نظم مؤخرا مختبر الدراسات السياسية والحكامة الترابية التابع لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية المحمدية، ندوة وطنية بشراكة مع المديرية العامة لهندسة المياه - وزارة التجهيز والماء، حول موضوع: "التشريع المائي بالمغرب: الواقع والتحديات".
استعرضت هذه الندوة واقع التشريعات المائية في المغرب من منظور متعدد الأبعاد شمل الجوانب القانونية، الاقتصادية، الاجتماعية، والتاريخية، بهدف بلورة توصيات يمكن أن تساهم في التغلب على تحديات تدبير المياه.
على هامش هذه الندوة، أجرت "الوطن الآن" حوارا مع عبد الحي الغربة، أستاذ باحث بكلية الحقوق المحمدية.
لماذا الحاجة أصبحت ملحة إلى سياسة مائية مستعجلة؟
الحاجة إلى سياسة مائية مستعجلة تجد سندها في السياقات والرهانات والتحديات التي يعرفها العالم وسيعرفها في المستقبل، وبالتالي فالحاجة إلى سياسة مائية لابد وأن ترتكز على بعد الابتكار والاستشراف والتوقع ضمانا لحق الأجيال القادمة في الماء. باعتباره عنصرا أساسيا وحيويا في الحياة الكريمة والتنمية المستدامة.
في مقابل ذلك، شكل توالي سنوات الجفاف وندرة المياه إشكالات كبيرة وآثارا خطيرا عنوانها البارز الاستمرار المضطرد والمتزايد للإجهاد المائي، وامتصاصا خطيرا للفرشة المائية واستنزافا لها.
وباعتبار الماء حقا وملكا مشتركا لعموم البشرية جمعاء، فقد انتبهت الدول وتواترت الجهود الدولية والإقليمية، وخاصة الثورة الصناعية، وإلى غاية منتصف الثمانينات من التمدن الماضي لأجل تحقيق نمو اقتصادي وصناعي معتمدة في ذلك على الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية. على حساب البيئة، ومهددة بذلك عناصرها الاساسية ومنها العنصر البشري والثروة المائية.
كما أكدث الأبحاث العلمية بما يدع مجالاً للشك أن انبعاثات الغازات الدفينة في الغلاف الجوي الناجمة عن فعل الإنسان، أدت الى ارتفاع حصة ثاني أكسيد الكربون التي بلغت مستويات قياسية من الغلاف الجوي، والتي أدت بدورها لارتفاع معدل درجة حرارة الأرض نتيجة لظاهرة الاحتباس الحراري.
وبالتالي، فموضوع الحق في الماء أصبح يسائل منظومة حقوق الانسان برمتها، على أساس حق كل فرد في المجتمع في الحصول على كمية من الماء، تكون كافية ومأمونة ومقبولة، لأجل العيش بكرامة زيادة على اعتبار هذه المادة الحيوية شرطا ضروريا للتمتع بكافة الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقيات والتشريعات المعتبرة في هذا الصدد وبالتالي لابد من مقاربة شمولية ومندمجة تستحضر.
التجارب الفضلى والنماذج التنموية المثلى لأجل مواجهة إشكالية الإجهاد المائي من منظور فعلية الحق في الماء، والتفكير في المداخيل الممكنة لتجاوز هذه الإشكالية وتبني استراتيجيات وإجراءات عاجلة.
يعتبر الإجهاد المائي ظاهرة عالمية، إذ أصبحت جل الدول تقر بتداعياته إلى أي حد تشكل المرجعيات الدولية والوطنية مدخلا للحد من إشكالاته، وضمانا للحق في الماء؟
لا شك أن الحق في الماء أخذ مشروعيته من خلال الاتفاقيات والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، وخصوصا ًالمادتان 11 و12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذا مقتضيات المادة 14 من ميثاق القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وايضاً ما ورد في المادة 5 من اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 161 المتعلقة بخدمات الصحة المهنية، وكذا اتفاقية حقوق الطفل لاسيما المادتين 24 و72، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في مادتها .28
هذا زيادة على التقارير والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ولجانها، والتي تقر جميعها على y اعتبار الحق في الماء حق من حقوق الإنسان. كما يعتبر الحق في الحصول على المياه والصرف الصحي هدفا من الأهداف الذي تسعى خطة التنمية المستدامة لعام 2030 لتحقيقه في إطار الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة، حيث يعتبر المغرب منخرط وملتزم بتنزيل أهداف التنمية المستدامة 2030، وخصوصا الهدف السادس الذي يسعى إلى ضمان التوافر والإدارة المستدامة للمياه والصرف الصحي للجميع .
وفي هذا الصدد عمد دستور المملكة لسنة 2011 على التنصيص في الفصل 31 على التنصيص على أن تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تهيئة وتيسير جميع الوسائل المتاحة للمواطنين والمواطنات في الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة. وأيضا الفصل 35 من الدستور الذي نص على أن الدولة تضمن حرية المبادرة والمقاولة والتنافس الحر، كما توصل على تحقيق تنمية بشرية مستدامة من شأنها تعزيز العدالة الاجتماعية والحفاظ على الثروات الطبيعية الوطنية وعلى حقوق الأجيال القادمة.
كما لا يمكن إغفال التجربة التشريعية الهامة التي تحظى بها بلادنا في مجال تكريس الحماية اللازمة للماء. آخرها القانون 36.15 المعدل للقانون 12.99 وكذا قوانين أخرى لا تقل أهمية كقانون 17.03 المتعلق بمحاربة التلوث والقانون 22.07 المتعلق بالمناطق المحمية والقانون 12.03 المتعلق بدراسات التأثير على البيئة، والقانون 28.00 المتعلقة بتدبير النفايات والتخلص منها. والقانون 11.03 المتعلق بحماية واستصلاح البيئة. ناهيك عن بعض الأحكام والمقتضيات المتفرقة في بعض القوانين الخاصة كالقانون الجنائي، ومرسوم الصفقات العمومية لسنة 2023 والدفاتر الملحقة به.
وتجدر الإشارة أن السياسة المائية في مجال الماء لا تقتصر فقط على سن التشريعات والانخراط في المواثيق الدولية والإقليمية ذات الصلة، حيث تم إحداث مجالس وهيآت دستورية تساهم هي الأخرى بآرائها الاستشارية وتقاريرها الدورية والموضوعاتية في تكريس الحماية والمساهمة في رسم وصنع سیاسات عمومية مائية، لكن ما يلاحظ بشأن كل هذه الاستراتيجيات والسياسات ورغم أهميتها إلا أن إشكالية الإجهاد المائي لا زالت قائمة، لأن إشکالیة تدبير الماء تكتسي طابع التعقد والتداخل بحيث لا تقبل المعالجة التقنية الصرفة ولا تحل بمجرد انجازات جزئية منفصلة، وإنما تستدعي مقاربة شمولية قوامها التبصر والموازنة بین الإمكانات المتاحة للعرض دون تفريط والحدود المعقولة للطلب دون إفراط.
ما العمل للخروج من إشكالية استمرار الإجهاد المائي رغم السياسات والبرامج المعتمدة رسميا؟
برأيي، لا يمكن إنكار ما يتم إنجازه على كافة الأصعدة تشريعياً ومؤسساتيا وماليا، إلا أنه لابد من الانتباه لبعض الأمور التي أعتقد أنها ذات أهمية بالغة بالنظر لطبيعة النقاش المطروح وراهنيته "المسألة المائية وإشكالية الإجهاد المائي" فالموضوع له امتدادات تاريخية وثقافية، وحقوقية ومالية وتقنية، وكل هذه الابعاد ترخي بظلالها على حاضر ومستقبل السياسات العمومية المائية.
إذ إن المفارقة الآن المسجلة هو أنه رغم الجفاف المتواصل والذي خيم على المملكة منذ أزيد من 6 سنوات على التوالي، ورغم ازدياد المؤشرات المتعلقة بندرة المياه، إلا أن المجلس الأعلى للماء والمناخ لم يشرع في ممارسة مهامه طبقا لمقتضيات المادة 79 من قانو 36.15 المتعلق بالماء، رغم أن المرسوم المحدث للمجلس حدد تركيبته واختصاصاته وعمل لجنته الدائمة.
زيادة على أهمية الدور الاقتراحي لهذا المجلس، وبالتالي يطرح سؤال الإرادة السياسية والمسؤولية المجتمعية وحتى التاريخية، حول الأسباب والدوافع من وراء عدم إخراج هذا المجلس لحد الآن لحيز الوجود. تكريسا للحماية المؤسساتية وضمانا للأمن المائي ومحاربة للإجهاد المائي الذي تتعرض له بلادنا، لا سيما واستمرار ارتفاع الأصوات الاكاديمية والمدنية والحقوقية المطالبة بضرورة وقف هذا النزيف وتمتيع هذا المجلس بالإمكانات المادية والبشرية واللوجيسيكية للاضطلاع بمهامه، مع العلم أن هناك لوبيات تستفيد من هذا الوضع، وخصوصاً في القطاع الفلاحي، والذي يعتبر بدوره من أكثر المتضررين من هذا الوضع.