عبد السلام بنعبد العالي: هل ما زلنا قادرين على الاندهاش؟

عبد السلام بنعبد العالي: هل ما زلنا قادرين على الاندهاش؟ عبد السلام بنعبد العالي
سبيل الفكر إلى المعرفة
 
 
الأصل اللاتيني للكلمة الفرنسية Étonnement هو اللفظ Attonare الذي يدل على من نزلت به صاعقة Tonnerre فأصابه، من هول ما رأى، ذهول يدفعه إلى التراجع وإعادة النظر في العالم من حوله، من خلال هذه الخطوة يدرك حدود معرفته فيسعى لاكتساب معارف جديدة. لذا اعتبرت الدهشة وراء كل معرفة. بل إنّ كبار فلاسفة اليونان رأوا فيها أصل الفلسفة ومصدرها. وهذا يمتد حتى المعاصرين، لا عجب أن يربط غاستون باشلار الدهشة بالصعقة الكهربائية: "من أشكال الدهشة الناتجة من الثقافة النظرية، التي هي مثل الصدمات الكهربائية، ما يقلب العقليات المتقادمة ويرسم تنظيمات عقلانية جديدة للمعرفة... وهكذا، تلتقي الثقافة العلمية، في جميع أشكال تقدمها، بدهشات حقيقية للعقل تأتي باستمرار لتتعارض مع وثوقية العقلانية المكتسبة، التي يتم تصحيحها باستمرار".

الدهشة إذن، هي الانفعال الذي كان اليونان يربطونه بميلاد الفلسفة، فهي التي دفعت الحكماء، على حدّ قول أرسطو، إلى التأمل الفلسفي: "في الواقع، كانت الدهشة هي ما دفع المفكرين الأوائل، كما يحدث اليوم، إلى التأملات الفلسفية. في البداية كانت الصعوبات الأكثر وضوحا هي التي لفتت انتباههم، ثم، شيئا فشيئا، سعوا إلى حل مشكلات أكبر، مثل ظواهر القمر، وظواهر الشمس والنجوم، وأخيرا نشأة الكون".

الدهشة رجّة تدفع إلى طرح الأسئلة أمام ما يواجهه الفكر من غرابة غير متوقعة. أمام الصعوبات تأخذك الدهشة فتعترف بجهلك. "تحررا من هذا الجهل خاض الفلاسفة الأوائل غمار الفلسفة بهدف المعرفة وحدها، وليس من أجل غاية نفعية" كما يؤكد المعلم الأول. وقبله ينقل أفلاطون قول سقراط في محاورة ثياتيتوس: "الشعور بالدهشة هو بالفعل من صفات الشخص الذي يحب المعرفة. وليس هناك نقطة انطلاق أخرى للبحث عن المعرفة سوى هذا الشعور".

ستحتفظ العصور الحديثة بهذا الدور للدهشة. نقرأ في كتاب كانط "نقد ملكة الحكم": "الدهشة هي صدمة للعقل تنشأ عن عدم توافق تمثُّل ما، وكذلك القاعدة التي يقدّمها، مع المبادئ التي توجد بالفعل في العقل كأسس، ممّا يبعث الشك والتساؤل: هل أدركنا الأمر جيدا؟ هل كان حكمنا صحيحا؟" ففي قلب الدهشة تكمن فكرة اتخاذ مسافة من العالم، وبالتالي تحرير الإنسان من معتقداته وأحكامه المسبقة.

يتساءل جورج بيريك: كيف نتمرن على الاندهاش؟ وكيف نقوّي ألفتنا مع الدهشة؟ فيجيب: "بأن نولي اهتمامنا لما يحدث كل يوم، لما لا يفتأ يعود، لتوافه الأمور، لليومي، والبدهي، والمتداول، للعادي وما دون العادي، للمألوف".

ولكن، هل يسمح لنا الإعلام اليوم بأن نأخذ المسافة من كل هذه الأمور؟ وهل يدعها تَمثل أمامنا في غرابتها، أم أنّه يقيم حاجزا بيننا وبينها فيحجبها عنا؟ الظاهر أننا، رغم كوننا لا ننفك نحاول الانفلات ممّا يلون به الإعلام واقعنا، فننجذب، مثل الحشرات، نحو نور ما يتجدّد، إلا أنّ سلطة الإعلام وقهره، سرعان ما يجعلان ذلك النور ينطفئ، فيدفعاننا لأن نلتصق بالمظاهر المفبركة و"نعيش بلا مسافات". وهنا لا بدّ أن نشير إلى دور الصورة في حجب الواقع، وكذا دور الشاشات التي عندما "يُرفع" ستارها فليغطّي الواقع الفعلي.

كتب صاحب كتاب "هل بإمكان الصورة أن تقتل؟": "يتم تقديم الدعاية والإعلان للاستهلاك دون انحراف، وهما آلتان لإنتاج العنف حتى عندما يبيعان السعادة أو الفضيلة. فحياة المرئي ليس لها أساس آخر سوى الإلغاء المتعمّد أو غير المتعمد للفكر". كما كتب: "عندما نقول شاشة، يبدو أننا نطرح من البداية فضاء للفصل، بل وحتى لحجب المرئي. أن تكون هناك شاشة يمكن أن يعني الإخفاء. ولكنّ شاشاتنا هي أماكن ظهور الصور. فالشاشة هي في الوقت نفسه فضاء حقيقي ومناسبة لإلغاء واقعية ما ينتجه المخرج".

نشر أحد المدونين تدوينة أورد فيها صاحبها صورة للأميرة ديانا رفقة زوجها، مبديا إعجابه ببساطة الأميرة وبابتسامتها، ومتسائلا عمّا آلت إليه أمورها. فعلّق المدوّن معبّرا عن غيرته من هذا الذي لم يسمع إلى اليوم بمآل أميرة بيرمينغهام. ربما لا يمكن أن تجد في عالم اليوم إنسانا آخر لم يسمع بالحادثة التي تعرضت لها الأميرة المعروفة، وربما لن تجد حتى من لم يشارك في جنازتها، مباشرة أو بكيفية غير مباشرة، ولم يعش تلك الانفعالات المعولمة التي عاشها العالم قاطبة. كتب المدوّن: "ليتني تمكنت من أن أنفصل عن العالم كما يصنعه الإعلام دقيقة واحدة مثل صاحب الصورة". هذا التعليق يعكس حقيقة العالم المعاصر الذي صرنا نشتاق أن ننسلخ عنه ولو لفترة قصيرة، لكنه يغمرنا ولا يترك لنا المجال لا للاقتراب من حقيقته، ولا للابتعاد عنه.

قد يقال إنّ الفكر، على رغم ذلك، لا يقف مكتوف اليدين أمام هذا الواقع الملون، وإنّه لا يرضخ لما تفرضه آليات فبركة الواقع. غير أنّ هذا التحرر من استلاب الواقع لا يكون مبعثه مجرد الاندهاش. بل إنّ هذا الاندهاش، حتى إن وجد، لا يحصل إلا في آخر المطاف، وبعد إعمال الفكر و"خلق المسافات"، وبذا تغدو الدهشة نتيجة الفكر، وليست باعثة عليه.

وربما لم تعد هي الباعثة على التفكير بالمرة. ذلك أن ما يثير انفعالاتنا وسخطنا اليوم، لم يعد صعوبات نظرية، ولا جهلنا بالأسباب والمسببات، وإنّما استنكار البلاهة التي تحيط بنا من كلّ جانب. فنحن لم نعد نصعق بما يتولد لدينا من شعور بالاستغراب والتعجب، وإنّما بما نحس به من استياء وتذمر، وهو استياء غالبا ما نشعر أننا مسؤولون عنه، فنحس بالخجل إزاءه. مقابل دهشة الأقدمين إذن خجل المحدثين.

يرى جيل دولوز أنّ أحد دواعي الفنّ والفكر في الحياة المعاصرة هو هذا الإحساس بالخجل، وليس أيّ خجل، وإنّما "الخجل من أن تكون إنسانا" في عالم أصبحت فيه أشكال الشر تُستعرض أمامنا صباح مساء، وغدا فيه التنكيل والتقتيل غذاءنا اليومي.

ينسب دولوز عبارة "الخجل من أن تكون إنسانا" إلى أحد الأدباء الإيطاليين (بريمو ليفي) الذي لم يكن يعني بها، كما يؤكد دولوز، أننا كلنا قتلة، وأننا كلنا مجرمون. هو يقول: "إنّ هذا لا يعني أنّ الجلادين والضحايا من طينة واحدة". لهذه العبارة في رأي دولوز دلالات كثيرة، فهي تعني في الوقت ذاته: "كيف أمكن لأناس أن يقترفوا هذا الفعل؟ لكنّها تعني أيضا: "كيف حصل أنني اتخذت أمام ذلك موقفا مهادنا؟" أنا لم أصبح جلادا، إلا أنّني أبديت ما يكفي من المهادنة كي أبقى على قيد الحياة. أضف إلى هذا أنني لا بدّ وأن أشعر بنوع من الخجل لكوني نجوت من الموت مكان بعض الأصدقاء الذين لم يتمكنوا من النجاة، نجوت لأنّهم لم ينجوا. خجل مضاعف إذن: أمام ما اقتُرِف من أفعال، وأمام التواطؤ المضمَر، وأمام من لم يستطع أن ينجو بجلده مثلي.

ينبهنا المفكر الفرنسي إلى أنّ هذا النوع من الإحساس وما يترتّب عنه، ليس نادرا، ولا خاصا بتجربة بعينها. فكل منّا يعيش في حياته اليومية أحداثا تبعث فيه الإحساس "بالخجل من أن يكون إنسانا"، ولسنا في حاجة إلى الوقوف عند حالات قصوى كما فعل بريمو ليفي، فشاشاتنا الصغيرة تعجّ بما يبعث على "الخجل من أن تكون إنسانا".

ونحن لا نفتأ نعقد مع ما يدور حولنا تواطؤات مهادنة تزيد شدة وطأة خجلنا. صحيح أننا لسنا مسؤولين "عن" الضحايا، إلا أننا مسؤولون "أمام" الضحايا، ضحايا بلاهات الحياة المعاصرة.

هذا ما دفع المفكر الفرنسي إلى أن يرى في أساس كل إبداع في حياتنا المعاصرة ما للشعور بـ"الخجل من أن تكون إنسانا" من دور فعّال، إذ هو الذي يقوم، في نظره، اليوم أساسا للفن والفكر، ويجعل منهما وسيلتين لتحرير قوى الحياة، ومقاومة البلاهة في مختلف أشكالها.

عن مجلة "المجلة"