فما الذي أقصده بعنوان هذه المقالة؟ قبل الجواب عن هذا السؤال، من الضروري والمهم أن يتمَّ التَّمييزُ بين الدين religion والتَّدين religiosité.
الدين، كما هو متعارفٌ عليه، عبارة عن مجموعة من المعتقدات croyances ومن العقائد (جمع عقيدة) dogmes التي يؤمن بها الناسُ لتنظيم علاقاتهم مع ما يعتبرونه مقدسا أو ما يعتبرونه إلَهِياً divin. والدين، سماويا كان، أي منزَّلٌ من عند الله، أو وضعِياً، أي من صُنعٍ بشري، له مُمارساتُه ses pratiques وله طقوسُه ses rites.
والدين، كمجموعة من المعتقدات والعقائد، إما أن يتمَّ الإيمانُ la foi به، وإما أن يتمَّ تفنِيدُه أو دحضُه. وإذا آمن به الناس، فإنهم يؤمنون، في نفس الوقت، بما يصاحبُه من معتقدات وعقائد. حينها، ينتقل المؤمنُ بالدين من الإيمان إلى المُمارسة la pratique، أي من الإدراك إلى تطبيق الدين على أرض الواقع. وتطبيق الدين على أرض الواقع هو التَّديُّن. والتَّديُّن أمر شخصي، وما دام هذا الأخيرُ، أي التَّدين، شخصياً، فإنه، حتما، يختلف من شخصٍ إلى آخر. لماذا؟
أولاً، لأن الانتقالَ من الإيمان ،فكرياً، إلى التَّطبيق (الممارسة) له علاقة وطيدة بمستوى إدراك الدين كمجموعةٍ من المعتقدات والعقائد. كل متديِّنٍ يدرك الدينَ حسب مؤهلاته الفكرية والثقافية، علماً أن المُتديِّنَ لا يملك، ولو أدنى دليل، يبيِّن به، بلا مُنازع، أن ما آمن به من معتقدات وعقائد تستجيب لتطلُّعاته الإنسانية. فما عليه إلا أن يُؤمنَ بهذه المعتقدات والعقائد أو لا يؤمن بها. بمعنى أنه مطالب بأن يصدِّقَ هذه المعتقدات والعقائد أو لا يصدِّقها. والقرآن الكريم، أي الوحي المُنزَّل على الرسول محمد (ص) لنشر الإسلام، في جميع سُوره، حافل بالآيات التي تبيِّن مَن هم المصدِّقون (المؤمنون) ومَن هم غير المصدِّقين ( الكافرون والمشركون).
ثانياً، الأغلبية الساحقة من المُتدينين، سواءً كانوا مسلمين أو يهودأً أو مسيحيين أو مُتديِّنين وضعيين، مُتديِّنون بالتوارث. بمعنى أنهم ورثوا التَّدينَ عن آبائهم وأمهاتهم. أي أن البنات والأبناء، رأوا آباءَهم وأمهاتِهم يمارسون طقوسَ العبادة، فقلَّدوهم بطريقة تكاد تكون عمياء، وخصوصا، إذا كان الآباء والأمهات أمِّيين، وهم أنفسُهم متديِّنون بالتوارث. وعندما أقول "فقلَّدوهم بطريقة تكاد تكون عمياء"، فالمقصود هو أن الأولويةَ تُعطَى للتقليد وليس للتعمُّق في إدراك ماهية الدين. وتوارث التَّديُّن هو السبب الرئيسي في تنوُّع الأديان وتساكنها عبر العالم.
والدليل على أن الدينَ، كيفما كان مصدره، يُتَوَارَثُ بين الأجيال، قولُه، سبحانه وتعالى : "بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (الزخرف، 22). أمة، في هذه الآية، تعني الدين. أو قولُه، سبحانه وتعالى : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (المائدة، 104). هاتان الآيتان تُبيِّنان بوضوحٍ أن الدينَ متوارثٌ بين الأجيال.
غير أن التَّديُّنَ، إذا كان مُتوارثاً بين الأجيال، فلهذا التّوارث سببٌ رئيسي متمثِّلٍ في كون الإنسان، منذ الأزمنة الغابرة، له ميولٌ إلى الدين كوسيلة يُطمئِن بها نفسَه ويحميها من الشرور. بل الإنسان، منذ القِدم، كان يلجأ للدين لحماية نفسِه من مصائب الدنيا. ومن هذا المنطلق، جاء تعدُّدُ الآلهة polythéisme الذي كان سائدا في الحضارات الجِد قديمة كالحضارات الفارسية، المصرية، اليونانية، الرومانية…
كل هذه الحضارات القديمة جعلت لكل مظهر aspect من مظاهر الحياة إلاَهاً خاصا به. كما جعلت لكل ظاهرة phénomène من الظواهر الطبيعية إلهاً خاصا بها. فمثلاً، بالنسبة للحضارة الفارسية، هناك إلاهٌ للنور وإلاهٌ للظلام، أي إلاهٌ للخير وإلاهٌ للشر. وكِلاهما يوجدان في صراعٍ دائم لتنظيم حياة الناس. أما بالنسبة للحضارة المصرية، فهناك الآلهة الكونيون والإقلميون والمحلِّيون، كما كان للمصريين الفراعنة آلِهة خاصين بالظواهر الطبيعية وبالموت وبكل ما هو غير ملموس…أما بالنسبة للحضارة اليونانية، فهناك إلهان يُعتبران إلهان لكل الآلِهَة، وهما زوس Zeus ومارس Mars. وعن هذين الإلهين، تمخَّضت آلِهةٌ كثيرة، منها آلِهة الحب والعنف والرياح والبحر والحرب والسماء والمناخ والرعد والصواعق والخصوبة والحِكمة…
وتعدُّدُ الآلهة هو عبارة عن تعدُّدِ الأديان التي، عوض أن تستمدَّ وجودها من وحيٍ سماوي، فإنها عبارة عن تصوُّرات أو تمثُّلات اجتماعية représentations sociales تعتمد، في وجودِها، على الأساطير أوالخرافات les mythes. والأساطير أو الخرافات ليست إلا مجموعة من المعتقدات croyances والتَّمثُّلات الجماعية المِثالية représentations collectives idéales تُحاكُ حول شخصيةٍ personnage ما أو ظاهرةٍ phénomène ما. والأهم هوأن هذه الأساطير تجعل من هذه الشخصية أو الظاهرة محلَّ تقديرٍ أو تقديس، إن لم نقل مصدرَ قوة فوقطبيعية puissance surnaturelle.
انطلاقا من الاعتبارات السابقة، يتَّضح أن لكل دينٍ تديُّنُ خاص به. وهذا التَّديُّن هو الذي ينتقل من جيلٍ إلى آخر عبر الوراثة والتَّقليد. كما يتَّضح أن الإنسان مُتشبِّثٌ بالدين كوسيلة نفسية وروحية comme un moyen psychologique et spirituel يتوخَّى من خلاله راحةَ النفس والبال. والتَّشبُّثُ بالدين، كوسيلة نفسية وروحية، يعني أن هذا التَّشبُّثَ نابعُ من أعماق النفس البشرية، أو إن شئنا، التَّديٌّن أمرٌ مجبولةٌ عليه النفس البشرية، أي أن الميولَ إلى التَّديُّن أمرٌ فِطريٌّ، سواءُ كان الدين سماوياً أو وضعِياً.
فلما بدأت الرسائل السماوية في الظهور، نفت تعدُّدَ الأديان الوضعية وتعدُّدَ الآلهة، كما نفت كلَّ الأساطير والخرافات التي صاحبت الأديان الوضعية وما ترتَّبَ عنها من تمثُّلات مثالية. وأهم ما جاءت به الأديان السماوية هو وحدانية الله unicité de Dieu و وجودُه بمعزلٍ عن الزمان والمكان son existence indépendamment du temps et de l'espace.
والآن، حان الوقتُ للإجابة عن السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة : "هل بإمكاننا الحديثُ عن التَّدينِ عن جهلٍ أو هل التَّديُّن مُكتسبٌ اجتماعي أم ميولٌ إنساني فِطري؟
الجواب : أولا، التَّديُّن ليس مكتسباً اجتماعيا ما دام التَّديُّن، أي طريقة تطبيق الدين على أرض الواقع، تختلف من شخص إلى آخر. أما الحديث عن التَّدين عن جهلٍ، فالمقصود منه هو أن المتديِّنَ اكتفى بتقليد تديُّنِ الآباء والأمهات ولم يُكلِّف نفسَه عناءَ التَّعمُّق في المفاهيم الدينية. أما مُيولُ النفس البشرية للتَّديُّن، فهذا شيءٌ أكَّده القرآن الكريم.