العميد البحيري يقدم قراءته في الدلالات القانونية والسياسية للخطاب الملكي بمناسبة تخليد الذكرى 49 للمسيرة الخضراء (الجزء الأول)

العميد البحيري يقدم قراءته في الدلالات القانونية والسياسية للخطاب الملكي بمناسبة تخليد الذكرى 49 للمسيرة الخضراء (الجزء الأول) العميد يوسف البحيري أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق بمراكش

تضمن خطاب للملك محمد السادس، بمناسبة تخليد الذكرى 49 للمسيرة الخضراء، مجموعة من الأبعاد القانونية والسياسية، تتجلى في تشبث المواطنين في الصحراء بمغربيتهم، وتعلقهم بمقدسات الأمة في إطار روابط البيعة، القائمة عبر التاريخ بين سكان الصحراء وملوك المغرب،  وترسيخ المملكة المغربية لسيادته بناء على الحق والشرعية والنهضة التنموية والأمن والاستقرار، كما توقف الملك عند الاعتراف الدولي المتزايد بمغربية الصحراء، والدعم الواسع لمبادرة الحكم الذاتي، وبموازاة مع هذا الوضع الشرعي والطبيعي، هناك عالم آخر، منفصل عن الحقيقة، ما زال يعيش على أوهام الماضي، ويتشبث بأطروحات تجاوزها الزمن مع رفض السماح بإحصاء المحتجزين بمخيمات تندوف، واحتجازهم  كرهائن، في ظروف غير إنسانية من الذل والإهانة، والحرمان من أبسط الحقوق والحريات. ولتقريب قراءنا من الأبعاد القانونية والسياسية التي جاءت في الخطاب الملكي، استضافت " أنفاس بريس" العميد يوسف البحيري أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق بمراكش، وأجرت معه هذا الحوار.

 

ماهي الدلالات القانونية والسياسية لحديث الملك محمد السادس في الخطاب عن السيادة المغربية القائمة على الحق والشرعية وعن روابط البيعة التي تجمع بين المواطنين في الأقاليم الصحراوية والملوك المغاربة؟

إن الشرعية ذات الأبعاد التاريخية والقانونية والسياسية التي تحدث عنها الملك محمد السادس في هذا الخطاب السامي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، تتجلى في تأكيد محكمة العدل الدولية كجهاز قضائي لدى هيئة الأمم المتحدة في الرأي الاستشاري لعام 1975على وجود علاقات البيعة كرابطة قانونية وشرعية تجمع الأقاليم الجنوبية بالسلاطين المغاربة عبر التاريخ. وهو حدث تاريخي وقانوني يتطلب من الأجيال المتعاقبة واجب التأمل والتدبر في معاني الشرعية التاريخية والقانونية لقضية الوحدة الترابية ودلالاتها السياسية العميقة واستلهام القيم والعبر منها، لمواجهة التحديات وكسب رهانات الحاضر والمستقبل المتعلقة بتنمية الاقاليم الجنوبية في إطار قوي ومتماسك.

فالمسيرة الخضراء، أبدعتها عبقرية المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، انطلقت فيها جماهير المتطوعين من كل فئات وشرائح المجتمع المغربي، ومن سائر ربوع الوطن في مثل هذا التاريخ من سنة 1975 في اتجاه واحد صوب الأقاليم الصحراوية لتحريرها من الاحتلال الإسباني، بقوة الإيمان وبأسلوب حضاري سلمي فريد من نوعه، أظهر للعالم صمود المغاربة وعزمهم وإصرارهم على إنهاء الوجود الاستعماري.

لقد طالب المغرب بحقوقه التاريخية في الصحراء المغربية، حيث تعرضت الجزائر على هذا المطلب تحت ذريعة حق انفصاليي البوليساريو في تقرير المصير. وبعدها تقدم المغرب بطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 23 شتنبر 1974 لإحالة ملف الصحراء المغربية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، الجهاز القضائي لدى الامم المتحدة، لتبدي رأيا استشاريا في قضية النزاع المغربي الجزائري حول الصحراء المغربية. وبعد أن وافقت الجمعية العامة على الطلب المغربي، أحالته على المحكمة الدولية المذكورة والتي عقدت 27 جلسة علنية من 25 يونيو لغاية 30 يوليوز 1975.  وأعلنت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري في 16 أكتوبر 1975 في 60 صفحة، بعد تفكير عميق وجاد تناول بالفحص ولتدقيق كل حيثيات الموضوع مرفقا بالكثير من الآراء الشخصية للقضاة وفيما يلي خلاصته:

بالنسبة السؤال الأول المتعلق هل هناك علاقة تاريخية بين الاقاليم الصحراوية والمغرب: غداة استعمارها من طرف إسبانيا والذي حددته المحكمة اعتبارا من سنة 1884 لم تكن الصحراء أرضا بلا سيد   terra nulius terre sans maître لأنها كانت مأهولة بسكان على الرغم من بداوتهم كانوا منظمين سياسيا واجتماعيا في قبائل تابعة لسلطة الدولة المغربية وأكدت المحكمة في هذا الباب وجود اتفاقيات مبرمة بين الدولة المغربية مع القبائل الصحراوية.

وبالنسبة للسؤال الثاني حول طبيعة الروابط القانونية التي كانت تربط الاقاليم الصحراوية و المملكة المغربية، فإن المحكمة حددت روابط البيعة بين هذه القبائل الصحراوية والسلطان المغربي وأوضحت المحكمة أنها تأخذ بعين الاعتبار:

أن المملكة المغربية لها روابط سيادية بالصحراء نابعة من حيازة تاريخية للإقليم.

أنها وضعت في الحسبان الهيكلة الخاصة للدولة المغربية في تلك الحقبة التاريخية (تعيين القادة، جباية الضرائب..) التي قدمها المغرب كإثبات لسيادته التاريخية على الصحراء، والمعاهدات والاتفاقيات والمراسلات الدبلوماسية) التي اعتبرها المغرب تأكيدا لاعتراف دولي من حكومات أخرى بتلك السيادة التاريخية، كما توصلت المحكمة إلى وجود علاقات تبعية (روحية، دينية) بين قبائل المنطقة والسلطان المغربي.

 

ما هي قراءتكم للقرار 2756 الأخير الصادر عن مجلس الأمن من زاوية القانون الدولي؟

أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الأسبوع الأخير، القرار 2756  المتعلق بقضية الصحراء المغربية، والذي يمدد ولاية بعثة الأمم المتحدة في الصحراء المغربية "المينورسو" لمدة سنة،  الذي صاغته الولايات المتحدة وتم تبني القرار بتصويت 12 دولة لصالحه هي فرنسا والولايات المتحدة، واليابان، والصين، والمملكة المتحدة، وكوريا الجنوبية، ومالطا، وغويانا، وسيراليون وسلوفينيا، وسويسرا والإكوادور، مقابل امتناع كل من روسيا وموزمبيق عن التصويت، بينما لم تشارك الجزائر في التصويت،  بسبب عدم موافقة مجلس الأمن على التعديلات التي تقدمت بها الجزائر لنص القرار الذي صاغته الولايات المتحدة،  قبل أن تتم عملية التصويت.

وأول ملاحظة أساسية يمكن تقديمها بشأن هذا القرار المتزن والعادل، الذي يتمم ويتكامل مع القرار 2703 هو أنه يحدد بشكل دقيق مسؤولية الجزائر كطرف مباشر في النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، ويلزمها بالدخول المباشر والواضح في المفاوضات السياسية والجلوس على طاولة المفاوضات مع المملكة المغربية.

ومن جانب ثان، يحمل القرار 2756 الجزائر المسؤولية السياسية والأخلاقية أمام المجتمع الدولي في البحث عن التسوية السلمية والنهائية لهذا النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية، والذي يعطل المسيرة التنموية والاقلاع الاقتصادي لمنطقة جنوب البحر الابيض المتوسط.

كما أن بيان القرار 2756  ذاته يحمل بين طياته دلالات عميقة، فهو يشير الى الجزائر في الصياغة النهائية بصفتها طرفا مباشرا في النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، وبالتالي فبيان القرار 2756 كسابقه    2703 هما بمثابة اعلان نهائي للأكاذيب والمناورات التي تختبئ وراءها الأطروحة الجزائرية التي ترددها في المحافل الدولية بأنه ليست لها أطماع اقتصادية وأهداف جيواستراتيجية  في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية وأن ما يهمها في الأمر هو الدفاع عن تقرير المصير الذي انتهى العمل به في السبعينات من القرن الماضي مع تصفية الاستعمار الاوروبي. فتقرير المصير يحمل طابعا ايديولوجيا خاصا، فهو يشكل ورقة تستغلها الجماعات الانفصالية لتهديد الاستقرار والوحدة السياسية للدول، لأن تطبيقه قد يشكل مساسا بسيادة وسلامة أقاليم الدول الأطراف. 

 

ما هي التداعيات القانونية والسياسية لمسالة الاعتراف الدولي المتزايد بمغربية الصحراء، والدعم الواسع لمبادرة الحكم الذاتي التي تحدث عنها الملك في الخطاب الملكي؟

على هامش القرار 2756 المتعلق بقضية الصحراء المغربية، أبانت أشغال مجلس الأمن عن التشبث بمشروعية الاقتراح المغربي المتعلق بالحكم الذاتي كحل سياسي لقضية الصحراء المغربية في اطار السيادة  المغربية، والذي يندرج في سياقات الحلول السلمية وبمبادئ الأمم المتحدة قصد تحقيق الاستقرار في المنطقة. وهو ما قد يفسر على أن مجلس الأمن يسير في اتجاه الطي النهائي لملف الصحراء المغربية من خلال التأكيد على أن مخطط الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الحل النهائي وفق مبادئ القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة.

ومن الملاحظات الهامة كذلك هو الموقف الفرنسي داخل مجلس الأمن، الذي أكد خلال جلسة اعتماد القرار 2756 المتعلق بقضية الصحراء المغربية عن الدعم التاريخي والدائم لفرنسا للمقترح المغربي المتعلق بالحكم الذاتي كحل سياسي وحيد لتحقيق الاستقرار في المنطقة. وهو ما يمكن تفسيره بالاعتراف بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية بشكل صريح داخل البرلمان من طرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على هامش زيارته الأخيرة لبلادنا والإعلان عن التقارب مع المغرب، الحليف التاريخي والاستراتيجي، والتجاوب مع شرط الاعتراف بمغربية الصحراء لتجاوز الأزمة الدبلوماسية بين البلدين.

فالإجماع الدولي والإقليمي داخل هيئة الامم المتحدة حول مخطط الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، يشكل ضربة موجعة للأطروحة الانفصالية وتصدعا قويا في بنيان الجزائر وجبهة البوليساريو التي تتاجر بالوضعية غير الانسانية للمدنيين المحتجزين بتندوف كورقة ابتزاز للحصول على المساعدة الانسانية من طرف المجتمع الدولي.

وبالنسبة لتشبت بالمغرب بمبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بالحلول السلمية في قضية الصحراء المغربية، فلا بد في هذا السياق من تقديم ملاحظتين أساسيتين مفادهما أولا: أن المغرب أكد للمجتمع الدولي بأن مقترح الحكم الذاتي، هو أقصى ما يمكن أن يقدمه في قضية الصحراء المغربية، وهذا المقترح يؤكد على تشبته بمبادئ الامم المتحدة المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين وقناعاته بالحلول السلمية المنصوص عليها في الفصل السادس من الميثاق. الملاحظة الثانية الجديرة بالتوقف عندها هو الاجماع الدولي والموقف الوحد للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن حول اعتبار مقترح الحكم الذاتي حل عادل لقضية الصحراء المغربية، فمجلس الأمن والدول المؤثرة في القرار الدولي يقدرون مكانة المغرب، لمكانته في هيئة الامم المتحدة كضامن للاستقرار في المنطقة ودوره الريادي في مكافحة الإرهاب واعتبار استراتيجية متوازنة في مواجهة التطرف والإرهاب، والتي تجمع بين التعاون الأمني والاعتدال الديني والتنمية المستدامة على المستوى الاقتصادي، كما ان المغرب يساهم في عمليات حفظ السلام في افريقيا وآسيا و أوروبا وجنود مغاربة قدموا أرواحهم دفاعا عن الشرعية الدولية ومبادئ الأمم المتحدة.

 

ماهي المعاني والدلالات العميقة للخطاب الملكي فيما يتعلق " بوجود العالم الآخر، المنفصل عن الحقيقة، الذي ما زال يعيش على أوهام الماضي، ويتشبث بأطروحات تجاوزها الزمن"؟

في الحقيقة إن الخطاب السامي للملك محمد السادس أبان عن مواكبته لتطور القانون الدولي المعاصر، والذي حسم في أمر تحريم حق الشعوب في الانفصال تحت ذريعة حق تقرير المصير، وجعله يفقد طابع القاعدة القانونية الوضعية ويبقى مجرد مبدأ سياسي ارتبط بفترة تاريخية محددة اتسمت بظاهرة حركة التحرر من الاستعمار، ولكن بعد ذلك فقد أهميته وقيمته بعد زوال الأنظمة الإستعمارية في نهاية الستينات وبداية السبعينات.

بعد انهيار جدار برلين و نهاية الحرب الباردة، أضحى مبدأ حق تقرير المصير يقترن بالاختيارات الديموقراطية وحق الفرد في المشاركة في تدبير الشؤون العامة، إن العديد من أساتذة القانون الدولي فندوا ربط حق الشعوب في تقرير المصير بالجماعات الانفصالية، وركزوا بالمقابل على حق كل الأفراد في المشاركة في إدارة الشؤون العامة، مما يستلزم وجود مؤسسات تمثل جميع عناصر الشعب، وتتوفر لديهم السلطات والصلاحيات التي تمكنهم من التعبير عن إرادتهم بكل حرية. وهو ما يتطلب تهيئة المناخ الفعال لممارسة حقوق الأفراد في تقرير المصير بصورة مباشرة وفعالة مع إزالة العقبات التي تحول دون هذه الممارسة أو تعرقلها. كما يتعين في سياق تطبيق تقرير المصير العمل على تعزيز المساواة بين الأفراد بوجه خاص وإزالة التفرقة ذات الطبيعة العرقية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية أو التي ترتكز على اختلاف الجنس.

فالدلالات المفاهيمية لحق تقرير المصير تطورت في القانون الدولي وأضحت تعني أن يساهم الأفراد في إرساء قواعد وأسس الديمقراطية، وذلك في ظل وجود مؤسسات تضمن تمثيلية للشعب، وهو ما يتطلب وجود ثقافة سياسية تسمح باستيعاب دلالات ووظائف تقرير المصير وتفعيل دور المؤسسات بضمان التوفيق بين حرية الأفراد والجماعات، وبين الفعل السياسي والحكامة الرشيدة وإحترام حقوق الإنسان، بما يحقق أفضل مستوى معيشي للإنسان، لأن تقرير المصير ليس هدفا بحد ذاته بل وسيلة لضمان الحياة الكريمة اقتصاديا واجتماعيا.

فالمؤسسات الديمقراطية هي وعاء لإعمال تقرير المصير من خلال القيام بوظائف متعددة من تمثيلية للمواطنين وضمان المشاركة السياسية للشعب وهو ما يتطلب وجود ثقافة تسمح باستيعاب هذه الوظائف. كما تعمل الديمقراطية على احترام التنوع المجتمعي من خلال قيامها على أسس عادلة، بحماية حقوق الأقليات بواسطة المؤسسات. فالثقافة الديمقراطية سعت دائما إلى حماية التنوع من خلال زرع قيم في المجتمع تسلم بحق الاختلاف والتنوع وتجعل منه أساس الاغتناء الثقافي والحضاري.

لذلك فتقرير المصير يستدعي وجود تربة صالحة لإرساء دعائمه، حيث أن الحكم الديمقراطي يمنح تقرير المصير إمكانية المحافظة على مقومات المجتمع الأساسية من مؤسسات وثقافات وعادات وتقاليد وأعراف وتاريخ، وفي الوقت نفسه إقامة وإرساء آليات ديمقراطية للمواطنين حق تسيير الشؤون العامة وتحديد الاختيارات الكبرى. ( يتبع )