بفوز حركة نداء تونس بأكبر عدد من مقاعد البرلمان (85 من أصل 217) في الانتخابات التشريعية، حسب النتائج النهائية التي أعلنتها أمس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، تكون تونس قد خطت أولى خطواتها على درب البناء الديمقراطي، خاصة بعد إقرار حركة النهضة الإسلامية بصدقية النتائج، وبمكانها الثاني في سلم الترتيب (69 مقعدا، يليها الاتحاد الوطني ب16 والجبهة الشعبية ب 14...). وهو ما يفتح أمام المشهد السياسي كل إمكانيات التحالف لضمان أغلبية متماسكة تؤهلها لتصنع القرارات الحاسمة التي ينتظرها الشعب التونسي. ومن خلال القراءة الأولى لنتائج هذه التشريعيات نسجل المعطيات التالية:
1ـ ليس من مدلول لنتائج حركة النهضة سوى التأكيد على أن هذا التيار الإخواني قد شهد، في ظرف قياسي، ثاني سقطة له بعد فشل حكومة النهضة التي ترأسها في نسختين: كل من حمادي الجبالي (من 24 دجنبر إلى 13 مارس 2013) وعلي العريض (من 13 مارس إلى 29 يناير 2014)، حيث اضطر تحت ضغط الشارع التونسي إلى التواري لفائدة التكنوقراط برئاسة مهدي جمعة. وقد تأكد خلال السقطة الأولى عجز النهضة الإسلامية عن صياغة وصفة تتجاوب مع مطالب التونسيين نخبا وشعبا، خاصة بعد أن سجل المراقبون ارتفاع وتيرة الإرهاب والتهديد بالتكفير، وباغتيال المعارضين خلال مرحلة حكم النهضة. وقد بلغ ذلك أوجه مع اغتيال كل من شكري بلعيد (6 فبراير 2013) ومحمد براهمي (25 يوليوز 2013). إضافة إلى ذلك لم يلمس التونسيون نجاعة في تدبير الملفات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولذلك كان من الضروري أن يتم الاحتفاء بالتكنوقراط في أفق انتقالي يضمن تهدئة ألأوضاع وإجراء الاستحقاقين التشريعي والرئاسي في جو من النزاهة والاستقلالية.
تؤكد هذه المعطيات فقدان تيار المتأسلمين في تونس لعذريته حيث أبان اختبار الواقع تهافت أطروحة النهضة الذي تضاعفت آثاره بعد فشل النموذج الإخواني في مصر الذي كان ينتظر منه أن يفتح أفقا جديدا للإخوان المسلمين على طريق تثبيت الحلم- الوهم: إقامة الخلافة الإسلامية كما نطقها مرة، وبشكل صريح الأمين العام لحركة النهضة حمادي الجبالي، وهو يتهيأ لرئاسة النسخة الأولى لحركة النهضة حيث خاطب جمهوره بالقول "يا إخوانى أنتم الآن أمام لحظة تاريخية، أمام لحظة ربانية فى دورة حضارية جديدة إن شاء الله، فى الخلافة الراشدة السادسة إن شاء الله".
2ـ أما الاستنتاج الثاني فيهم ما يمكن أن نستخلصه كمدلول لانتصار حركة نداء تونس في هذه التشريعيات.
ولفهم هذا المدلول لا بد أن نستحضر طبيعة نداء تونس ومكوناته التي تتألف من الأسماء التي شاركت في الشأن السياسي أيام الحبيب بورقية وزين العابدين دون أن تتورط، في ملفات الفساد والتعذيب كما يرى ذلك أنصار هذه الحركة. وإلى جانب هؤلاء انضم لفيف هام من المعتقلين السابقين ورجال الأعمال، ومن نقابيين واشتراكيين وليبراليين... وبهذا الخصوص يمكن القول إن تمكن هذا الائتلاف من امتلاك المكانة الأولى قد يفسر على أنه عقاب للنهضة ولباقي مكونات الترويكا (حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي) التي حكمت تونس منذ انتخاب المجلس الوطني التأسيسي. كما قد يعتبر نوعا من الاختيار البراغماتي للناخب التونسي الذي يأمل وضعا آخر غير أفق النهضة الذي سقطت شعاراته الطهرانية المتمثلة في تخليق الحياة العامة، ومحاربة الفساد، وبتحسين شروط معيش المواطن التونسي. ومع ذلك، فالنتائج لا ترسم المشهد كاملا، ذلك أن التحدي السياسي الثقادم هو تمكن النخبة الحزبية من تشكيل حكومة تضمن الاستقرار السياسي وتحقق نوعا من الارتياح المجتمعي. وهذا أمر سابق لأوانه في انتظار أن يشرع المعنيون في تشكيل الحكومة، وفي انتظار الاستحقاق الرئاسي في نونبر القادم، حيث سيتم انتخاب رئيس جديد ليكتمل بذلك البناء الدستوري.
تبقى تفاصيل التحالفات المنتظرة، وبهذا الخصوص نجد أمام حركة نداء تونس خيارين: إما التحالف مع حركة النهضة، وهو خيار يضمن التماسك العددي داخل قبة البرلمان بكل تأكيد، لكنه يظل هشا نظرا للتباعد السياسي والفكري والنفسي بين الطرفين، أو البحث عن حلفاء في الفسيفساء المتناثرة داخل الأحزاب الأخرى. وهو ما سيتيح المجال للنهضة لتشكل معارضة قوية، فيما يتحدث بعض المحللين عن إمكانية تبني خيار ثالث: تشكيل حكومة ائتلاف من كل أطياف المشهد السياسي اعتمادا على برنامج نهوض وطني.
لا شيء محسوم مادامت كل الأطراف تترك الأبواب، لحد الآن، مفتوحة أمام كل الاحتمالات. لكن المؤكد أن خطوة قد تحققت باتجاه إنضاج مرحلة الانتقال الديمقراطي، وفي إطار ذلك يظل السؤال المطروح: هل تقتنع النهضة فعليا باختيار الشعب، وتمارس الديمقراطية فكرا وسلوكا، وتشارك بفعالية سواء إلى جانب نداء تونس، أو من موقع المعارضة؟ أمام أنها ستبحث عن كل المبررات لقلب الطاولة، كما هو دأب نظرائهم المصريين؟
مصير تونس الديمقراطي لا يزال في طور البناء، والديمقراطيون في البلدان المغاربية، وفي كل العالم يأملون أن تنتصر الديمقراطية على كل الخيارات التراجيدية الأخرى، لأن انتصار تونس إذا اكتمل قد يعيد المصداقية لما يعرف ب"الربيع العربي"، ويجدد نجاح التحول الديموقراطي في البلد الذي انطلقت منه الثورة ضد الاستبداد والفساد، والاستفراد بالرأي الواحد.