في مرحلة التأسيس حين كان الأستاذ عبد الكبير حدان مندوبا لفرع الشعلة باليوسفية، كان للراحل الأستاذ الجامعي الدكتور المختار العبدلاوي لقاء فكريا تحت سقف فرع جمعية الشعلة للتربية والثقافة بمدينة اليوسفية، حيث ألقى محاضرة موسومة بـ "مفهوم المواطنة وإشكالية المجتمع المدني" بدار الشباب الأمل / اليوسفية بتاريخ 25 دجنبر 1999. وبعد مرور 25 سنة على هذا الحدث الفكري المتميز، وتكريما ووفاء لروحه وعطاءاته الفكرية تتقاسم جريدة "أنفاس بريس" نص المحاضرة التي تابعها جمهور غفير حينئذ من نساء ورجال التعليم، إلى جانب شباب المدينة وثلة من الإعلاميين والمبدعين والمثقفين والفنانين.
في الحلقة السابقة اتضح من خلال محاضرة ضيف جمعية الشعلة باليوسفية سنة 1999، بأن أوروبا قد عرفت ثلاث ثورات أو إصلاحات كبرى، موسومة بعناوين بارزة، وهي الإصلاح الديني الذي أعاد الكنيسة إلى حجمها الحقيقي، وفك عقال العقل والفكر، كما حرض على الاجتهاد والخلق والابتكار، وأعاد للإنسان الثقة. علاوة على أن الثورة الصناعية قد وضعت قاعدة الإنتاج المادي للرفاهية وساهمت في ظهور طبقات جديدة، وخلقت تراكما جديدا، فضلا عن الثورة السياسية التي جاءت بأفكار جديدة ردت الإعتبار للإنسان ووضعته في مركز الكون. وتبين لنا من خلال محاضرة الأستاذ المختار بنعبدلاوي بأن المداخل الأوروبية الثلاث إلى الحداثة قد جاءت منسجمة مع مسلسل تطور المجتمع الأوروبي.
هل يمكن الحديث عن مجتمع مدني بالعالم العربي؟
أما بخصوص المجتمعات العربية الإسلامية فقد ظلت على مستوى نمط علاقات الإنتاج والفكر والثقافة والقيم السائدة ـ حسب المحاضر ـ ولا تبارح مكانها ووضعها منذ حوالي 15 قرنا تقريبا. مما فرض على المحاضر طرح أسئلة من قبيل:
ـ هل يمكن الحديث عن مجتمع مدني في العالم العربي في ظل غياب الثورات؟ ثم إذا كان هناك توازن بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في الغرب، فهل هناك توزان مثله في العالم العربي والإسلامي؟
الجواب جاء على لسان الفقيد المختار بنعبدلاوي ـ قبل 25 سنة ـ مؤكدا ما يلي:
في العالم العربي حقيقة لم تتشكل انتظامات واعية انطلاقا من الإلتقاء والتشارك في المصالح، مستطردا بقوله، بأن في العالم العربي والإسلامي قد كانت هناك انتظامات مبنية وقائمة على أساس طبيعي لا أقل ولا أكثر، على عكس ما في أوروبا من انتظامات مبنية على أساس عقلي وقطاعي ومهني، ولها أهداف منبثقة من داخل المجتمع، في حين أن القبيلة والزاوية هما الإنتظامين المعروفين في العالم العربي والإسلامي، ويقومان على أساس علاقات الدم والقرابة والعصبية، أي أن المضامين التي تقوم عليها الإنتظامات المجتمعية في أوروبا هي مرجعيات عقلية، في حين أن المرجعيات التي تقوم عليها الإنتظامات في العالم العربي والإسلامي هي مرجعيات محافظة وتقليدية. حسب الأستاذ بنعبدلاوي
في نفس السياق خلص نفس المتحدث بقوله: هكذا لم يكن من الممكن في ظل هذه الإنتظامات أن نخلق واقع وشروط انتقال لمجتمع أفضل، ناهيك على أن كل هيئة، بصيغة أو بأخرى كانت تعيد إنتاج النمط المخزني. وأورد الأستاذ بنعبدلاوي في هذا السياق، مثالا عن الدول التي توالت على حكم المغرب ـ من الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين ثم السعديين...نجد أن كل تحالف قبلي يصل إلى السلطة يعيد إنتاج بنى المخزن، ولا ينقل حاجات وتطلعات المجتمع القبلي المنهك بثقل الضرائب وبفعل التهميش والاضطراب، ولا يقوم بإعادة إنتاج نموذج قادر على احتواء حاجيات ومتطلبات المجتمع.
وأكد ضيف جمعية الشعلة للتربية والثقافة باليوسفية بأن إحدى أكبر الإشكاليات التي طرحت علينا كمجتمع مغربي قبلي هي: كيف يمكن لنا ببنيات تقليدية ومنهكة، وبمضمون تراثي أن نبني إطارا وعلاقات على أسس جديدة؟ وهل يمكننا أن ننتقل إلى وضعية شبيهة بالبنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في أوروبا انطلاقا من المكونات المتوفرة لدينا اليوم؟
يجيب المفكر المختار بنعبدلاوي عن هذه الأسئلة انطلاقا من المحاولات التي شهده المغرب بعد الإستقلال، والتي جعلت بعض القضايا تطرح من قبيل وضع قانون مؤسس للحريات العامة ـ قانون 1952 ـ وهو ما أدى إلى ظهور ما يعرف اليوم بالجمعيات والنقابات والأحزاب السياسية، ويستدرك نفس المتحدث بقوله: لكن السؤال الذي يمكن طرحه هو عندما نضع هذه الإنتظامات تحت المجهر نلاحظ أنها تبدو حداثية من الخارج، أي أنها على مستوى الشكل تطابق وتشبه إلى حد ما ما هو معروف في أوروبا، وبالنظر إلى جوهر هذه الإنتظامات ومضامينها نجد أنها تقليدية وتراثية بخلاف شكلها الحداثي؟
ارتباطا بهذا التحليل العميق أكد المحاضر بأن منطق الحزب السياسي مثلا في المغرب وإن كان على مستوى الشكل الخارجي مستنسخا ومستوحى من النموذج الأوروبي، واستطرد موضحا بأن الحزب السياسي المغربي لازال يتحكم فيه منطق الوراثة والولاية بالنسبة للأمناء العامين أو رؤسائه الحزبيين. واعتبر أن هذا المنطق هو المهيمن داخل الهيئات السياسية بالمغرب، مؤكدا على كاريزمية قياداته الحزبية.
في نفس السياق أكد ضيف الشعلة على أن مجتمعات العالم العربي كونت انتظامات جديدة لاستيعاب الحداثة، مثل الجمعية والنقابة والحزب، ولكنها لم تستطع أن تعطي لهذه الأشكال الحداثية، المضامين الثقافية التي تتلاءم معها، واسترسل موضحا بأن هذه الأشكال من الإنتظامات قد أعادت إنتاج الزاوية والقبيلة داخل الجمعية والنقابة، وبذلك أفقدت حركية المجتمع نحو التقدم والإنفتاح.
أين يكمن الخطأ وكيف يمكن تحديده والتعاطي معه؟
الجواب عن هذا السؤال الجوهري فتح شهية الفقيد المختار بنعبدلاوي على إشكاليات أخرى، كوننا لم نعش دينامية مجتمعية في الداخل وأن الحداثة عندنا شكلية ما دمنا لم نعش تحولات مجتمعية شبيهة لحركة الإصلاح الديني في أوروبا وللثورة الاجتماعية والسياسية بها:
ـ فهل يمكننا أن ننتقل إلى الحداثة دون أن نعيش هذه الثورات على مستوى الواقع؟
ـ هل كوننا عشنا هذه الثورات على مستوى الوعي فقط كفيل بأن يكون شرطا وعاملا وجسرا للإنتقال نحو الحداثة؟
ـ في ظل العولمة هل لازال من الممكن لنا أن نبحث عن مثل هذه البدائل؟
ـ هل لدينا متنفس وصيغ للإنخراط في العولمة، ولكن مع الحافظ على الخصوصيات الثقافية المحلية، وخلق نوع من الرابطة الخصبة والواعدة بين الإنتماء الكوني الإنساني، وبين الخصوصيات المحلية؟
انتهى