كل من يتأمل النهايات المأساوية التي انتهت إليها الأزمة السورية، يجزم أن دولة اسمها سورية انتهت عمليا في الميدان الجغرافي للبلد. حيث تم توزيع تلك الجغرافية بين الأكراد والقوات الأمريكية والقوات التركية والجيش الحر السوري ومساحات ضيقة لداعش وجزء متبقى تتحكم فيه قوات بشار الأسد (أصبح يكتب في الإعلام الدولي "قوات الأسد" المرهونة لطهران وليس "الجيش السوري").
بالتالي سورية صارت "سوريات" إذا جاز هذا التعبير، وكل يغني على ليلاه، ولكل ترسانته التبريرية.
ولأن العقل يُغَيَّبُ في وضعيات مماثلة، خاصة حين يكون التجييش الإعلامي والإيديولوجي هو الصوت الأعلى، يكاد يختفي التحليل الهادئ الملموس للواقع الملموس في بلاد الشام.
بالتالي يحق للسؤال البسيط أن يطرح:
من أوصل الحال هناك إلى ما وصل إليه؟.بصيغة أدق:
ما هي الخطيئة السياسية الأصلية التي كانت السبب في ذلك؟.
هنا تجب العودة إلى البدايات، بدايات الحدث السوري منذ سنة 2011 (15 مارس)، حين انطلقت مظاهرات شعبية سليمة بالجنوب بمدينة درعة غير بعيد عن الحدود الأردنية وعلى مسافة خمسين كلمترا عن العاصمة دمشق، تطالب بإصلاحات سياسية ديمقراطية مؤسساتية.
كان رد الحكومة السورية والرئاسة السورية هو "التخوين" وإطلاق اليد لرد مسلح عنيف جدا نفذته جماعات محسوبة على النظام (الشهيرة ب "الشبيحة"). أدى بعد أسابيع إلى بروز جماعات مسلحة سورية (جزء منها من داخل الجيش السوري نفسه بخلفيات قبلية وطائفية)، حولت الأمور إلى ما يشبه حربا أهلية فتحت الباب مشرعا لدخول قوات أجنبية متعددة الأجندات: روسية وأمريكية وقطرية وإيرانية وتركية عبر أدوات كردية وإخوانية وفاغنرية وقاعدية وداعشية ... إلخ. فتحقق فعليا اختلاط الحابل بالنابل في بلاد الشام، الذي كانت نتيجته تهجير الملايين من السوريين داخل سورية وخارجها (باتجاه تركيا والأردن ولبنان). فولدت المأساة السورية..
لكن حتى وإن كان التاريخ لا يكتب ب "لو"، يحق السؤال المحلل أن يطرح هنا:
- ماذا لو اختار نظام بشار الأسد حينها بعد 15 مارس 2011، الحل السياسي عبر فتح باب الحوار مع المعارضة السورية الوطنية (التي كانت لها بنيتها التنظيمية حينها حتى وإن كانت ممنوعة ومعتقل جزء منها في السجون، التي فيها الإخواني واليساري والشيوعي والتقدمي) وتأمين الدولة، وطرح مقترحات لحلول سياسية دستورية وانتخابية لتحقيق انتقال سياسي ديمقراطي مؤسساتي. هل كان سيكون حال سورية مثلما هو حالها اليوم؟. مؤكد أن وحدة البلد والدولة ستظل متحققة.
إن الخلاصة التي سيسجلها التاريخ، فوق حسابات وتأويلات الجميع، هي أن الخطيئة الأصلية في المأساة السورية كانت في ما فعله "الشبيحة" في درعة ربيع سنة 2011، بقرار من النظام الحاكم ومؤسسته العسكرية الذي اختار التصعيد القمعي الدموي المسلح بدعوى حماية "طهرانية نضالية لنظام سياسي". والحال أن مصائر الأمم والشعوب لا تدار بالعنتريات والمزاج ومنطق التحدي ومزالق التخوين. مصائر الأمم تدار ب "فن الممكن" الذي هو روح السياسة. وأن أنجع السبل التي تكون أحيانا "صعبة البلع في حلق الحاكم" هي خيار "التوافق".
مؤسف أن يجزم المرء اليوم أن دولة إسمها "سورية" انتهت وإلى الأبد. لأن واقع التقسيم الجغرافي فيها تجبر أكبر مما يمكن فيه التوهم بعودة "الدولة".