة بمهمة التواصل المباشر مع المواطنين لشرح مضامين التعديلات المقترحة وأبعادها، والثاني يخص دعوة المجلس العلمي الأعلى لمواصلة البحث والاجتهاد في القضايا المستجدة المتعلقة بقانون الأسرة، وتعكس هذه التوجيهات الملكية السامية حرص المؤسسة الملكية على ضمان انخراط المجتمع في مسار الإصلاح وتملكه لمضامينه، مع الحفاظ على التوازن بين متطلبات التحديث والمرجعية الدينية للمملكة، كما تؤكد على أهمية المقاربة التشاركية والتواصلية في تنزيل هذا الإصلاح المجتمعي الجوهري.

وفي ذات السياق انعقد لقاء تواصلي بالرباط بتاريخ24 دجنبر 2024، بمشاركة مؤسساتية واسعة شملت ممثلي السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والمؤسسات الوطنية الحقوقية والدينية، وقد أكد رئيس الحكومة أن الهدف من اللقاء هو تقديم المضامين الرئيسية لمشروع مراجعة مدونة الأسرة للرأي العام، وأن الحكومة ستعمل على صياغة المشروع في أقرب الآجال لعرضه على البرلمان، مما يعكس المقاربة التشاركية في تنزيل هذا الإصلاح التشريعي الهام، وعرض وزير العدل ابرز المقتضيات الجوهرية لمشروع مراجعة مدونة الأسرة.

 

أولا: مشروع مراجعة مدونة الأسرة: من التوجيه الملكي إلى التنزيل المؤسساتي

لقد شكل صدور مدونة الأسرة سنة 2004 تحولاً تاريخياً في المنظومة القانونية المغربية، حيث جسدت نقلة نوعية في مجال حماية حقوق الأسرة وتكريس المساواة بين الجنسين، وعلى مدى عقدين من التطبيق، شهدت المدونة تطورات متلاحقة وتحديات متعددة، أبرزت الحاجة إلى مشروع مراجعة شاملة لمقتضياتها، وقد تميزت هذه الفترة بعدة محطات أساسية، بدءاً من تبني دستور 2011 الذي كرس مبدأ المساواة وحماية حقوق الأسرة، مروراً بانخراط المغرب في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، وصولاً إلى تنامي الوعي المجتمعي بضرورة معالجة الاختلالات التي كشفت عنها الممارسة العملية.

 

وخلال العقدين الماضيين برزت مجموعة من الإشكاليات القانونية والاجتماعية الجوهرية في تطبيق مدونة الأسرة، تجلت بشكل بارز في تنامي ظاهرة زواج القاصرات وما نتج عنها من تداعيات صحية واجتماعية خطيرة، إلى جانب تزايد النزاعات القضائية المعقدة المتعلقة بحضانة الأطفال والتي كشفت عن قصور في النصوص المنظمة لها، كما برزت صعوبات جمة في تدبير الأموال المكتسبة خلال الزواج وتحديات في تطبيق مقتضيات التعدد، فضلاً عن الارتفاع الملحوظ في تكاليف طلاق الشقاق الذي شكل عبئاً اقتصادياً على الأسر، وقد تفاقمت هذه الإشكاليات مع استمرار معاناة الأطفال خارج مؤسسة الزواج وتعقد إجراءات إثبات النسب، مما استدعى ضرورة التفكير وإعادة النظر في المقتضيات القانونية المنظمة لهذه القضايا لضمان حماية فعالة لحقوق جميع أفراد الأسرة، وخاصة النقاط الخلافية المرتبطة بالمواد 20، 49، 53، 175، 236، 238، من مدونة الأسرة.

 

واستجابة لهذه التحديات، بادر جلالة الملك محمد السادس سنة 2023 إلى إطلاق مشروع إصلاحي شامل لمراجعتها، حيث تم تشكيل لجنة متخصصة ضمت نخبة من الخبراء في مختلف المجالات القانونية والشرعية والاجتماعية، وقد تميزت منهجية عمل هذه اللجنة باعتماد مقاربة تشاركية موسعة تجلت في عقد سلسلة من جلسات الاستماع شملت مختلف الفاعلين المؤسساتيين والمدنيين، بدءاً من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية، مروراً بالخبراء القانونيين والفاعلين الاجتماعيين، وصولاً إلى المؤسسات الدينية، مما أضفى على المشروع الإصلاحي طابعاً توافقياً وتشاورياً يعكس تطلعات مختلف مكونات المجتمع المغربي.

 

وتعكس هذه التوجيهات الملكية السامية حرص المؤسسة الملكية على ضمان انخراط المجتمع في مسار الإصلاح وتملكه لمضامينه، مع الحفاظ على التوازن بين متطلبات التحديث والمرجعية الدينية للمملكة، كما تؤكد على أهمية المقاربة التشاركية والتواصلية في تنزيل هذا الإصلاح المجتمعي الجوهري ومن ابرز المقتضيات الجوهرية لمشروع مراجعة مدونة الأسرة التي عرضها وزير العدل في لقاء الثلاثاء في الرابع من دجنبر الجاري:

أقر مشروع المراجعة إمكانية توثيق الخِطبة، مع اعتماد عقد الزواج كوسيلة وحيدة لإثبات الزوجية، مع تحديد حالات استثنائية محصورة لسماع دعوى الزوجية، كما عززت ضمانات زواج الأشخاص في وضعية إعاقة، مع مراجعة شاملة للإجراءات الشكلية والإدارية المطلوبة لتوثيق عقد الزواج، وبالنسبة للمغاربة المقيمين بالخارج، كما أتاح إمكانية عقد الزواج دون حضور الشاهدين المسلمين في حال تعذر ذلك.

حدد مشروع المراجعة أهلية الزواج للفتى والفتاة في 18 سنة شمسية كاملة، مع إقرار استثناء محدد في سن 17 سنة، مؤطر بشروط صارمة تضمن بقاءه في نطاق الاستثناء عند التطبيق.

أوجب مشروع المراجعة استطلاع رأي الزوجة أثناء توثيق عقد الزواج بشأن اشتراط عدم التعدد، مع التنصيص على ذلك في العقد، وفي حال اشتراط عدم التعدد، يلتزم الزوج بالوفاء بالشرط، أما في غياب الاشتراط، فيقتصر "المبرر الموضوعي الاستثنائي" للتعدد على حالات محددة كإصابة الزوجة الأولى بالعقم أو بمرض مانع من المعاشرة الزوجية، أو حالات أخرى يقدرها القاضي وفق معايير قانونية محددة.

إحداث هيئة غير قضائية للصلح والوساطة، يكون تدخلها إلزامياً في غير حالات الطلاق الاتفاقي، مع حصر مهمتها في الإصلاح بين الزوجين والتوفيق بينهما في آثار الطلاق، كما تم تبسيط إجراءات الطلاق الاتفاقي بجعله موضوع تعاقد مباشر بين الزوجين، وتقليص أنواع الطلاق والتطليق، مع تحديد أجل أقصى ستة أشهر للبت في الدعاوى.

أقرت المراجعة تأطيراً جديداً لتدبير الأموال المكتسبة أثناء العلاقة الزوجية، مع تثمين عمل الزوجة المنزلي واعتباره مساهمة في تنمية هذه الأموال، كما تم اعتماد الوسائل الإلكترونية الحديثة للتبليغ في قضايا الطلاق والتطليق، وقبول الوكالة باستثناء مرحلة الصلح والوساطة.

تم إقرار الحضانة كحق مشترك بين الزوجين أثناء قيام العلاقة الزوجية، مع إمكانية امتداده باتفاق الطرفين بعد انفصامها، كما تم تعزيز حق سكنى المحضون ووضع ضوابط جديدة لزيارته والسفر به، مع عدم سقوط حضانة الأم المطلقة بزواجها، وفي مجال النيابة القانونية، تم إقرار مبدأ المشاركة بين الزوجين مع تحديد دور قاضي الأسرة في حال الخلاف.

شملت المراجعة تحديد إجراءات ترشيد القاصر وتعزيز حماية أمواله، ووضع معايير مرجعية لتقدير النفقة وتسريع تنفيذ أحكامها، كما أقرت حق الزوجين في الاحتفاظ ببيت الزوجية في حال الوفاة، وتفعيل مقترح المجلس العلمي الأعلى بشأن إرث البنات، وفتح إمكانية الوصية والهبة بين الزوجين في حال اختلاف الدين.

 

ثانيا: نحو مدونة أسرة متجددة: بين التوافق القيمي وترسيخ مبادئ العدل والمساواة

ولا شك ان مشروع مراجعة مدونة الأسرة قد جسد محطة تاريخية فارقة تعكس الأهمية البالغة التي يوليها العاهل المغربي للقضايا الأسرية، وتجلى ذلك من خلال تبني المقاربة التشاركية الشاملة التي تضمن التوازن بين مختلف المرجعيات وتحمي مصالح جميع مكونات الأسرة، مع تعزيز الانسجام بين التشريعات الوطنية والمعايير الدولية والمحافظة على الهوية الثقافية والدينية للمجتمع المغربي، وقد اتسمت المنهجية المعتمدة بتشكيل لجنة استشارية موسعة ضمت نخبة من الخبراء في مجالات القانون والشريعة وعلم الاجتماع وحقوق الإنسان، عقدت على مدى أشهر جلسات استماع مكثفة شملت جمعيات حقوق المرأة والطفل، والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية، والهيئات القضائية، والمؤسسات الأكاديمية والبحثية، والفعاليات الدينية والعلماء، أثمر عملها عن صياغة 139 مقترحا تعديليا شملت الكتب السبعة من المدونة، تناولت مختلف جوانب مدونة الأسرة، مع التركيز على القضايا الإشكالية التي أفرزتها الممارسة القضائية، واستندت هذه المقترحات إلى مقاربة حقوقية تراعي المعايير الدولية لحقوق الإنسان، خاصة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل، مع الحرص على انسجامها مع المرجعية الدستورية والقيم الدينية للمجتمع المغربي، وانطلاقاً من الصلاحيات الدستورية والدينية المخولة لجلالة الملك بصفته أميراً للمؤمنين، تمت إحالة المقترحات ذات الصلة بالنصوص الدينية على المجلس العلمي الأعلى، باعتباره أعلى هيئة دينية في المملكة، والذي قام بدراستها وإصدار بشأنها رأيا شرعيا مستنيرا مفصلا ، مستنداً في ذلك إلى مقاصد الشريعة الإسلامية وأصول المذهب المالكي وقواعد الاجتهاد الفقهي المعاصر مع مراعاة متطلبات العصر وتحولات المجتمع.

 

وتجسد هذه الخطوة التزام المملكة بتطوير منظومتها القانونية بما يتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان والمرجعيات الوطنية، وتأتي هذه المبادرة في سياق وطني يضع قضايا الأسرة في صدارة الأولويات التشريعية والاجتماعية، استناداً إلى المادة 32 من الدستور المغربي التي تكرس مكانة الأسرة كخلية أساسية للمجتمع، وقد أظهرت التجربة العملية خلال العقدين الماضيين وجود فجوات تشريعية وإشكاليات تطبيقية تستدعي المعالجة، خاصة في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التي يشهدها المجتمع المغربي، كما يستند هذا المشروع الإصلاحي إلى مبادئ حقوق الإنسان الكونية، كما نصت عليها المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، مع مراعاة الخصوصية الثقافية والدينية للمجتمع المغربي، وتتجلى أهمية هذه المراجعة في كونها تستهدف تعزيز الحماية القانونية لجميع أفراد الأسرة، وضمان المساواة الفعلية بين الجنسين، وحماية حقوق الطفل وفقاً للمعايير الدولية، مع الحفاظ على التماسك الأسري والقيم الاجتماعية الأصيلة.

 

وتتجلى الأبعاد الحقوقية لمشروع المراجعة في سعيها إلى تكريس مبادئ المساواة والإنصاف في العلاقات الأسرية، وتعزيز الحماية القانونية للفئات الهشة، وضمان الوصول الفعال إلى العدالة، وتولي مدونة الاسرة اهتماماً خاصاً بحقوق الطفل، حيث تسعى إلى تقنين مبدأ المصلحة الفضلى للطفل كمعيار أساسي في جميع القرارات المتعلقة بشؤونه، تماشياً مع المادة 3 من اتفاقية حقوق الطفل، كما يتضمن مشروع المراجعة تدابير لتعزيز الحماية الاقتصادية والاجتماعية للمرأة، من خلال تقوية الضمانات القانونية المتعلقة بالنفقة والسكن وتدبير الأموال المشتركة بين الزوجين، وتهدف هذه التدابير إلى معالجة أوجه التفاوت الاقتصادي التي قد تنشأ عن انحلال الرابطة الزوجية، وضمان حماية فعالة لحقوق جميع أفراد الأسرة، وقد راعت المراجعة أيضاً ضرورة تعزيز آليات الوساطة الأسرية والصلح، بهدف الحفاظ على الروابط الأسرية وتجنب التفكك الأسري.

وتكتسي التوجيهات الملكية السامية أهمية بالغة في توجيه مسارمشروع مراجعة مدونة الاسرة وضمان فعاليتها، حيث أكد جلالة الملك على ضرورة استحضار البعد الحقوقي والإنساني في صياغة النصوص القانونية، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للمجتمع المغربي، وقد شدد جلالته على أهمية تعزيز الشفافية والتواصل مع المواطنين حول المستجدات، بما يضمن فهماً أفضل لأهدافها وغاياتها، كما أكد على ضرورة تعزيز البنية المؤسساتية لقضاء الأسرة، وتطوير برامج التكوين والتأهيل للقضاة والعاملين في هذا المجال، وتشكل هذه التوجيهات إطاراً مرجعياً يضمن التوازن بين مختلف الأبعاد القانونية والاجتماعية والثقافية للإصلاح، مع الحرص على تحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز دولة الحق والقانون.

 

ولا غرو في إن نجاح مشروع مراجعة مدونة الأسرة يتطلب تضافر جهود جميع الفاعلين المؤسساتيين والمدنيين، وتعبئة الموارد اللازمة لضمان تنفيذ فعال للمقتضيات الجديدة، ويستدعي ذلك أيضا تعزيز القدرات المؤسساتية للهيئات المكلفة بتطبيق القانون، وتطوير برامج التوعية والتحسيس لضمان فهم أفضل لحقوق وواجبات جميع أفراد الأسرة، كما يتطلب الأمر تعزيز آليات الرصد والتتبع لتقييم مدى فعالية الإصلاحات وتحديد المعيقات التي قد تعترض تنفيذها، ومن المتوقع أن تشكل هذه التجربة الإصلاحية نموذجاً يحتذى به في المنطقة العربية والإسلامية، لما تجسده من قدرة على التوفيق بين متطلبات التحديث والحفاظ على الهوية الثقافية والدينية، والتزام المغرب بالمضي قدماً في مسار الإصلاح القانوني والمؤسساتي، بما يخدم مصلحة المجتمع المغربي وفق متطلبات العصر وبما يعزز التماسك الأسري والاجتماعي به.

 

ثالثا: النهج التشريعي لتطوير مدونة الأسرة: بين الآليات العملية والتوافق القيمي

تقدم مراجعة مدونة الأسرة المغربية رؤية متكاملة تجمع بين احترام الثوابت الوطنية والدينية من جهة، ومواكبة التحولات المجتمعية والمعايير الحقوقية الدولية من جهة أخرى. وهي بذلك تستدعي اعتماد نهج تشريعي المعتمد في هذه المراجعة يستند إلى آليات عملية واضحة وتوافق قيمي، يضمن التوازن بين متطلبات التحديث والحفاظ على الهوية المغربية الأصيلة من خلال المحددات التالية:

يقتضي تطوير المنظومة الأسرية إحداث إطار مؤسساتي متخصص ضمن الهيكلة التنظيمية للمجلس العلمي الأعلى، يُعنى بتعميق الاجتهاد الفقهي وتطويره بما يستجيب للمستجدات والإشكالات المعاصرة في قضايا الأسرة المغربية، مع الحفاظ على الثوابت الدينية الراسخة، كما يستلزم هذا التوجه تطوير منظومة البحث الفقهي والقانوني وتوجيهه نحو معالجة قضايا الأسرة المستجدة، بما يكفل تحقيق المصلحة الشرعية ومواكبة التحولات الاجتماعية المتسارعة.

ينبغي توسيع قنوات التواصل مع المجتمع من خلال مبادرات حكومية منظمة تستهدف توضيح مستجدات الإصلاح وأبعاده، ترسيخاً لمبدأ الشفافية والمشاركة المجتمعية، كما يتعين وضع استراتيجية إعلامية متكاملة تيسر للمواطنين فهم المقتضيات القانونية وتضمن انخراطهم الفاعل في النقاش المجتمعي حول قضايا الأسرة.

تتطلب عملية الإصلاح مراجعة شاملة للترسانة القانونية المتعلقة بالأسرة بما يتواءم مع المقتضيات الدستورية الجديدة، من خلال عمل كل من وزارة العدل والمؤسسة التشريعية في حدود اختصاص كليهما الى المبادرة لتقديم التعديلات القانونية اللازمة لسد الثغرات وتعزيز وضوح النصوص وضمان انسجامها مع الواقع القانوني والاجتماعي.

يتعين إيجاد صيغ قانونية متوازنة تجمع بين المبادئ الإسلامية السمحة والقيم الكونية المتضمنة في المواثيق الدولية التي التزم بها المغرب، وعلى الجهات التشريعية تقديم مقترحات تراعي هذا التكامل المرجعي، تجنباً لأي تعارض محتمل بين المرجعيات المختلفة.

يتطلب الأمر إعداد نصوص قانونية واضحة ودقيقة تستهدف توحيد الاجتهاد القضائي والحد من تباين التأويلات، كما يستلزم إصدار دليل إجرائي شامل للقضاة يتضمن مبادئ تفسيرية موحدة لنصوص مدونة الأسرة.

يستلزم نجاح مشروع المراجعة تنفيذ استراتيجية وطنية شاملة للتوعية والتثقيف القانوني، تستهدف تعريف المواطنين بحقوقهم وواجباتهم في إطار المدونة، ويقع على عاتق وزارة التضامن الاجتماعي والأسرة مسؤولية إعداد وتنفيذ برامج إعلامية متكاملة وورش عمل تفاعلية، تهدف إلى رفع مستوى الوعي المجتمعي بمضامين المدونة وآليات تطبيقها.

يقتضي تحقيق العدالة الأسرية تقوية البنية المؤسسية لقضاء الأسرة وتعزيز قدراتها البشرية واللوجستية، وينبغي تكثيف برامج التكوين المتخصص للقضاة والعاملين في هذا المجال، مع توفير الموارد المادية والتقنية اللازمة للارتقاء بمستوى الأداء القضائي في القضايا الأسرية.

تستدعي مشروع المراجعة الشاملة للمدونة مراعاة المستجدات الاجتماعية والثقافية، مع الحرص على تحقيق التوازن بين مبادئ العدالة والمساواة داخل الأسرة، كما يتعين صياغة نصوص قانونية تتسم بالمرونة والقدرة على الاستجابة للتحولات المجتمعية المتسارعة التي يشهدها المجتمع المغربي.

يتطلب ضمان فعالية الإصلاح وضع خطة عمل محكمة تحدد بدقة مراحل صياغة النصوص ومناقشتها والمصادقة عليها في المؤسسة التشريعية، ويجب الالتزام بجدولة زمنية واقعية ومعقولة تضمن جودة المخرجات وتحقق الأهداف المرجوة من مشروع المراجعة.

يستوجب نجاح مشروع المراجعة تبني مقاربة متكاملة تراعي احتياجات جميع مكونات الأسرة، مع تحقيق توازن عادل بين حقوق جميع أفرادها من نساء ورجال وأطفال، بما يضمن استقرار الأسرة وتماسكها.

 

رابعا: إدماج الأعراف المحلية في مشروع مراجعة مدونة الأسرة: رؤية تكاملية

يقتضي تطوير مدونة الأسرة أيضا مراعاة التنوع الثقافي والخصوصيات والاعراف المحلية للمجتمع المغربي، حيث يُعتبر العرف مصدراً أساسياً للقانون في التشريع المغربي بعنصريه المادي والمعنوي الذين يعكسان سلوك الجماعة وإلزامية احكامها في مختلف المجالات كالأسرة والمعاملات المدنية والتجارية والجنائية، وبأدواره المتعددة أيضا كالتكميل والتفسير والإلزام، وقدرته على التعبير عن الواقع الاجتماعي وتلبية الحاجات المتغيرة، مما يجعله أداة مرنة للتطور القانوني والتكيف مع المستجدات الاجتماعية، ولابد ان يراعي مشروع مراجعة مدونة الاسرة إدماج الأعراف الأمازيغية والصحراوية الحسانية التي لا تتعارض مع جوهر الشريعة الإسلامية والمذهب المالكي وفي هذا الصدد نسوق بعض المحاور على سبيل المثال لا الحصر:

في الأموال المكتسبة أثناء الزوجية

يشكل تقنين نظام "الكد والسعاية" المعمول به في المناطق الأمازيغية نقطة انطلاق مهمة لتطوير نظام قانوني عادل لتدبير الأموال المشتركة بين الزوجين. ويتطلب ذلك وضع معايير موضوعية لتقدير مساهمة كل طرف في تنمية الثروة الأسرية، مع إقرار آليات قانونية تحمي حقوق المرأة في الممتلكات المكتسبة خلال الحياة الزوجية.

في إجراءات الزواج والتوثيق

ينبغي مراعاة الخصوصيات الثقافية للمجتمع الصحراوي في إجراءات عقد الزواج، مع تطوير صيغ قانونية مرنة تحترم تقاليد الحياء دون المساس بجوهر العقد، ويستلزم ذلك اعتماد وسائل إثبات متنوعة تراعي الأعراف المحلية في التوثيق، مع ضمان حقوق جميع الأطراف.

في الوساطة الأسرية

يتعين إدماج المؤسسات التقليدية كـ"أمغار" و"الجماعة" في آليات الوساطة الأسرية، والاستفادة من تجربة مجالس الحكماء في حل النزاعات، ويتطلب ذلك تطوير نظام قانوني يجمع بين الآليات العصرية والتقليدية، مع تعزيز دور الوسطاء التقليديين في فض المنازعات.

في الحقوق المالية والإثبات

ضرورة تقنين الأعراف المتعلقة بالمهر والصداق والنفقة، مع مراعاة العادات المحلية في الهدايا والهبات. كما يجب تطوير نظام توثيقي يعتمد وسائل الإثبات المتداولة عرفياً، مع إقرار حجية الوثائق العرفية وتنظيم العمل بالشهادة الشفوية وفق ضوابط محددة.

في المتطلبات التنفيذية والمؤسساتية

يتطلب نجاح هذا المشروع إجراء دراسات ميدانية لتوثيق الأعراف المحلية التي حافظت لقرون على تماسك الاسرة المغربية قبل مرحلة التقنين، وتكوين لجان متخصصة لدراسة تقنينها، مع إشراك الفاعلين المحليين في صياغة المقتضيات القانونية، كما يستلزم إنشاء مرصد وطني للأعراف المحلية، وتكوين القضاة والعدول، وتطوير آليات التنسيق بين القضاء الرسمي والمؤسسات العرفية.

 

خامسا: التوجيهات التنفيذية لمشروع مراجعة مدونة الأسرة: خطوات عملية نحو التنزيل الفعال

حدد مشروع مراجعة مدونة الأسرة المغربية توجيهات تنفيذية واضحة تضمن التنزيل الفعال لمقتضياته، تستند إلى احترام المرجعيتين الدستورية والدينية في صياغة النصوص، مع إنشاء منظومة متكاملة للتقييم والرصد تتولى تتبع نتائج التطبيق، واعتماد تعزيز التنسيق بين المؤسسات المعنية لضمان نجاعة التنفيذ وتجنب تداخل الاختصاصات، مع تيسير ولوج المواطنين إلى العدالة من خلال تطوير آليات المساعدة القانونية وتبسيط الإجراءات القضائية كما يلي:

احترام الثوابت الوطنية والدينية في صياغة النصوص، مع ضمان انسجامها مع المبادئ الدستورية ومراعاة المقاصد الشرعية في معالجة القضايا الأسرية، وسوف يشكل هذا الإطار المرجعي ضمانة أساسية لتحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة في المنظومة القانونية الأسرية.

إنشاء آلية مؤسسية متكاملة لتقييم الأثر التشريعي، تتولى رصد نتائج تطبيق المقتضيات الجديدة وتحديد مؤشرات دقيقة لقياس فعالية الإصلاح، حيث ستضمن تضمن هذه المنظومة المتابعة المستمرة وتقييم مدى تحقق الأهداف المرجوة.

تقوية التعاون بين المؤسسات المعنية وتوحيد جهودها في تنفيذ برامج الإصلاح، مع ضمان التكامل في التدخلات المؤسسية، وهذا التنسيق سيمثل ضمانة أساسية لتحقيق النجاعة في التنفيذ وتجنب تداخل الاختصاصات.

تطوير آليات المساعدة القانونية وتبسيط الإجراءات القضائية، مع تعزيز خدمات القرب في قضايا الأسرة، هذه التدابير ستيسر وصول المواطنين إلى العدالة وضمان حقوقهم بشكل فعال وسريع.

 

ومجمل القول، فان مراجعة مدونة الأسرة المغربية تمثل مشروعاً مجتمعياً متكاملاً ومنهجًا متقدمًا في الإصلاح يقوم على مبادئ الوسطية والاعتدال، معتمدة على آليات الاجتهاد الفقهي المبدع الذي يستوعب التحولات الاجتماعية ويستجيب للتطلعات المعاصرة. وقفزة نوعية في مجال حقوق المرأة والأسرة يعكس الرؤية الملكية السامية في تطوير المنظومة القانونية والمؤسساتية للمملكة، ويستند إلى مرتكزات تشريعية ومؤسساتية تهدف إلى ترسيخ مبادئ المساواة والعدل والتوازن، وتقليص مظاهر التمييز، وتعزيز مفهوم المواطنة المتساوية، وتعزيز الضمانات القانونية لحماية الأسرة وتطوير آليات العدالة الأسرية وتقوية التنسيق المؤسسي، مع مراعاة الأبعاد الاجتماعية والثقافية من خلال احترام الخصوصيات المحلية وتعزيز التماسك الأسري وحماية الحقوق والحريات الأساسية، ويتطلب نجاح هذا المشروع الإصلاحي تضافر جهود مختلف الفاعلين المؤسساتيين والمدنيين، مع تعبئة الموارد اللازمة وتطوير برامج التكوين وتعزيز آليات التتبع والتقييم.

 

كما ستشكل هذه التجربة نموذجاً متميزاً في مجال التشريع يتبوأ فيه البرلمان المغربي دوره المحوري في هذا المسار الإصلاحي، ليمارس دوره الدستوري في مناقشة ومراجعة النصوص القانونية بروح من المسؤولية الوطنية، بما يعزز الممارسة الديمقراطية ويساهم في صياغة تشريع عصري يراعي التوازن بين الثوابت والمتغيرات بجمعه بين الأصالة والمعاصرة، وتحقيقه للتوازن بين مختلف المرجعيات الكونية لحقوق الانسان والقيم المغربية الاصيلة بهدف تعزيز منظومة الحقوق من جهة وتكريس قيم التضامن والانسجام الأسري من جهة اخرى، وتأهيل المغرب لتقديم تجربة رائدة في مجال تطوير التشريعات الأسرية على المستويين الإقليمي والدولي، مع الحفاظ على الهوية المغربية ومواكبة التحولات المجتمعية المتسارعة.

 

 

الدكتور مولاي بوبكر حمداني

رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية