في الوقت الذي مازال جنرالات العسكر الجزائري، بعد كساد "الجُمل الثورية" التي أنفق عليها «بومدين» و«القذافي» الكثير من السلاح، يواصلون الاعتماد على غاز «سوناطراك» من أجل شراء قضية الصحراء، أولى الملك محمد السادس، منذ اعتلائه العرش، أهمية خاصة وكبيرة لإيجاد حل سياسي سلمي لهذا النزاع الإقليمي، وذلك انطلاقا من حقيقة ثابثة، ألا وهي: «المغرب لا يتفاوض على صحرائه، ومغربية الصحراء لم تكن يوما، ولن تكون أبدا، مطروحة فوق طاولة المفاوضات، ولكن نتفاوض من أجل إيجاد حل سلمي لهذا النزاع الإقليمي المفتعل» (6 نونبر. 2021
فبعد الكثير من الجهد السياسي والديبلوماسي، وبعد نجاح المغرب في إقناع 19 دولة من الاتحاد الأوروبي بوجاهة مقترح الحكم الذاتي، بما فيها فرنسا وإسبانيا والبرتغال وإسبانيا واللوكسمبورغ وهولندا وألمانيا وقبرص ورومانيا والمجر وصربيا وفلندا والدانمارك، وبعد الدفعة الكاملة التي قدمتها واشنطن: «الاعتراف الصريح والواضح بمغربية الصحراء»، تعرى ظهر البوليساريو وراعيتها الجزائر، وتعرت معها «ديبلوماسية الإرشاء»، خاصة أن عدد الدول التي تؤيد الآن المقترح المغربي وصل إلى أكثر من 110 دول في العالم، مما يؤكد أن كابرانات الجزائر فقدوا الكثير من المساحات التي راكموها عبر سنوات، بما في ذلك الرهان على بناء محاور جيو-ستراتيجية لعرقلة دورة الاعتراف الدولي بالمقترح المغربي.
لقد حمل الخطاب الملكي لـ 11 نونبر 2024 تطورا حاسما وفاصلا لقضية الصحراء؛ وهو التطور الذي يقتضي المرور من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير، داخليا وخارجيا، أي الانتقال من مقاربة رد الفعل، إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية، من أجل إغلاق هذا الملف بشكل نهائي لا رجعة فيه، خاصة أن الهدف الأساس الذي كان يحرك السياسات الملكية، على المستوى الديبلوماسي، كان هو الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على الصحراء.
وهو ما تحقق بالفعل على أكثر من واجهة إقليمية وقارية، بل هو ما تحقق في الميدان، من خلال تحويل مدن الصحراء إلى حواضر تتفوق على مدن الجزائر بغازها ونفطها.
لقد قدم المغرب مقترح الحكم الذاتي في عام 2007، أي بعد 8 سنوات من تولي محمد السادس الحكم، وبعد 16 عاماً من شروع قوات «المينورسو» في مراقبة المنطقة العازلة (1991)، وها هو الآن، بعد 17 سنة من ذلك، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن «المغرب سيظل في صحرائه والصحراء في مغربها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها»، وألا شيء يعلو على الحق بعد ظهوره، إذ تؤكد كل المؤشرات على الأرض أن «مبادرة الحكم الذاتي» هي أقصى ما يمكن أن يقدمه المغرب»، وأن الدول التي تمسك بحقائق النزاع، مثل فرنسا وإسبانيا، قد خرجت من المنطقة الرمادية لتعلن بوضوح تام أن «الصحراء مغربية».
لقد استمر محمد السادس في التماس الدعم لمقترح الحكم الذاتي أينما استطاع. وهذا ما عكسه جزء كبير من جولاته في إفريقيا، إذ لم يحقق فقط فوائد اقتصادية، بل تقدماً دبلوماسيا أسفر عن إقدام مجموعة من دول القارة على سحب اعترافها بـالبوليساريو»، فضلا عن الخمسة وثلاثين دولة إفريقية التي لم تكن تعترف بهذا الكيان المصطنع أصلا.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ بالإضافة إلى الشراكة الوثيقة بين واشنطن والرباط، أمنيا وعسكريا، عمل المغرب على تنويع شراكاته الاقتصادية مع روسيا والصين، فضلا عن العلاقة الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي.
وهذا ما أدى في نهاية المطاف إلى تمكن المغرب من تجاوز الاختبارات الصعبة التي فرض عليه الخصوم خوضها، وبالتالي إلى إقدام الملك على إعلان مرحلة التدبير والدخول إلى مرحلة التغيير الذي يقتصي أخذ المبادرة على جميع المستويات ذات الصلة بنزاع الصحراء، والتحلي بالحزم الضروري في مواجهة كل المتربصين بمصالح المغرب، سواء أكانت الجزائر أم البرلمان الأوروبي أم جنوب إفريقيا أم إيران، ومن يدور في فلكهم على المستوى الديبلوماسي أو السياسي أو الحقوقي أو الإعلامي.
ويأتي هذا الإعلان المفصلي ضمن سياق استراتيجي دقيق يسعى المغرب من خلاله إلى فرض وجوده كطرف قوي وقادر على فرض شروطه على المنتظم الدولي، من خلال حشد مزيد من الدعم، بل تسخير كل قنواته الدبلوماسية، بما في ذلك المؤسسات الحزبية والمدنية، لتعزيز موقف المغرب محليا ودوليا. ذلك أن نزاع الصحراء ليس شأنا ملكيا فحسب، بل قضية وطنية ينسحب الدفاع عنها على جميع المغاربة أيا كانت مواقعهم «مؤسسات الدولة، البرلمان، المجالس المنتخبة، الأحزاب، النقابات، التجمعات الاقتصادية، المجتمع المدني، وسائل الإعلام، المواطنون جميعهم».
لقد قدم الملك الذي انهمك طيلة ربع قرن من الحكم على تسوية النزاع، رسائل واضحة داخليا وخارجيا، إذ كانت السمة البارزة لحكمه هي «الصحراء هي النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم». والنتيجة اتساع دائرة الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء، وكسب دعم العديد من الدول المؤثرة، كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإسبانيا وألمانيا، فضلا عن مواقف الدول العربية والإفريقية الداعمة. فما الذي تبقى؟ الملك يدعو إلى الانتقال إلى سرعة أخرى، لا تكتفي بالتفاعل مع تحركات الخصوم، بل تتجه نحو تسخير كل الإمكانات الوطنية المتاحة من أجل الفعل بالإقناع، ومن ثم التأثير في الرأي العام الدولي، وتوجيه بوصلة القرار العالمي نحو الاعتراف بالسيادة المغربية الصريحة والشاملة على الصحراء، على نحو لا يقبل التحزيء أو التراجع أو التشكيك.
إن إزالة اللبس أمر ممكن. لكنه يتطلب «التعبئة واليقظة المستمرة والتحرك الفعال على الصعيدين الداخلي والخارجي، للتصدي لأعداء الوطن أينما كانوا وللأساليب غير المشروعة التي ينتهجونها». هذا هو الدرس الملكي الذي نستخلصه من إعلان واشنطن ومدريد وباريس عن مواقفها الداعمة للمغرب. وهذا هو المطلوب من الديبلوماسية المغربية الواسعة: الاستثمار في علاقات جديدة على مختلف الواجهات الدولية، وتعزيز التحالفات المؤسساتية في أوروبا، والسعي إلى اجتذاب استثمارات من الصين والهند وروسيا واليابان وكوريا والبرازيل، والعمل عل إقناع الشركاء بعدالة القضية الوطنية، وبأن سقف المفاوضات هو «الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية».
لقد حدد الملك الخطوط العريضة لمرحلة التغيير، فهل ستكون نخبتنا الحزبية والبرلمانية والسياسية والمدنية والاقتصادية والثقافية في مستوى هذا الرهان؟
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"