قصر الأمم بجنيف.. بوعياش تحاضر في مسار أمة قررت قبل عشرين سنة خوض تجربة العدالة الانتقالية

قصر الأمم بجنيف.. بوعياش تحاضر في مسار أمة قررت قبل عشرين سنة خوض تجربة العدالة الانتقالية جانب من اللقاء
يواصل المجلس الوطني لحقوق الإنسان تخليد عشرينية الحقيقة والإنصاف والمصالحة، حيث احتضنت أروقة الأمم المتحدة بجنيف فعاليات تخليد هذه ذكرى عشرينية العدالة الانتقالية وتجربة "هيئة الإنصاف والمصالحة" يوم الأربعاء 25 شتنبر 2024.
" أنفاس بريس" تنشر كلمة آمنة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في هذا اللقاء حول "العدالة والإصلاح والذاكرة في مسارات العدالة الانتقالية"...

السيد رئيس مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة،
السيدات والسادة،
مرحبا بكم جميعا، وشكرا لاختياركم تقاسم هذه اللحظة معنا والمشاركة معنا في تخليد عشرينية الحقيقة والإنصاف والمصالحة.
نحتفي هذه السنة في المغرب بمسار... بمسار أمة قررت، قبل عشرين سنة من الآن، بنظرة استشرافية، فتح صفحة الماضي والمصالحة معه بشكل تام والبناء عليه من أجل مستقبل أفضل.
نعقد اليوم هذا اللقاء بأروقة الأمم المتحدة، بشراكة مع المركز الإفريقي للدراسات المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وبدعم من البعثة الدائمة للمملكة المغربية لدى الأمم المتحدة بجنيف، لنتقاسم معكم مقومات تجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية، باعتبارها تجربة نجحت في وضع وترسيخ أسس مشتركة لمجتمع متنوع.
قبل عشرين سنة من الآن، السيدات والسادة، قرر المغرب إطلاق تجربة فريدة وغير مسبوقة في سياقه الإقليمي، وواحدة من التجارب الرائدة على المستوى القاري الدولي، ليكون بذلك واحداً من الدول القليلة التي اتخذت قرارا طوعيا للنظر في الماضي والتحقيق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والإقرار بما خلفته من معاناة وجبر الأضرار وتعويض الضحايا وحفظ الذاكرة وتحقيق العدالة والالتزام بالإصلاح… إصلاح لم يسع إلى تدارك الماضي والتحري بشأنه فحسب، بل أيضا لضمان مستقبل يحمي حقوق الإنسان ويضمن العدالة للجميع... إصلاح من بين أبرز ركائزه التقائية إرادة الدولــة والمجتمـع لصون الكرامة والحرية.
السيدات والسادة،
سأغتنم هذه الفرصة لأستعرض جوانب ودروسا رئيسية من تجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية، في حدود ما يسمح به الوقت المخصص لهذه المداخلة:
أولا وقبل كل شيء، مخطئ من يعتقد أن هناك نموذجا واحدا أوحد لمفهوم العدالة الانتقالية… ليس هناك نموذج واحد يناسب الجميع، بل هي تجارب وممارسات متعددة، تحكمها سياقاتها ودينامية المجتمع والنتائج التي تتحقق بفضل مثل هذه المسارات.
أما ما يرتبط بالتجربة المغربية، فاسمحوا لي أن أشدد من جديد على أنها تجربة رائدة لعبت دورا محوريا في توطيد ودعم إصلاحات أوسع، فضلا عن كونها شكلت رافعة حقيقية للحفاظ على السلام والاستقرار والدمقرطة والمساواة وتكريس دولة الحق والقانون.
فمن خلال التحقيق في انتهاكات الماضي والبحث فيما جرى وكيف جرى، نجحنا في ضمان فعلية الوقاية من الانتهاكات الجسيمة وتحقيق عدم التكرار، وهو واحد من الركائز والمفاهيم الرئيسية في أي مسار للعدالة الانتقالية، حيث إنه منذ ذلك الحين، لم يتم 
تسجيل أي حالات منهجية للتعذيب أو الاختفاء القسري أو غيرها من الانتهاكات الجسيمة الأخرى. وذلك راجع بالأساس لتغير وتطور شكل وطريقة تدبير الحريات الأساسية في المغرب. 
وعلى سبيل المثال، يشهد المغرب سنويا ما يزيد عن 20 ألف احتجاج سلمي، لا تسجل بشأنها أية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مماثلة لانتهاكات الماضي. وعندما تقع أخطاء أو ادعاءات أو إشكالات في هذا التدبير، توفر إصلاحات دولة الحق والقانون ضمانات إعمال عادل للتعامل معها، وهو ما يوضح بشكل جلي تغير طريقة وشكل التعامل مع الحقوق والحريات بالمغرب. 
السيدات والسادة،
حفظ الذاكرة الجماعية ورش جوهري وأساسي في مختلف مسارات العدالة الانتقالية، ذلك أنها لا تعيد الاعتبار للضحايا فحسب، بل تساهم في تعزيز قدرة المجتمع على الصمود. لقد قطعنا في المغرب أشواطا كبيرة في هذا الصدد، من أجل حفظ ذاكرة الماضي، خاصة من خلال تهيئة أو إعادة تهيئة فضاءات الذاكرة المزمع افتتاحها أو إعادة افتتاحها في المستقبل القريب… علاوة على غنى وتنوع الإصدارات والكتب التي تتناول الماضي وتحفظ ذاكرته، ومن بينها روايات ومحكيات وقصص وشهادات للضحايا أنفسهم، طبعت ووزعت بالمغرب، فضلا عن أرشيف العدالة الانتقالية، الذي قمنا بتجميعه ورقمنته… وفيها جميعا إقرار رمزي وصريح بما جرى وما خلفه ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان… إقرار يقف صامدا، مع كل هذا، في وجه النسيان.
السيدات والسادة،
كما ذكرت سابقا، شكلت تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب دعامة أساسية لإصلاحات شاملة. وأود في هذا السياق التذكير بأنه حين أعلن جلالة الملك عن إجراء إصلاح دستوري شامل سنة 2011، جعل توصيات العدالة الانتقالية واحدة من الركائز الأساسية لهذا الإصلاح، فضلا عن التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان.
لقد أضحت هذه الحقوق، بموجب نص الدستور، في صلب الحكامة المغربية، وأصبح الميثـاق الوطني لحقـوق الإنسـان، المضمَّن في الوثيقة الدستورية، بمثابة بوصلة يجب أن توجه مختلف الفاعلين، حكوميين وغير حكوميين، ضمن إطار وطني يربط بين المسؤولية والمساءلة والالتزام بالنص الأسمى.
السيدات والسادة،
عندما نتحدث عن أثر العدالة الانتقالية بالمغرب، فإننا نتحدث عن تحول واسع وبعيد المدى لا يرتبط فقط بقضايا العدالة الانتقالية بمفهومها الضيق. لقد أصبحت المقاربة الشاملة والتشاركية التي نهجها المغرب في مساره في مجال العدالة الانتقالية، والتي تجسدت في الإشراك الفعلي والفعال للمجتمع المدني والفاعلين المعنيين الرئيسيين، نموذجا لإصلاحات أوسع. وهي المقاربة ذاتها التي اعتمدنا عليها في مراجعة الدستور، وفي ورش الجهوية، وإصلاح مدونة الأسرة، في مناسبتين، والإصلاح الانتخابي لضمان انتخابات حرة ونزيهة، من خلال الملاحظة المستقلة، التي تقوم بها المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية، فضلا عن خلق مجال أكثر تكافؤا للمعارضة ودسترة أدوارها وحقوقها، وتعزيز التمثيلية السياسية للجميع.
السيدات والسادة،
لقد ربطت مقاربة الإصلاح التي نهجها المغرب بين الماضي والحاضر، ضمن مسار تراكمي متواصل، مع العلم أن التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية مهدت الطريق لمزيد من التقدم والتطور، بشكل يجعلنا عل يقين تام أن الإصلاح لا يسير على خط مستقيم، بل هو عملية تتغذى باستمرار، تفعل فيها وتتفاعل معها الديناميات الحقوقية في المجتمع.
الإصلاح مسار، وليس مصير.
شكرا على حسن استماعكم.