يعلمنا الروائي الأوروغواياني إدواردو غاليانو، في كتابه الشهير "كرة القدم بين الشمس والظل"، أن فلسفة اللعبة لا تقوم على «الفوز بأي ثمن»، ولا على «خطة المدرب» أو «اللعب النظيف» أو «الأداء الجماعي الممتع» أو «المهارات الفردية للاعبين» أو «الهجوم الشامل والدفاع الشامل»، بل يثبت أن كرة القدم شيء آخر، أكبر من لعبة؛ هي شغف شاهق يعلو عن «التوظيف السياسي وإرادة الإلهاء». وهذا الشغف بقدر ما هو موجود في الملعب ويتقاسمه اللاعبون، فإنه يتعاظم في المدرجات التي تعبر عن التزام الجماهير نحو هذا الفريق أو ذاك.
وبهذا المعنى، فإن الجماهير في كل مكان هي روح كرة القدم، ولن يكون للعبة أي معنى إذا تم الإصرار على إجراء المباريات في ملاعب فارغة مثلما نشاهد، الآن، في البطولة الوطنية، حيث تجرى المباريات بدون جمهور، بينما يظن المسؤولون أن البث «المباشر» للمباريات عبر قنوات القطب العمومي هو الحل، والحال أن كرة القدم لا تكتمل، في الواقع، إلا بجماهيرها التي تعطي للمباراة متعة ورونقا خاصا، بل تمنحها المعنى.
فإذا كانت السلطات تبرر إقدامها على هذا الإجراء بالدواعي الأمنية أو التنظيمية، وبضرورة الاحتراز من أعمال الشغب والتخريب والتعبيرات السياسية المعاكسة للتوجهات الحكومية.. إلخ، فإن المغرب مقبل عما قريب على تنظيم تظاهرات رياضية عالمية كبرى، مثل كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030. فهل إفراغ الملاعب من الجماهير سينهي وجود المشاغبين والمخربين أو سيعيد تربيتهم ليحل مكانهم الأولياء الصالحون والطيبون اللطفاء والوديعون الطيعون؟ أم سيشمل هذا القرار حتى الجماهير الأجنبية التي ستحل بالمغرب من أجل متابعة منتخباتها في كأسي إفريقيا والعالم؟
وفي المحصلة، هل بهذا الإجراء «مباريات «الويكلو» والمدرجات الفارغة»، يمكن للمغرب أن يفسر الاستثمارات الضخمة التي أقدم عليها لتجهيز الملاعب وتطوير التكوين الرياضي والرهان على استضافة المنافسات الدولية؟
لقد نسي المسؤولون عن تدبير الحقل الرياضي، ومعهم المسؤولون عن الأندية الكروية، أن كرة القدم هي قبل كل شيء تربية تتطلب سلوكا معينا «الأخلاق الرياضية»؛ والتربية تعني النظام، ولا يمكن إرساء أي نظام مهما كان قوته «أو على الأقل تجريبه» دون إخضاع الجمهور له، ودون وضع آليات لمواجهة المشاحنات وإبطال أعمال الشغب، خاصة أن هناك بعض الملاعب، في هذه المدينة أو تلك، توجد في مناطق آهلة بالسكان، ومحاطة بالعمارات والمحلات التجارية، وهو ما يجعل مهمة مواجهة المعارك بين المشجعين، في حالة اندلاعها، أمرًا صعبا، وأحيانا مستحيلا، في ظل ضعف الحصيص الأمني، فضلا عن قصور الآليات الموضوعة رهن إشارة القوة العمومية لإحباط أعمال العنف. ومع ذلك، فإن هذا الضعف لا يبرر التخلص من الجمهور تحت يافطة «كم حاجة قضيناها بتركها»، والاستمرار في إقصاء الجماهير من تشجيع فرقها، ذلك أن الجمهور له تأثير كبير على الرياضة ككل، وبخاصة على لعبة كرة القدم، إن على مستوى الحفاظ على جماهيريتها أو على مستوى دعم الأندية وتطوير رؤيتها الرياضية، وحضورها في قلب معادلة التنافسية، على مستوى التباري المباشر، وأيضا على المستوى المالي. أليست كرة القدم صناعة؟ ألا يتم الحديث عن اقتصاديات كرة القدم؟ ألا يتحدث المسيرون واللاعبون والمدربون لغة الاستثمارات والأموال؟ وماذا عن صفقات انتقال اللاعبين وأجورهم الخيالية؟ وماذا عن قيمة جوائز البطولات المحلية والقارية والعالمية؟ وماذا عن السباق المحموم بين الدول لاستضافة بطولة كأس العالم ومثيلاتها من المنافسات الرياضية، إقليميا وقاريا؟
لا يمكن الحديث عن كرة القدم، ونحن مقبلون على تنظيم منافسات بالغة الأهمية، دون أن نحسن الإنصات لإشكالية الجمهور، ودون أن نجيب على أهم التحديات التي ترتبط به، إذ لا يعقل أن تظل الفرق الوطنية محرومة إلى أجل غير مسمى من جماهيرها، حتى تظل الملاعب فارغة، وحتى تمسي الأجهزة الأمنية وتصبح، ومعها مسؤولو الكرة في هذا البلد السعيد وجمعيات المشجعين «الألترات»، على «وكفى الله المؤمنين شر القتال»، أي حتى تكون في حل من المسؤولية الملقاة على عاتق كل هؤلاء في التأطير والتنظيم.
إن الجماهير، وهذا ما ينبغي أن تعيه السلطات، ليس زائدة دودية، بل عنصرا حيويا لا غنى عنه في نجاح كرة القدم والأندية الرياضية واللاعبين، وأيضا، في نجاح كل الأنشطة الاقتصادية التي قد يرعاها هذا النادي أو ذاك. إنها رقم صعب في المعادلة الكروية، ولا يمكن تعويضه بالمدرجات الفارغة، والبث التلفزي المباشر، وبالعقاب الجماعي لجمهور هذه المدينة أو تلك. كما لا يمكن علاجه بإحداث اللجان المحلية أو بتفعيل القوانين الزجرية، وإلا سنكون أمام «غيتوهات مؤقتة» تسري عليها قوانين الاستثناء منذ ما قبل بداية المباراة إلى ما بعد نهايتها.
هذا الواقع يفرض بطبيعة الحال الإسراع بالبحث عن حلول مبتكرة، وإعادة النظر في السياسات والإجراءات الحالية التي أفضت إلى إفراغ الملاعب من الجماهير، وذلك عبر مجموعة من الإجراءات:
أولا: إعادة النظر في العلاقة التي تربط مختلف المتدخلين بالجمهور (أندية - القضاء - جماعات ترابية - جمعيات المشجعين - قوات عمومية - إعلام - باحثين)، والاستعانة بالقراءة السوسيولوجية لتحديد سوء الفهم الكبير بين الطرفين.
ثانيا: النظر إلى الجمهور ليس بوصفه مجموعة من المتفرجين، بل بوصفه جزءا لا يتجزأ من الهوية الرياضية للأندية، وتشجيع ارتباط النادي بجماهيره والمساهمة في إدارتها. ومن هنا، يمكن للأندية أن تلعب دوراً فعّالاً في نشر القيم الإيجابية وتعزيز التواصل الثقافي بين المشجعين وترصيص صفوفهم، عوض حالة التمزق التي نلاحظها بين مشجعي النادي الواحد.
ثالثا: إحداث إطارات تابعة للأندية الرياضية مهمتها الأساس هي التعامل مع الجمهور والتفاعل المباشر معه من خلال تنظيم فعاليات ثتقيفية وتربوية وترفيهية متنوعة والاستماع إلى مطالبه وتلبية حاجياتها.
رابعا: فرض استخدام بطاقات التعريف الوطنية أو بطاقة مشجع (FAN ID)، لاقتناء تذاكر المباريات، وتطبيق عقوبات زجرية في حق تجار السوق السوداء، وحرمان المشجعين المشاغبين من دخول الملاعب لفترات يضبطها القانون.
خامسا: التحكم القبلي في تنقلات جماهير الفرق الزائرة، سواء تعلق الأمر بالتنقل الجماعي أو الفردي، والعمل بنظام الإغلاق الأمني لمنطقة جلوس جماهير الفرق الضيفة، وتنظيم خروجها عبر أبواب محددة وخفرها إلى محطات الركوب.
سادسا: إدماج الجماهير في التنمية الاقتصادية للأندية ما داموا يشكلون مصدراً هاماً للإيرادات من تذاكر المباريات والتسويق، مما يجعل احتضانهم في تنظيمات جمعوية صلبة أمراً حيوياً لاستمرارية النوادي وازدهارها المالي، وأيضا للانضباط داخل المدرجات.
سابعا: إحداث جائزة الجمهور المثالي، وجائزة أحسن «تيفو»، وجائزة أحسن مشجع، وذلك لبعث الإثارة والتشويق بين الجماهير، وإبراز أن لعبة كرة القدم يصنعها المشجعون بالقدر نفسه الذي يصنعه اللاعبون والمدربون والمسيرون.
لقد كان الحضور الجماهيري، بعد الإنجاز التاريخي للأسود في مونديال قطر والحضور القوي للأندية والمنتخبات الوطنية في المنافسات القارية، لافتا، وفاق كل التوقعات، مما أعطى للعبة رونقاً ومنظراً جميلاً في المدرجات، وحقنها بالإثارة والتنافس بين جماهير هذا النادي أو ذاك، مما وضع بوأ الجمهور المغربي مرتبة الشرف في الشغف الكروي، وليس أدل على ذلك من الأثر الرائع الذي تركه المغاربة في ملاعب قطر «المونديال 2022» وملاعب باريس «الأولمبياد 2024»، حيث أصبح العالم يردد معهم «سيييير.. سييير.. سييير». لهذا السبب، على المسؤولين الرياضيين الخروج من «منطقة الراحة» التي اختاروا الإقامة فيها بكل اطمئنان، وربط الملاعب بجماهيرها التي هي جزء لا يتجزأ من اللعبة، إذ هي التي تصنع الحماس والمتعة والاستمتاع، وهي التي تنفخ الروح في بطولتنا الوطنية التي تعيش، الآن، لحظة باردة.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"