ثمّة مسألة بالغة الأهمية صارت اليوم تسيء إلى "النظام العام" المجتمعي العربي ـ والمغربي ـ وهي التغيرات التي لحقت المركب الهوياتي، كنتيجة حتمية مترتبة عن تدوير النظام العالمي الجديد، وتبث ما لا يدع مجالا للشك أن المركب الهوياتي فشل في التوفيق بين التعددية والتنوع والتحول الافتراضي. وإذا كانت التناقضات جزء ملازم لكل مرحلة من التاريخ البشري والتناسق "هو مرتع العقول البليدة"، فإن الكوارث المحدقة بالعالم نتيجة للغزو والقهر التكنولوجيين، تجبرنا على التفكير في المنظومة القيمية المشتركة المشكِّلة للهوية المعاصرة، والتي صارت تنبني على صراع فاقد الضمير والمعيار الأخلاقيين، بالإضافة إلى الانفعالية الزائدة المحمومة بشعبوية غير مسؤولة مما يزيد من تضخيم هذه الصراعات ويَسوقُها إلى العنف والتفكك.
سياق هذا الكلام هو الشقاق الافتراضي بين هويتين "عربية وأمازيغية"، نتيجة لانفعالية افتراضية زائدة، على منصات التواصل ووسائل الإعلام الرقمية في المغرب. والغريب في هذا الشقاق هو "المثير" الذي يشعل فتيل الصراع، (ويمكن أن نسميه بالتغذية الاسترجاعية)، مثل: إعادة إحياء "نكات قذرة" هامشية أو أمثال شفهية تحمل أحكاما عرقية، فيها بعض من معايير العنصرية والتحقير، تسربت من الأفراد إلى الجماعات إلى المتخيل الجمعي، ثم إلى الحياة الافتراضية. قبل الافتراضي كانت هذه الصور النمطية " stéréotypes" خارج اهتمامات الفرد ونوازعه الأخلاقية، وهو ما بنى معايير قيمية جامعة.
يجبرنا هذا الصراع الافتراضي على إعادة التفكير في هوية المغاربة؛ فمن حيث سيرورة التاريخ عرف مكون الهوية، تطاحنات، من أجل الحفاظ على الجماعة ونقائها، وأن بعض القراءات ترى أن أسباب الصراع إما نتاج لفقر اجتماعي أو تمرد سياسي، أو صراع قبلي أدى إلى بناء نسق من التفكير التقليدي المغربي المؤسس على "العصبية القبلية" الخلدونية (نسبة إلى ابن خلدون). وإعادة إحيائه اليوم، بعنف، يدل على أن العقل الحداثي لم يكن فعالا في بناء هوية مغربية مركبة ومتمايزة.
لقد كانت هذه "النكات في الأعراض والهويات" أسلوبا ساخراً في الحياة المحلية والتجمعات المغلقة والمفتوحة مثل "فن الحلقة"؛ وكرستها بعض الأمثال الشعبية والسرديات الشفهية كصراع هامشي كانت تشنّه جماعة ما ضد الأخرى التي تقف على حافة الدفة الأخرى: أمازيغية، عربية، أفريقية، يهودية.."، فتناقلتها ذاكرة الأجيال الشفهية عبر الزمن، مما ساهم في بناء متخيل جمعي ساخر (يتغذى من أشكال تعبيرية شفهية، تصنف ضمن "السخرية القبيحة" وموضوعها "الأدنياء من القوم")، واتخذت ألواناً متعددة: (دينية: اليهودي المداهن والبخيل والمسلم، وعِرقية: الشلح والعربي، واجتماعية: العْرُوبي والمْديني) على المستوى المحلي. أما على المستوى العالمي فنجد كثيرا من "النكات " الساخرة المثيرة للتهكم والمنوّهة بالعبقرية الشريرة التي يتميز بها المغربي (وليس الأمازيغي أو العربي/العروبي) على نظيره الأمريكي والفرنسي.
لكن ما يثير الاستغراب، اليوم، هو أن هذا المتخيل الموروث صار محملاً بتأويلات أحاطته بالشكوك وشبهات "العنصرية" المجردة من التلاحم الذي كان من سمات المغاربة، وهو ما يعني أن المتخيل الهوياتي أصابه الضعف نتيجة الذهنية الجديدة التي تبنيها العوالم الافتراضية في لاوعي الأفراد، ويفسّر حقيقة العلاقة الجديدة التي أصبحت عليها الجماعات داخل المغرب؛ وهي علاقة تقوم على العداء واستغلال المواقف البسيطة وتحويلها إلى رأي عام افتراضي يثير الكثير من اللغط والعجيج، ويصرف الحقد والضغينة، وهو منطق راديكالي افتراضي يهدف إلى تفتيت الهوية الحضارية للمغاربة، بتكريس إيديولوجية الضعف، والبؤس البشري، والرغبة المتأججة في الثأر، مما قد يساهم في الاحتقان والإرهاب الاجتماعيين: "فالإرهاب هو سلاح من نزع منهم السلاح على نحو جمعي، إنّه قوة من جرى تعجيزهم على نحو فردي" (باومان).
إن المركب الهوياتي المغربي يتعرض، اليوم، إلى ضغوط افتراضية، فالمحتجون على قول تافه، ل"صانع محتوى مباشر" online streamer "، دون فهم سياقه هو معيار دال على مؤشرين: الأول يحيل إلى الجهل ب"المفاهيم الافتراضية" للمجتمع الافتراضي ونجومه، والآخر يوميء إلى أن المفهوم التقليدي للهوية تحول إلى "محتوى" أو سلعة تدار بها حركية المنصات الافتراضية و"التجمعات السياسيوية والجمعوية الواقعية"؛ لغايات وأهداف ملغومة، وهذا المنطق التحويلي بائس، لأنه يزيد من الحقد والضغينة والتفكك والصراع؛ يتجلى ذلك بشكل أوضح في نسبة التعاطف التي زادت بشكل كبير على منصات التواصل الافتراضية، وقسمت المغاربة بين مؤيدٍ ومعارضٍ ومعادٍ ومتعاطفٍ ومنتقمٍ ومنحازٍ ومستغلٍ. وهو ما يكشف حقيقة الوعي البئيس الذي تبنيه العوالم الافتراضية، وتكشف حقيقته في الصدامات.
ويزيد الطين بلة "المتفيهقون في الافتراض" الذين يجدون راحتهم في التعميمات الإيديولوجية الهوياتية، وهم يفحصون الجزئيات التاريخية والقصص الفردية، وهو ما سيبني نسقا هوياتيا يتميز بالهشاشة والضعف ويدفع أصحابه إلى خلق الخصوم، وتزيده تلك "المحتويات" جرعة من وقود الاشتعال.
إن تشخيص الهوية المغربية لا يكمن في تفتيتها، ومحاسبة جانب من متخيلها الجمعي المرذول، بمحتوى تدار به المنصات الافتراضية، وإنّما الأمر أبعد من ذلك، يكمن في التشخيص السليم الذي يفسر أسباب المرض الهوياتي، ومساعدة المريض على أن يعرف أسباب مرضه، حتى لا يأتي غريب وينخر جرحه، وإذا كنا فعلاً نود أن نفهم الهوية المغربية ينبغي البحث في القيم الأصيلة التي تؤسس كينونتها نتيجة لمتخيل موروث، ومغربل من القيم المرذولة، والبحث أيضاً في تناقضات الثقافة المغربية أو بالأحرى تلك المعركة التي تتصارع فيها المعايير الإنسانية والأخلاقية والاقتصادية، (السلوك، المعاملات)، وسنفهم بشكل أفضل لماذا كان يتحد المغاربة (مثلا الظهير البربري)، ولماذا يحسنون الظن في بعضهم بعضا حتى وهم يسمعون ويستمتعون بهذه النكات القذرة، والتي تنم عن "تنافر ثقافي"، يعتبره المحتجون قصورا وإهانة وعنصرية، وهو في الحقيقة، أمر ثمين ينم عن التعايش بين الاثنيات العرقية والدينية والقيم المتناقضة "فلو كان الناس غير قادرين على التشبث بمعتقدات وقيم متناقضة، فلربما كان من المستحيل تأسيس أي ثقافة بشرية والحفاظ عليها" (يوهال نوح هراري).
ولذلك، فإثارة مسألة الهوية، بشكل أحادي سلبي، وبعقل افتراضي تجاري هش ويحبذ الصراع، في رأي "فرويد" هو مجرد نغز على كبت متسرب من عبارات مسكوكة عرفها المغاربة منذ زمن بعيد، وهذا الكبت غالبا ما كان يحدث الهزل والضحك والتفكه، وصنفه أرسطو ضمن "الملهاة". "فموضوع الملهاة هو الممكن الذي لم يقع فعلا، وهو ما يؤلف نظائره في واقع الحياة اليومية، على حين موضوع المأساة هو الفعل النبيل، الأولى تمثل القبح أو النقيصة، فمثلها هزلي معيب، والثانية بطلها محبوب عظيم يقع فريسة خطأ لا يدل على لؤم. وبطل الملهاة من عامة الناس، وبطل المأساة أرستوقرطي النزعة"(غنيمي هلال).
وعليه، نؤكد أن هذه الضجة الافتراضية، ذات الطابع الهوياتي، تدل على أن الهوية المغربية تعيد إحياء حراكها الداخلي وتناقضاتها الموروثة بعنف، هذه التناقضات صارت تشكل وقودا للاشتعال والانفعال، بقوة تأثير من خارجها وهي قوة الحراك الشعبي الافتراضي؛ حيث إنها نقلت الهوية من المحلية إلى الاختبار الافتراضي، ثم محاكمة مرذولها الموروث: افتراضيا وواقعيا؛ أي الانتقال من التقييم الافتراضي إلى التقويم القانوني.