تابعنا جميعا التحول الكبير الذي حدث مؤخرا على مستوى الموقف الفرنسي تجاه قضية الصحراء المغربية، ومعه خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالبرلمان المغربي. كيف تقرؤون سياقات هذا التّحوّل؟
تاريخيًا كانت ولازالت قضية الصحراء تشكل تمثل أولوية الأولويات بالنسبة للسياسة الخارجية للمملكة المغربية بصفة عامة، وفي علاقاتها مع دول الجوار والشركاء الاستراتيجيين بصفة خاصة، ونتيجة الدينامية التي تم تحقيقها دبلوماسيا وقانونيا تمكنت المملكة المغربية بدءا من سنة 2019 من تحقيق إنجازات كبيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، لصالح الموقف العادل والشرعي للمملكة بخصوص مغربية الصحراء، إذ عبّرت العديد من الدول الوازنة عن دعمها، وتقديرها الإيجابي لمبادرة الحكم الذاتي، في احترام لسيادة المغرب الكاملة على أراضيه، كإطار وحيد لحل هذا النزاع الإقليمي المفتعل.
وفي هذا الإطار، وجب التأكيد أنه قبيل التحول الفرنسي أكدت أكثر من 90 دولة عضو في الأمم المتحدة عبر تعبيرها الصّريح والواضح عن دعمها لمبادرة الحكم الذاتي، باعتبارها الحل الوحيد لهذا النزاع المفتعل، هذا فضلا عن الزخم الجديد الذي تولد مع افتتاح 30 قنصلية عامة مقراتها بين مدينتي العيون والداخلة المغربيتين، دون غض النظر عن الاعترافات الصريحة عن سيادة المغرب على مجموع أقاليمه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وإسرائيل...
وفي ظل هذا الزّخم، ولئن ظلّ الموقف الفرنسي بخصوص ملف الصحراء غير حاسم لفترة زمنية طويلة... وبالأخذ بعين الاعتبار الحزم الذي بات ينهجه المغرب من خلال التشديد عن رفضه لمواقف الدول التي تحاول التّموقع في المنطقة الرمادية في موقفها من قضية الصحراء.
وبعد الأزمة الدبلوماسية التي استمرت عدة أشهر بين الحليفين التّقليديين شهد التعاون الفرنسي المغربي مرحلة جديدة من الديناميكية، بحيث صرح المتحدث باسم الخارجية الفرنسية في مؤتمر صحفي سابق بأن المباحثات التي جرت في باريس بين وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، ستيفان سيجورني، ونظيره المغربي، ناصر بوريطة، قد أسفرت عن تقدم إضافي في تنفيذ الأجندة السياسية وخارطة الطريق الطموحة المشتركة بين البلدين، حيث شملت هذه الخارطة الاستثمارات الكبرى المستقبلية، والجوانب الأمنية والتبادلات الثقافية وحتى القضايا العالمية.
ولتجاوز الجمود الدبلوماسي المغربي الفرنسي وتعويض فرنسا عن خساراتها المتتالية في القارة الإفريقية... استثمر الرئيس الفرنسي لحظة تاريخية مفصلية في الذاكرة المغربية؛ إذ بالتزامن مع الذكرى الـ 25 لاعتلاء الملك محمد الّسادس عرش المغرب، قرّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - في رسالة موجهة إلى العاهل المغربي ـ الاعتراف بسيادة المملكة على الصّحراء المغربية، مؤكدا أن مخطط الحكم الذاتي المغربي لعام 2007 هو "الأساس الوحيد" لحل «التنافس الإقليمي» بين الرباط وانفصاليي البوليساريو صنيعة الجزائر…
ولئن كانت هذه الرسالة محفزة غير أنها لم تكن كافية، بحيث لم يَرِدْ فيها اعتراف رسمي بمغربية الصّحراء، ممّا أثار حفيظة وحذر مجموعة من المتتبعين، غير أن الأمر اتضح من خلال مخرجات زيارة الدولة الأخيرة التي قام بها الرئيس الفرنسي إلى المملكة المغربية أيام 28/29/30 أكتوبر 2024- والتي أسفرت عن ثلاث رسائل مهمة: الأولى تبينت من خلال فحوى البيان الصادر عقب اللقاء الثنائي بين الملك محمد السّادس والرئيس الفرنسي التي تأكد فيها التعاون الآني والمستقبلي للبلدين في مجموعة من القضايا المصيرية المشتركة، والثانية تجلت عبر الخطاب الفرنسي من داخل البرلمان المغربي الذي أكد على أن حاضر ومستقبل الصحراء لن يكون إلا من داخل السيادة المغربية، وأن فرنسا عازمة على الدفاع عن هذا الموقف في مختلف المحافل الدولية الأوربية والأفريقية والعالمية. أما الرسالة الثالثة فقد تبيّنت من خلال موقف وزير الخارجية الفرنسي في اعتماد الخريطة الرسمية والكاملة للمملكة المغربية فضلا عن التطلع لتعزيز التواجد القنصلي والثقافي بالصّحراء.
فضلا عن الرّبح السياسي الذي حققه المغرب، تابعنا أيضا كيف توج هذا التحول بتوقيع عدة اتفاقيات بين البلدين. في نظركم ما هو الوقع الاقتصادي لهذا التحول على الاقتصاد المغربي والذي يقلق عسكر الجزائر؟
زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» للمملكة المغربية، لم تكن بحضور منفرد وإنما جاء الرئيس على رأس وفد هام ضم 122 شخصية تمثل مختلف القطاعات الاستراتيجية الفرنسية وتشمل كبار الوزراء ومسؤولين لأكبر أربعين شركة فرنسية. أربعون رقم معبّر عن الرهان الذي وضعه كل من المغرب وفرنسا على هذه الزيارة التي فتحت عهدا جديدا في العلاقات الثنائية بين البلدين، إذ توج بالتوقيع على «اتفاقية استراتيجية وطيدة»، بهدف تمكين البلدين من رفع جميع التحديات التي تواجههما بشكل أفضل، وذلك عبر تعبئة جميع القطاعات المعنية بالتعاون الثنائي والإقليمي والدولي. وترجمة لهذه الرغبة في التعاون الثنائي تم توقيع 22 اتفاقية بقيمة عشرة ملايين أورو تشمل: السكك الحديدية والهيدروجين الأخضر، والتعليم العالي، والتنمية المستدامة، والتحول الطاقي، والبحث العلمي، إضافة إلى قطاعات الماء والفلاحة والاستثمار والثقافة وصناعات الألعاب والإبداع. هذه اتفاقيات بقيمة 10 مليار أورو بين المغرب وفرنسا، وقعت خلال حفل ترأسه الملك محمد السّادس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفي كلمة ألقاها أمام منتدى رجال الأعمال الفرنسيين والمغاربة في الجامعة الدولية بالرباط، اعتبر ماكرون أن عدم استثمار القطاع الفرنسي الخاص والمؤسساتي في إفريقيا والصّحراء «خطأ كبير»، مضيفا أن الدول الغربيّة وضعت معايير تعيق الاستثمار الاقتصادي والمالي في الصحراء، داعيا إلى مراجعة هذه المعايير. وتوجّه ماكرون إلى المقاولين الفرنسيين قائلا: «المغرب هو الشريك الأول لفرنسا في إفريقيا، ويجب الاستثمار في الصحراء».
من وجهة نظر اقتصادية، ماذا ربح المغرب في نظركم؟ وماذا خسرت الجزائر اقتصاديا مما حصل؟
من الصّعب جدّا في العلاقات الدولية قياس منسوب الرّبح والخسارة في العلاقات الاستراتيجية الكبرى، ولئن كان يبدو أن كفّة ميزان الكسب والخسارة لا تميل لهذه الجهة ولا لتلك إن أخدنا بعين الاعتبار اعتماد منطق رابح رابح، وأن هذا الكسب المغربي الفرنسي أفضل بكثير من الكسب الذي قدمته الجزائر لحظة إبرام اتفاق استراتيجي استثنائي مع باريس في أواخر غشت 2022، حينما تعهدت بتزويد فرنسا بالغاز وتأمينها من الأزمة التي تسببت فيها سياسة موسكو الطاقية بعيد غزوها لأوكرانيا، فضلا عن مجالات استثمارية واعدة، إذ اتفق الطرفان على التعاون معًا في مجال الانتقال الطاقي، لا سيما من خلال التعاون في مجالات الغاز والهيدروجين. كما اتفقا على إطلاق برنامج بحث ابتكاري تقني حول استعادة ومعالجة غاز الشعلة...
إذن هنا لا يجب المقارنة بين دولة أبرمت اتفاقياتها من داخل أراضيها وبشروطها وبآفاق تتطلع إليها وببنود معلومة المضمون والمحتوى، وبين دولة لا تاريخ ولا مستقبل لها إلا من خلال العيش على إذكاء أزمات الجيران والسعي لتقسيمهم وإضعافهم…
أعتقد أن منطق الربح والخسارة هكذا من الناحية المالية لا يستقيم وأهمية الاستقرار الإقليمي الذي تؤمن بها كل الدول الديمقراطية بما فيها فرنسا من خلال تبصرها في الاعتراف بالسيادة المغربية كخطوة أساسية نحو تحقيق الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء، التي تشهد اضطرابا أمنيا مضطردا، بحيث أن دعم السيادة المغربية يمكن أن يساعد في تعزيز الاستقرار والنّمو الاقتصادي في المنطقة، وانعكاسات ذلك على مكافحة الإرهاب والاتجار في السّلاح والبشر والمخدرات، حيث يلعب المغرب دورًا هامًا في مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية في شمال أفريقيا، كما قد يعكس رغبة فرنسا في دعم حليفها في جهوده الأمنية.