تقرير تحليلي.. الإشكاليات والعراقيل التي تواجه الجالية المغربية بالخارج

تقرير تحليلي.. الإشكاليات والعراقيل التي تواجه الجالية المغربية بالخارج صورة أرشيفية

تعد الجالية المغربية المقيمة بالخارج امتدادا طبيعيا للمجتمع المغربي، حيث يبلغ عدد المغاربة المقيمين بالخارج المسجلين لدى شبكة قنصليات المملكة حوالي 5.1 مليون وتتميز بتركيبة ديموغرافية شابة تعكس حيوية ودينامية هذه الفئة، إذ يشكل الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و39 سنة، حوالي 60%من مغاربة العالم، بينما تقل نسبة الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 60 سنة عن 4%هذا التركيب السكاني يجعل الجالية المغربية قوة فاعلة قادرة على الإسهام في مختلف مجالات التنمية الوطنية وتعزيز الحضور المغربي على الساحة الدولية.

ووفقًا لورقة بحثية صادرة عن مركز الحياة لتنمية المجتمع المدني ومرصد العمل الحكومي، تحت عنوان "الجالية المغربية بالخارج: ركيزة وطنية لتعزيز التنمية المستدامة ورابط حضاري بين المغرب والعالم"، تشكل هذه الجالية جسراً يربط بين المغرب ودول الإقامة، حيث تلعب دورًا استراتيجيًا في دعم الاقتصاد الوطني والدفاع عن القضايا الوطنية.

 

تتجلى أهمية الجالية المغربية في دعم مختلف المجالات، بدءا من الاقتصاد الذي تستفيد منه المملكة عبر تحويلات مالية ضخمة واستثمارات مباشرة، مرورا بالمجال الاجتماعي حيث تساهم في تحسين ظروف العيش للأسر المغربية عبر الدعم المالي والمبادرات الخيرية، وصولا إلى المجال السياسي من خلال الدفاع عن القضايا الوطنية وتعزيز صورة المغرب دوليا، كما تعد الجالية المغربية سفيرا ثقافيا مهمًا، إذ تعمل على الترويج للثقافة المغربية والحفاظ على الهوية الوطنية في بلدان المهجر.

في هذا الإطار، يتناول الجزء الأول من التقرير تحليلا شاملا لمساهمة الجالية المغربية في مختلف المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، والثقافية، والرياضية، مع تسليط الضوء على الفرص والتحديات التي تواجهها، بما يعكس مكانتها كفاعل استراتيجي في تعزيز التنمية الوطنية وتقوية الروابط مع الوطن الأم.

1-تحويلات مالية ضخمة:

تعد التحويلات المالية للجالية المغربية المقيمة بالخارج أحد الدعائم الأساسية للاقتصاد الوطني، حيث تلعب دورا حيويا في تعزيز التوازن المالي للمملكة وتوفير مصدر رئيسي للعملة الصعبة، وقد شهدت هذه التحويلات تطورا ملحوظا خلال السنوات الأخيرة، إذ ارتفعت من 60 مليار درهم في عام 2019 إلى 115.3 مليار درهم في عام 2023، مع توقعات ببلوغها 120 مليار درهم في عام 2024.

هذا النمو يعكس قوة الروابط التي تجمع المغاربة بالخارج بوطنهم، ويؤكد التزامهم بالمساهمة في استقرار الاقتصاد الوطني، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية التي أثرت على تدفق التحويلات في العديد من البلدان الأخرى، وتساهم هذه التحويلات بما يزيد عن 7% من الناتج الداخلي الخام، الاستثمارات المباشرة:

 

رغم الارتفاع الملحوظ في قيمة تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، إلا أن توزيع هذه التحويلات واستغلالها يعاني من اختلالات كبيرة فيما يتعلق بخلق القيمة المضافة وتعزيز الاستثمار، فحسب المعطيات الرسمية، لا تتجاوز نسبة الأموال المخصصة للاستثمار 10%من مجموع هذه التحويلات، بينما يخصص 60%لدعم الأسر، و30%على شكل ادخار.

 

وبالمقارنة مع دول إفريقية تشهد زخما مشابها في الهجرة مثل نيجيريا وكينيا، تبدو النسبة المخصصة للاستثمار في المغرب أقل بكثير، ففي نيجيريا توجه45%من تحويلات مواطنيها المقيمين بالخارج للاستثمار، بينما تصل النسبة إلى 35%في كينيا، حيث يظهر هذا التفاوت حاجة المغرب إلى تطوير آليات مبتكرة لتحفيز استثمار التحويلات المالية في قطاعات منتجة تسهم في خلق فرص العمل وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام  .

-2المساهم في موارد الابناك المغربية:

تشكّل تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج أحد المصادر الأساسية للموارد المالية في النظام البنكي المغربي، حيث تمثل حوالي 20% من الموارد التي تجمعها البنوك، حيث تعكس هذه النسبة الكبيرة اعتماد القطاع البنكي على التدفقات المالية من الخارج، التي توفر سيولة مهمة تستخدم في تمويل المشاريع الاقتصادية وتلبية احتياجات الأسر والمقاولات ، كما تساهم هذه التحويلات في تعزيز استقرار النظام المالي، وزيادة قدرة البنوك على تقديم القروض والخدمات المالية، مما يدعم الدينامية الاقتصادية للمملكة، ما يجعل من الدور الاستراتيجي لتحويلات الجالية المغربية بالخارج عاملا محوريا في استدامة القطاع البنكي وتعزيز دوره في التنمية الوطنية.

 

-3دعم السياحة:

تعتبر الجالية المغربية المقيمة بالخارج من بين الفاعلين الرئيسيين في دعم القطاع السياحي بالمغرب، حيث يساهم أفرادها بشكل كبير في تنشيط السياحة الداخلية خلال فترة عودتهم إلى الوطن، لا سيما في إطار عملية "مرحبا"، حيث بلغ عدد المغاربة المقيمين بالخارج الذين دخلوا إلى المغرب خلال الفترة من 5 يونيو إلى 15 شتنبر 2024 حوالي 3.76 مليون شخص، مما يعكس حجم الزخم السياحي الذي يساهمون في خلقه.

4-دعم الوحدة الترابية للمملكة:

تعد الجالية المغربية المقيمة بالخارج قوة فعالة في الدفاع عن الوحدة الترابية وقضية الصحراء المغربية، إذ تلعب دورا محوريا في تعزيز الموقف الوطني على الساحة الدولية، والتصدي للأطروحات الانفصالية التي تستهدف المس بمصالح المغرب، حيث تساهم بفضل انتشارها في أكثر من 100 دولة من مختلف أنحاء العالم، بشكل مستمر في توضيح الحقائق التاريخية والقانونية المتعلقة بالقضية الوطنية، مستندة إلى وعي عميق بعدالة الموقف المغربي واستراتيجية متكاملة تجمع بين العمل الفردي والجماعي        .

تقوم الجالية المغربية بجهود جبارة للتصدي للأطروحات الانفصالية،من خلال تنظيم ندوات ومؤتمرات دولية، تبرز الجالية مشروعية قضية الصحراء المغربية وتعزز الموقف المغربي عبر الاعتماد على أدلة تاريخية وقانونية دامغة، كما أن انخراط المغاربة المقيمين بالخارج في وسائل الإعلام والتواصل مع الرأي العام في دول الإقامة يسهم في تصحيح المغالطات ونقل الرواية المغربية التي تدافع عن مقترح الحكم الذاتي كحل واقعي ومنصف للنزاع.

وتبرز أهمية الجمعيات المغربية بالخارج، التي يصل عددها إلى الآلاف، في لعب دور محوري كأداة تنظيمية توحد جهود المغاربة في المهجر، تساهم في تعزيز الهوية الوطنية وترسيخ الشعور بالانتماء، ما يجعل أفراد الجالية أكثر حماسا للدفاع عن قضايا الوطن، إضافة إلى ذلك، تعمل الجمعيات على تنظيم حملات دولية للتعريف بعدالة قضية الصحراء المغربية، من خلال تقديم مذكرات وبيانات رسمية للمؤسسات الدولية والمشاركة في الفعاليات الأممية، فضلا عن خلق شراكات استراتيجية مع منظمات أجنبية داعمة للمغرب.

5-دعم الرياضة المغربية:

تلعب الجالية المغربية المقيمة بالخارج دورًا محوريًا في تطوير المجال الرياضي بالمغرب، حيث ساهمت بشكل ملحوظ في تعزيز حضور المغرب على الساحة الرياضية العالمية عبر أكثر من 15 صنف رياضي، من كرة القدم إلى التنس، ومن الملاكمة إلى الكيك-بوكسينغ والسباحة والجودو والرياضات الجليدية وغيرها من الأصناف الرياضة الأخرى، أثبت أبناء الجالية المغربية تفوقهم الرياضي ونجاحهم في تمثيل وطنهم الأم بأفضل صورة.

لا يقتصر تأثير أبناء الجالية على مشاركتهم في المنتخبات الوطنية فقط، بل يمتد إلى تطوير الرياضة في المغرب عبر نقل تجاربهم وخبراتهم الاحترافية، كما يسهم العديد منهم في دعم البنية التحتية الرياضية داخل البلاد، سواء من خلال إقامة أكاديميات رياضية، أو تنظيم دورات تدريبية، أو توفير دعم مادي وتقني للنهوض بالرياضة الوطنية، وهو ما يجعل من الجالية المغربية بالخارج جزءا لا يتجزأ من النسيج الرياضي الوطني، حيث تعكس التفوق الرياضي المغربي في الساحات العالمية، وتجسد قيم التضامن والانتماء التي تربط المغاربة بوطنهم الأم.

 

6-الكفاءات والأطر:

تزخر الجالية المغربية المقيمة بالخارج بكفاءات وأطر عالية التأهيل في مختلف المجالات، والتي اختار عدد من أبنائها العودة إلى المغرب للمساهمة في مساره التنموي، حيث أثبتوا قدرتهم على تقديم قيمة مضافة كبيرة، سواء من خلال الاستثمار في قطاعات حيوية، أو عبر شغل مناصب مسؤولية في مجالات تقنية وإدارية استراتيجية.

فأبناء الجالية يساهمون اليوم في تعزيز القدرات الوطنية عبر استثمار خبراتهم ومعارفهم المكتسبة في الخارج في قطاعات اقتصادية هامة مثل الصناعة، التكنولوجيا، الفلاحة، والسياحة، هذا بالإضافة تمكن العديد منهم من الولوج إلى مناصب المسؤولية العليا، حيث أصبحوا برلمانيين، وزراء، ومديرين عامين في مؤسسات وطنية وإدارات استراتيجية.

يتوفر المغرب على خزان كبير من الكفاءات بين صفوف أبناء الجالية المغربية المقيمة بالخارج، مما يشكل ثروة بشرية هائلة يمكن استثمارها لدفع عجلة التنمية الوطنية، حيث تضم هذه الكفاءات نخبة من العلماء، المهندسين، التقنيين، وأصحاب الاختصاصات المعقدة في مجالات استراتيجية مثل الطب، الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، والهندسة الصناعية، وهو ما يجعلها مؤهلة للمساهمة بفعالية في سد الفجوات التقنية وتطوير القطاعات الحيوية التي يحتاجها المغرب.

 

الإشكاليات والعراقيل التي تواجه الجالية المقيمة بالخارج

رغم الإمكانيات الكبيرة التي تمتلكها الجالية المغربية المقيمة بالخارج، والتي تجعلها فاعلا محوريا في التنمية الاقتصادية للمغرب، إلا أن استثماراتها لا تزال تعاني من إشكاليات عميقة تحول دون تحقيق مساهمة نوعية ومؤثرة في الحركية الاستثمارية الوطنية، حيث لا تتجاوز نسبة التحويلات المخصصة للاستثمار 10 في المئة، هذه الإشكاليات لا ترتبط بغياب الإمكانيات، بل بنقص في الرؤية والآليات المناسبة التي تعيق استثمار هذا الخزان الكبير من الطاقات الاقتصادية.

غياب رؤية استثمارية شاملة وموجهة

من أبرز التحديات التي تواجه مغاربة العالم في مجال الاستثمار هو غياب رؤية استراتيجية شاملة ومندمجة تستهدف إدماجهم بفعالية في النسيج الاستثماري الوطني، فرغم الإمكانات الهائلة التي يمثلها مغاربة العالم، إلا أن هناك نقصا واضحا في السياسات الموجهة خصيصا لاستقطاب استثماراتهم بشكل منظم ومدروس، حيث يتمثل هذا القصور في غياب خطة واضحة تحدد القطاعات الاقتصادية ذات الأولوية التي يمكن أن تشكل محركا للنمو، فضلا عن غياب خريطة استثمارية تستعرض الفرص الواعدة في المناطق التي تعاني من التهميش أو التي تحتاج إلى دعم أكبر لتحقيق التنمية المستدامة.

يؤدي هذا النقص إلى تشتت جهود واستثمارات الجالية، حيث يجد المغاربة المقيمون في الخارج أنفسهم أمام خيارات غير مهيكلة وغير مدروسة، مما يجعل استثماراتهم غالبا عشوائية أو مقتصرة على قطاعات تقليدية كالخدمات والعقار، بدلا من استهداف قطاعات ذات قيمة مضافة عالية مثل التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، أو الصناعة التحويليةكما أن هذا الغياب لرؤية استراتيجية يضعف فرص توجيه هذه الطاقات نحو المشاريع التي تساهم في خلق فرص عمل مستدامة وتطوير البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب.

ضعف آليات التمويل والدعم

رغم الأهمية الكبيرة التي تحظى بها آليات التمويل في تحفيز استثمارات مغاربة العالم ودعمها، إلا أن الأدوات المتوفرة حاليًا تبدو محدودة وغير قادرة على الاستجابة لتطلعات هذه الفئة المهمة. على سبيل المثال، صندوقMDMInvest، الذي أنشئ خصيصا لدعم مشاريع مغاربة العالم، لم يتمكن من تحقيق تأثير ملموس على أرض الواقع، فمنذ إطلاقه في عام 2002 وحتى عام 2022، لم يتجاوز عدد المشاريع التي دعمها 48 مشروعا فقط، وهو رقم يعكس بوضوح محدودية نطاق تأثيره مقارنة بالإمكانات الاستثمارية الهائلة للجالية المغربية.

 

إلى جانب ذلك، يعاني المغرب من غياب صناديق تمويل أخرى مخصصة لدعم استثمارات الجالية، مما يبرز افتقار السياسات العمومية إلى رؤية متكاملة لتعبئة الإمكانات الاستثمارية الكبيرة التي تملكها الجالية، حيث يجعل هذا النقص الخيارات التمويلية محدودة للغاية، علما ان أغلب المستثمرين من مغاربة العالم يعتمدون على إمكانياتهم الذاتية أو على قروض بنكية مكلفة وغير موجهة خصيصا لدعم مشاريعهم.

كما تعاني المشاريع الاستثمارية التي تنطلق بمبادرة من مغاربة العالم من ضعف مواكبة الأبناك الوطنية، سواء من حيث تقديم التسهيلات المالية أو الدعم التقني اللازم، فالعديد من الابناك تفتقر إلى منتجات وخدمات مخصصة لتلبية احتياجات هذه الفئة، كما أن الإجراءات البنكية غالبا ما تكون معقدة وبطيئة، وهو ما يزيد من صعوبة تنفيذ المشاريع، خاصة بالنسبة للمستثمرين المقيمين بالخارج الذين لا يستطيعون متابعة الإجراءات بشكل مباشر.

غياب بنك مشاريع مخصص

يفتقر المغرب إلى بنك مشاريع موجه خصيصا لمغاربة العالم، يقدم رؤية شاملة ومنظمة حول الفرص الاستثمارية المتاحة في مختلف القطاعات والمناطق. هذا النقص يشكل عائقًا كبيرا أمام الجالية المغربية التي تبحث عن استثمارات تحقق لها عوائد مجزية وتسهم في تنمية الوطن. وجود بنك مشاريع مخصص كان سيتيح للمستثمرين إمكانية الوصول إلى معلومات محدثة ودقيقة حول القطاعات الواعدة، والمشاريع ذات الجدوى الاقتصادية، والاحتياجات التنموية على مستوى الجهات، مما يمكنهم من اتخاذ قرارات استثمارية مبنية على معطيات واضحة.

 

غياب هذه الأداة يجعل مغاربة العالم في كثير من الأحيان غير قادرين على تحديد الفرص الاستثمارية ذات القيمة المضافة العالية، ويدفعهم إلى التركيز على قطاعات تقليدية مثل العقار أو التجارة، بدلا من الانخراط في استثمارات استراتيجية تواكب التحولات الاقتصادية للمغرب وتساهم في خلق فرص شغل مستدامة، كما يؤدي هذا الغياب إلى تردد الكثير من المستثمرين في اتخاذ قرارات جريئة، نظرا لعدم وضوح الرؤية حول المخاطر والمزايا المرتبطة بمختلف المشاريع، مما يضيع على المغرب فرصة جذب استثمارات نوعية من الجالية.

تعقيد الإجراءات الإدارية ومحدودية اليات الرقمنة

تعقيد الإجراءات الإدارية يمثل أحد أبرز العوائق التي تواجه مغاربة العالم في مساعيهم للاستثمار بالمغرب، فغالبا ما تفرض على المستثمرين إجراءات طويلة ومعقدة، تتطلب تواجدهم الشخصي داخل البلاد لإتمامها، وهو أمر يشكل عبئا ماليا ولوجستيا كبيرا، فالعديد من مغاربة العالم يجدون أنفسهم مضطرين للقيام برحلات متكررة إلى المغرب لإنجاز المعاملات الإدارية، مما يستهلك الوقت والجهد، ويؤدي في كثير من الأحيان إلى فقدان الحماس لمواصلة الاستثمار أو تأجيله إلى أجل غير محدد.

ورغم التحولات التي شهدها المغرب في مجال الرقمنة، إلا أن البنية الرقمية الموجهة خصيصا لمغاربة العالم ما زالت محدودة وغير كافية لتلبية احتياجاتهم الخاصة، فمعظم المنصات الإلكترونية المتوفرة لا توفر حلوًا شاملة تتيح للمستثمرين المغاربة بالخارج إمكانية مباشرة إجراءاتهم الإدارية أو متابعة مشاريعهم عن بعد، كما أن العديد من الخدمات الرقمية المتوفرة تفتقر إلى التكامل بين مختلف المؤسسات، مما يخلق حلقات مفقودة تزيد من تعقيد المساطر وتعطل التنفيذ السريع للمشاريع.

هذا النقص في البنية الرقمية لا يحرم مغاربة العالم فقط من فرصة إدارة استثماراتهم بفعالية، بل يعكس أيضا غياب اهتمام كاف بخصوصياتهم كمستثمرين يعيشون خارج البلاد، إضافة إلى ذلك، فإن ضعف التواصل بين المؤسسات الإدارية ومغاربة العالم يزيد من تعقيد الوضع، حيث يجد المستثمرون صعوبة في الحصول على المعلومات اللازمة أو التعامل مع التعقيدات البيروقراطية.

غياب تمثيليات استثمارية في بلدان الإقامة

احدى الإشكاليات الكبرى التي تعيق استثمارات مغاربة العالم هي غياب مؤسسات وطنية متخصصة في الاستثمار في بلدان المهجر، تكون مهمتها تقديم المشورة، تسهيل الإجراءات، وتوجيه المستثمرين المغاربة نحو الفرص الاستثمارية الواعدة في المغرب. هذا النقص الواضح في التمثيليات الاقتصادية بالخارج يخلق فجوة كبيرة بين الجالية المغربية والنسيج الاقتصادي الوطني، مما يؤدي إلى تراجع انخراطهم في الدينامية الاستثمارية للبلاد.

 

إن غياب مؤسسات مخصصة لدعم المستثمرين من مغاربة العالم ينعكس سلبًا على قدرتهم على فهم التعقيدات الإدارية، الوصول إلى المعلومات حول الفرص المتاحة، أو حتى التنسيق مع المؤسسات الحكومية داخل المغرب، وفي ظل هذا الغياب يواجه العديد من أفراد الجالية تحديات تتعلق بصعوبة الحصول على استشارات موثوقة حول القطاعات المناسبة للاستثمار، أو توجيهات حول الإجراءات القانونية والتنظيمية التي يجب اتباعها.

 

هذا الوضع لا يحرم الجالية المغربية فقط من فرصة الاستثمار بشكل فعال، بل يحد أيضا من قدرة المغرب على استقطاب رؤوس الأموال والخبرات التي يحملها هؤلاء المغاربة المقيمون بالخارج، كما أن غياب هذه المؤسسات يؤدي إلى فقدان فرصة بناء شراكات اقتصادية استراتيجية بين الجالية والمؤسسات الوطنية، مما يضعف إمكانيات الترويج للاستثمار في المغرب على المستوى الدولي.

نقص الحوافز الضريبية والبيئة المحفزة

بالإضافة إلى العقبات الإدارية التي تواجه مغاربة العالم، يبرز غياب واضح للحوافز الموجهة خصيصا لهم كمستثمرين، مما يفقد الاقتصاد المغربي فرصة استقطاب استثمارات واعدة من الجالية، فلا توجد حزمة متكاملة من التحفيزات الضريبية التي تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتهم كجالية مقيمة في الخارج .

 

ضعف التمثيلية السياسية

تعاني المشاركة السياسية لمغاربة العالم من عدة اختلالات تمتد إلى تمثيليتهم في المؤسسات الوطنية وتأثيرهم في السياسات العمومية، ما يكرس ضعف ارتباطهم السياسي بالوطن. فعلى الرغم من إنشاء مجلس الجالية المغربية بالخارج كهيئة استشارية تهدف إلى تمثيل مصالح الجالية، إلا أن أثره يظل محدودا، سواء في ضمان تمثيلية حقيقية لهذه الفئة أو في إحداث تأثير فعلي في صياغة السياسات الوطنية، فهذا المجلس الذي كان ينتظر منه أن يكون قناة رئيسية لنقل صوت الجالية، يعاني من غياب الاستمرارية والفاعلية، حيث بقي دوره استشاريا بحتا وغير قادر على تحويل توصياته إلى قرارات ملموسة تؤثر في القضايا الكبرى التي تمس الجالية.

 

إلى جانب ذلك، يلاحظ الغياب شبه التام لمغاربة العالم عن مؤسسات الحكامة الوطنية، مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ومؤسسات مكافحة الفساد، والهيئات المعنية بالتنمية المستدامة، مما يفاقم من التهميش السياسي لهذه الفئة، فهذا الغياب لا يعكس فقط نقص الإرادة في إشراكهم بفعالية، بل يساهم أيضا في إضعاف مشاركتهم في صياغة السياسات العامة التي تمسهم بشكل مباشر.

ورغم الإجراءات المحدودة، مثل تخصيص مقاعد داخل البرلمان عبر اللائحة النسائية الجهوية، إلا أن هذه الجهود لا تلبي التطلعات الحقيقية للجالية في بناء علاقة سياسية متينة مع الوطن، فغيابهم عن مواقع اتخاذ القرار والمؤسسات الحيوية لا يعكس مساهمتهم الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة، بل يخلق شعورا متزايدا بالتهميش.

  1. إشكاليات الاستقبال

يواجه استقبال الجالية المغربية المقيمة في الخارج إشكاليات متعددة تعيق تحسين تجربتهم وضمان تواصلهم الدائم مع الوطن، ورغم أن المغرب ينظم سنويًا عملية "مرحبا"، التي تعد من أكبر عمليات استقبال الجاليات في العالم، حيث تشمل مواكبة المغاربة خلال العبور وتقديم خدمات متنوعة، إلا أن هذه العملية لا تخلو من تحديات تؤثر على جودتها وفعاليتها.

 

أحد أبرز الإشكاليات يتمثل في غياب أسطول نقل بحري وطني قوي، مما يجعل المغرب معتمدا بشكل شبه كلي على الشركات الأجنبية التي تتحكم في الأسعار والجداول الزمنية، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف العبور عبر البحر، ما يثقل كاهل الأسر المغربية التي تسعى لزيارة وطنها، كما أن المغاربة المقيمين في أمريكا الشمالية يواجهون تحديات إضافية تتمثل في ارتفاع تكاليف السفر الجوي، بسبب غياب عروض تنافسية وأسعار مخفضة، مما يحد من زياراتهم ويفقد المغرب فرصة الاستفادة من عائدات مهمة مرتبطة بالسياحة والاستثمار.

إلى جانب ذلك، تعاني إجراءات الاستقبال في الموانئ والمطارات من تعقيد المساطر الجمركية أحيانا، مما يخلق حالة من الإحباط لدى المسافرين بسبب طوابير الانتظار الطويلة، وهو مايعكس نقصا في التنسيق والفعالية، حيث تثار شكاوى حول نقص التجهيزات وغياب الفعالية في إدارة التدفق الكبير للمسافرين، خاصة خلال ذروة الموسم الصيفي.

 

يضاف إلى ذلك تحدي جودة الخدمات المقدمة، حيث يلاحظ غياب مرافقة شاملة للجالية خاصة فيما يتعلق بالتدخل السريع لحل المشاكل الطارئة، ورغم الجهود المبذولة لتحسين العملية، فإن هذه الإشكاليات تبرز الحاجة إلى إصلاح جذري يركز على تطوير البنى التحتية، إنشاء أسطول نقل بحري وطني، مراجعة تكاليف السفر، وتبسيط الإجراءات الجمركية لتكون أكثر انسيابية، فهذه الخطوات ضرورية لتعزيز علاقة مغاربة العالم بوطنهم الأم وإبراز الوجه الحضاري للمغرب في مواكبة جاليته.

  1. الخدمات القنصلية المقدمة للجالية المغربية والإشكاليات المرتبطة بها

تعتبر الخدمات القنصلية المقدمة لمغاربة العالم محورا أساسيفي تعزيز الروابط بين الجالية ووطنها الأم، حيث تشمل هذه الخدمات إصدار الوثائق الرسمية مثل جوازات السفر وبطاقات الهوية الوطنية، تسجيل الولادات والوفيات، توثيق العقود، والمساعدة القانونية والإدارية، ما يمكنها من توفير خدمات تسهل على الجالية الحفاظ على صلاتهم القانونية والإدارية بالمغرب.

 

ومع ذلك، تواجه هذه الخدمات عدة إشكاليات تؤثر على جودتها واستجابتها لاحتياجات الجالية، من أبرزها قلة الموارد البشرية والمادية مقارنة بحجم الطلب المتزايد، وصعوبة التواصل بين القنصليات والمواطنين بسبب محدودية مواعيد الاستقبال أو ضعف المنصات الرقمية، كما يشتكي البعض من تعقيد المساطر الإدارية، وطول أوقات الانتظار، وغياب الترجمة للغات المحلية في البلدان المستضيفة، مما يشكل عائقا أمام شريحة كبيرة من الجالية.

 

إضافة إلى ذلك، فإن عدد القنصليات المغربية والذي يصل الى ما يقارب 125 قنصلية عبر العالم، يظل غير كاف بالنظر إلى حجم الجالية الذي يفوق 5 ملايين فرد موزعين على أكثر من بلد حول العالم، كما أن بعد بعض المراكز القنصلية عن العديد من فئات الجالية، خاصة في الدول ذات المساحات الجغرافية الشاسعة، يزيد من صعوبة الوصول إلى الخدمات القنصلية ويثقل كاهل المواطنين من حيث التكلفة والوقت.

  1. التأطير الثقافي والرياضي للجالية المغربية: التحديات وضعف المساهمة

تعد الثقافة والرياضة من الركائز الأساسية لتعزيز الانتماء الوطني وتقوية الهوية لدى الجالية المغربية المقيمة بالخارج، خاصة في ظل تنامي تأثير الثقافات المحلية للدول المضيفة، غير أن التأطير الثقافي والرياضي الذي تقدمه المؤسسات المغربية لهذه الفئة لا يزال يعاني من عدة تحديات وضعف في المساهمة.

 

من أبرز الإشكاليات التي تواجه الجالية في هذا الصدد غياب برامج شاملة ومستدامة لتعليم اللغة العربية والدارجة المغربية، إلى جانب قلة وموسمية الأنشطة الثقافية التي تعكس التراث المغربي، كما أن المراكز الثقافية المغربية في الخارج تظل محدودة العدد، ما يجعلها غير قادرة على تغطية حاجيات الجالية المنتشرة في دول متعددة.

 

أما على المستوى الرياضي، فتواجه الجالية المغربية نقصًا كبيرًا في المبادرات الموجهة لدعم وتأطير المواهب الشابة، إذ يلاحظ غياب شبه تام لبرامج ممنهجة تهدف إلى اكتشاف هذه المواهب وتطوير قدراتها، سواء من خلال إنشاء أندية رياضية خاصة بأبناء الجالية أو عبر تنظيم مسابقات ومبادرات تربطهم ببلدهم الأصلي، حيث يؤدي هذا الغياب إلى اندماج عدد كبير من المواهب في البنى الرياضية للدول المضيفة، مما يعزز انقطاع الصلة بينهم وبين الهوية الوطنية المغربية، ويضيع كذلك العديد من الفرص للاستفادة من الإمكانيات الهائلة التي يمتلكها هؤلاء الشباب، سواء في الألعاب الفردية أو الجماعية، بما يمكن أن يشكل إضافة نوعية للرياضة الوطنية.

  1. إشكاليات البيروقراطية الإدارية والفساد:

تواجه الجالية المغربية صعوبات كبيرة مع البيروقراطية الإدارية عند قضاء مصالحها داخل أرض الوطن، وهي إشكالية تتسم بتعقيد المساطر الإدارية، وتعدد الوثائق المطلوبة، وتكرار الإجراءات بين مختلف الإدارات، فضلا عن غياب التنسيق بينها، حيث تجعل هذه العقبات من إتمام المعاملات تجربة مرهقة ومكلفة على الصعيدين المادي والزماني، وتؤثر سلبا على العلاقة بين الجالية والمؤسسات الوطنية، حيث يترسخ لدى العديد منهم شعور بالإحباط والبعد عن الإدارة المغربية، التي من المفترض أن تسهل ارتباطهم بوطنهم الأم.

 

إضافة إلى ذلك، تتعرض الجالية بشكل خاص لممارسات الفساد مثل الرشوة واستغلال النفوذ، نتيجة لغياب الوضوح في الإجراءات وضعف الرقابة، حيث يعاني أفراد الجالية أحيانا من التمييز غير المعلن، حيث ينظر إليهم على أنهم فئة قادرة على دفع تكاليف إضافية غير قانونية لإنجاز خدماتهم بشكل أسرع، وهو ما يضعف ثقة الجالية في المؤسسات، ويزيد من إحساسهم بعدم الإنصاف مقارنة بباقي المواطنين.

 

وتزداد حدة هذه التحديات خلال فصل الصيف، الذي يشهد عودة مكثفة لأفراد الجالية لقضاء عطلتهم السنوية، ورغم أهمية هذه الفترة اقتصاديا واجتماعيا للمغرب، فإن الإدارات المغربية غالبا ما تفشل في التكيف مع هذا التدفق الكبير، سواء من حيث توفير الموارد البشرية المؤهلة أو تحسين البنية التحتية الإدارية.