ليس من المجازفة في شيء أن يعمل المغرب على إخراج ملف الصحراء المغربية من المنطقة الرمادية، والاجتهاد في سحبه من اللجنة الرابعة للأمم المتحدة، خاصة أن "الحل النهائي" بدأ يكشف تدريجيا عن كتفيه ورقبته، مع ارتفاع عدد الدول بالاتحاد الأوربي التي اقتنعت بوجاهة مقترح الحكم الذاتي إلى 19 دولة، وليصل عدد الدول التي تؤيد هذا المقترح، حتى الآن، إلى أكثر من 110 دول في العالم.
لقد انتظر المغرب طويلا، وبصبر كبير، أن تخرج الأمم المتحدة من الغمغمة الخافتة التي تنهجها حيال الملف، وأن تتخلى عن ألطافها الزائدة تجاه ضجيج الجزائر، وتورطها المباشر في المس بالوحدة الترابية للمغرب، التي لم تعد تنطلي على أحد. غير أن إصرارها على إبقاء الملف رهينة الأمواج يقتضي عدم الإفراط في الصبر، والاتجاه نحو حلول أخرى لا تقع بمعزل عن التأييد الدولي.
لقد عمر هذا الملف لعقود بين أسوار الأمم المتحدة، ومر من مطبات عديدة كان خصوم الوحدة الترابية للمغرب يغدقون على صانعيها الغالي والنفيس لإتمام توسعهم وإشباع شهوتهم للنفاذ إلى المحيط الأطلسي؛ فمنذ 1963، والمغرب يحاول أن يمتلئ بالشرعية الدولية لاسترجاع أراضيه، إذ وضع ملف الصحراء باللجنة الأممية لتصفية الاستعمار، بعد قبول إسبانيا «القوة المستعمرة» بإدراج إقليم الصحراء وسيدي إفني ضمن قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، وتسوية النزاع وفق المبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة، وهي «المفاوضات والوساطة والتحقيق؛ التحكيم الدولي؛ التسوية القضائية». وقد انتهى هذا المنحى باسترجاع المغرب لسيدي إفني عام 1969 وبانسحاب إسبانيا من الصحراء، في نونبر 1975، وفقا لما تنص عليه اتفاقية مدريد بين كل من اسبانيا والمغرب وموريتانيا، ووفق المطلب المغربي الذي توج بإطلاق المسيرة الخضراء، خاصة أن الجزائر نزلت بكل ثقلها، من أجل الحيلولة دون استرجاع المغرب لاسترجاعه، ولم تتوقف عن وضع العصا في العجلة باصطناع كيان وهمي «البوليساريو» وتسليحه وتمويله ورعايته وتسمينه، بل تدليسه على المنظمات الدولية والتجمعات القارية والإقليمية، والإنابة عنه في تقديم «المظلمات»، وهو ما نجحت فيه إفريقيا حين «اشتغلت» الكواليس من أجل ضم الكيان الوهمي إلى منظمة الوحدة الإفريقية، مما فرض على المغرب الانسحاب من المنظمة التي كان واحدا من أبرز مؤسسيها، والعمل على نقل ملف الصحراء سنة 1985 من المنظمة الإفريقية إلى منظمة الأمم المتحدة للنظر حصرا في هذا الملف، وتجنبا لازدواجية القرارات الصادرة عن المنظمتين، خاصة مع اشتداد التوتر بين أطراف النزاع، الأمر الذي فرض على الأمم المتحدة التقدم بمتقرحات لتسوية القضية سنة 1991، مع إنشاء بعثة أممية «المينورسو»، وتوقيع اتفاق إطلاق النار.
ومنذ ذلك توالى المبعوثون الأمميون، وتوالى معها إمعان الجزائر في معاكسة حق المغرب في استرجاع صحرائه، بل أصبحت قضية الصحراء هي الفلك الذي تدور حوله ديبلوماسية الكراغلة وجيشهم وسياستهم الخارجية. وكان الشغل الشاغل لهم هو استنزاف المغرب سياسيا واقتصاديا وعسكريا وإرغامه على الرضوخ لأطماعهم التوسعية، ولو كان ذلك بفرض خيار التقسيم. ومع ذلك، ظل المغرب صلبا في الدفاع عن أراضيه مسنودا بإجماع وطني. في عام 2007 تقدم المغرب بمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وأمضى حوالي 11 سنة في بذل الجهود من أجل إقناع المنتدى الدولي بوجاهة هذا المقترح الذي حاز منذ 2018 على ثقة مجلس الأمن الذي بدأ في تحديد أوصاف هذا الحل السياسي الذي جعله توافقيا وواقعيا وعمليا. بل انضم إلى تأييد المقترح، في السنتين الأخيرتين، القوتان الاستعماريتان السابقتان «إسبانيا وفرنسا»، وهما الممسكتان بالكثير من أسرار وخفايا هذا الملف، وهو الانجاز الذي اعتبره العديد من المراقبين إيذانا بالتسوية النهائية للملف، وهزيمة مدوية لراعية البوليساريو. في هذا السياق الذي يحمل الكثير من المستجدات على مستوى التأييد الدولي، يرى مراقبون أن الانقلاب الأساس الذي ينبغي القيام به لتسريع وتيرة التسوية هو سحب الملف من اللجنة الرابعة للأمم المتحدة، وذلك بالنظر إلى الحقائق التالية:
أولا :اللجنة الرابعة تنظر في قضايا مختلفة تشمل إنهاء الاستعمار، وآثار الإشعاع النووي، والقضايا المتصلة بالإعلام، واستعراض شامل لعمليات حفظ السلام، فضلا عن استعراض البعثات السياسية الخاصة، ووكالة الأونروا، وتقرير اللجنة الخاصة بالممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، والتعاون الدولي في الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي.
ثانيا: لا تسلط الأضواء في اللجنة الرابعة إلا على ملف الصحراء، والحال أن هناك العديد من الملفات المتصلة حقيقة بتصفية الاستعمار معروضة على أنظارها دون أن يسمع لها ذكر وتهم دولا عظمى مازالت تحتل عددا من الأقاليم والجزر، علما أن الصحراء امتداد جغرافي وتاريخي للمملكة، بينما الملفات الأخرى، التي تطرحها فرنسا أو بريطانيا أو إسبانيا أو أمريكا، تهم مستعمرات سابقة تفصلها عنها محيطات وآلاف الأميال. وهو ما يؤكد أن المغرب يتعرض لابتزاز منظم.
ثالثا :مجلس الأمن، وهو الأصل في الأمم المتحدة «باقي اللجن والهياكل مجرد فروع»، هو الجهاز الأقوى والحاسم فضلا عن كونه يعترف بمشروعية بالحكم الذاتي المغربي بوصفه مبادرة جدية تتسم بالمصداقية.
رابعا :البوليساريو تمردت على اتفاق وقف إطلاق النار، وأعلنت الدخول في حالة حرب بإشراف واضح من الجزائر، الأمر الذي يضع الأمم المتحدة أمام مسؤولياتها في تفكيك ترسانة الإرهاب التي تعمل تحت إمرة ومسؤولية الجزائر، وانطلاقا من أراضيها، وإلا ما هي مهمة المينورسو إن لم يكن هو الإشراف على احترام وقف النار في المنطقة؟
خامسا :الجزائر ترفض حضور مناقشات الموائد المستديرة، وتصر على أنها ليست طرفا في نزاع الصحراء، علما أن الجميع بات متأكدا ألا وجود للبوليساريو دون محضنة الجزائر بتندوف، وألا صوت لهذه الجماعة إلا ما يمليه عليهم عسكر قصر المرادية. كما أن الجزائر ترفض إجراء إحصاء للموجودين بمخيمات تندوف على أراضيها حتى لا يعرف المنتظم الدول لمن يبعث المساعدات وما عدد المستفيدين منها، وهل هم صحراويون أم ماليون أم جزائريون أم مرتزقة آفاقيين!
سادسا :فشل جميع المبعوثين الأمميين (7 مبعوثين) في تسوية النزاع المفتعل، واصطدامهم بتعنت الجزائر التي تهدد بتحويل المنطقة إلى محرقة كلما تأكد لديها أنها آيلة للانهزام، وهو ما يقتضي البحث بسرعة عن ديناميكيات دولية أخرى تتصل بإعلان نهاية المسار الأممي، خاصة مع الدعم الدولي الواسع للمقترح المغربي.
سابعا: الانتقال إلى تنفيذ المشروع المغربي في الصحراء على أرض الواقع، ما دامت الجزائر تعرقل مبادئ الميثاق الأممي، وما دام الملف عالقا على مدى 33 عاما في مرحلة التحقيقات والمداولات، الأمر الذي يعني إطلاق حملة دولية لإنهاء احتجاز المغاربة الصحراويين الرهائن في مخيمات تندوف، وتهيئ ظروف عودتهم والاندماج في الحياة العامة بالأقاليم الجنوبية، وتمكينهم من وسائل الإدارة وتدبير الشأن العام. وقبل ذلك دعوة الأمم المتحدة إلى وضع شقف زمني لعودة المحتجزين أو بقائهم في الجزائر، حسب اختيارهم.
كل المؤشرات، إذن، تؤكد أن الانتقال إلى «التغيير» في ملف الصحراء المغربية، كما جاء في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية، يبدأ أساسا من بوابة سحب الملف من اللجنة الرابعة بتنسيق تام مع الأمين العام للأمم المتحدة، فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا «الدائمتي العضوية في مجلس الأمن»، إضافة إلى باقي الدول العظمى أو الدول المؤثرة في القرار الدولي، والانكباب على ترسيخ سيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية، وتكريس السيادة بوصفها واقعا ملموسا وحقيقة لا رجعة فيها، بل الشروع في تنفيذ الحل الواقعي والعملي والموضوعي «مقترح الحكم الذاتي»، وتنزيله وأجرأته على أرض الواقع، ولعل هذا ما ذهب إليه السفير ووزير حقوق الإنسان السابق محمد أوجار، حين اعتبر، في لقاء احتضنته مؤسسة الفقيه التطواني بسلا قبل أسبوع «الاثنين 11 نونبر 2024»، أن «بقاء هذا الملف أمام هذه اللجنة الرابعة غير مبرر، لأن تصفية الاستعمار تمت منذ المسيرة الخضراء وموضوع السيادة الوطنية على هذه الأقاليم محسوم، حيث إن النزاع والتوتر الإقليمي هو مع الجزائر».
لقد بات من المؤكد أن التغيير الذي تحدث عنه ملك البلاد يقتضي الخروج من التدبير والانتظارية أمام ألاعيب الكراغلة ومخططاتهم الاستنزافية، والانتقال إلى الحسم والحزم، والقطع على نحو لا رجعة فيه مع الأطروحات القديمة، خاصة أن المغرب سيظل في صحرائه والصحراء في مغربها، إلى أن يرث لله الأرض ومن عليها.
تفاصيل أوفى تجدونها في أسبوعية "الوطن الآن"