بوزيد الغلى: قراءة في رواية"آخر ما تركتَ لي" للكاتب بوسحاب أهل علي

بوزيد الغلى: قراءة في رواية"آخر ما تركتَ لي" للكاتب بوسحاب أهل علي بوزيد الغلى ورواية"آخر ما تركتَ لي"
تنبسط أحداث رواية "آخر ما تركت لي" على سهلِ يانع من بديع اللغة وغريب الصور التي تجعل القارئ منغمسا في يمّ الانزياحات والاستعارات التي تُوشّي السرد بجماليات تجعل الصور السردية مزيجا من المفارقة والخيال. ولا تقتصر بلاغة المفارقة على الإنجاز اللساني وفق منظور تشومسكي، بقدر ما ترمي إلى خلخلة البناء المعتاد للنص، تعاقبيا أو حلزونيا بشكل يجعل التلاشي نوعاً من إعادة إنتاج الاستهلال على نحوٍ يمنع التكرار ويبدد الرتابة.

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام تتوزعها عناوين فرعية تعد بذاتها نصوصا موازية مشبعة بالدلالة، ولا أدل على قوتها الكامنة التي تحتاج إلى سبر وتفجير من عددها الهائل الذي يذكر بكلام ابن عربي عن سر الحروف، إذ أن كل عنوان حمّال سر مضمر، تفتقه القراءة التي ينبغي أن تفتش بين السطور عن سرّ مخبوء. لنا أن نتأمل في هذا السياق دلالة الاستهلال بالعنوان الآتي: المقابر، بصيغة الجمع، والاختتام بعنوان يستبطن المخالفة: شمعة ووردة، وهو عنوان مسبوق برديف جاء على هيئة طلب أو أمر: اشعلوا شمعة.

يمكن أن نستجلي وجه المفارقة عندما نقرأ بعين فاحصة ما دسّه الكاتب في الاستهلال والاختتام، فنكتشف أن المقابر التي تحيل على الموت تحضر في سياق الاسترجاع الذي تقوم به الذاكرة. أعني ذاكرة الألم التعيسة؛ إذ استعاد ظافر بطريقة ضمنية ذكرى مقتل "أرسلان" في أرض الشام، فوق أرض ليست أرضه، بين قومِ لا تجمعهم به قرابة دم، وإنما مصلحة تبددت، وصارت وهماً.

يأتي ذكر المقبرة بصيغة المفرد في سياق تأملي لانتماء المقبرة كفضاء جنائزي إلى عالم آخر مفارق: "يرمي بصره للمقبرة في آخر الشارع. تبدو من نافذة برجه خطوطا متوازية في بقعة كأنها ليست من هذه الأرض. منطقة تنتمي لبعد آخر ليس للأحياء صلة به. لم ينتبه للمقبرة من قبل، أيام لم يكن طقس باريس كائنا نزقا، يتملص من فصل ليعانق آخر عناقا في غير محله. حتى المناخ حتى المناخ أصيب بلوثة الجنون التي امتلكت العالم"[1]. إنه عالم غاص بالروح المادية التي أذكت نار الصراع من أجل السيطرة على الأرض، وما فوقها وما تحتها.

 يقظة الحواس:
إدراك الراوي تغيّرَ العالم بشكل "جنوني" أثمرته في المقبوس السابق يقظة الحواس. انتباهة العين التي لم تدرك، من ذي قبلُ، أن المقبرة "مكانٌ غير منتمٍ إلى عالمنا المشهود أو المشخص"، وهذا مورد قول جون لوك "لو تغيرت حواسنا وأصبحت أكثر حدة مما هي عليه، لتغيرت مظاهر الأشياء عندنا، ولأصبحت غير مناسبة لوجودنا".

في مقابل حاسة العين التي تحضر في الاستهلال وسيطا لإدراك المقبرة، نستشف بطريق التقابل أو المقابلة كما تعلمنا دروس البلاغة أن "اليد"، في الفصل الأخير من الرواية، هي سبب ما شعر به "ظافر" من ألم ناتج عما اعتبره خيانة عهد اقترفتها في حقه لجين، غير أن الإدراك لم يكن سوى بحاسة البصر مرة أخرى:

"لم أدر كم من الوقت وأنا مسمر بصري على تلك الصورة حيث يدك التي لا أخطئها تمسك يد رجل آخر. ومهما سألت نفسي "ما يهمني الان من يمسك تلك اليد" لا أجد تفسيرا لما حركته داخلي الصورة من ألم، كأنك خنتني من جديد"[2].

الإحساس المتزامن مع النظر إلى الصورة في هذا السياق يفتح مستودع الذكرى، والبصر يتضافر مع اللمس في الإدراك، إذ أن الحواس حسب دافيد لوبروطون «تصحح بعضها بعضًا، وتتناوب وتتمازج وتُحيل على الذاكرة وعلى تجربة تمسك بالإنسان في تمامه لمنح التماسك"[3].

تسريد الألم وتمظهراته:
يتمظهر الألم في النصّ تمظهرات تترواح بين الألم الفيزيولوجي الذي يجعل منه عذاباً، "والشخص في حالة ألم هو الوحيد الذي يعرف مدى ألمه، وهو وحده ضحية العذاب الأليم. الألم لا يقبل البرهنة، بل يعاش كتجربة"[4] على حد تعبير دافيد لوبروتون. وذاك ما عناه السارد على وجه التحديد، وهو يصف تجربة الألم التي كابدها "ظافر" في ساحة القتال في سوريا: " شعر عندها بالألم يتركز برجله ويصعد كزئبق الباروميتر إلى رأسه بشكل مريع لا يحتمل. شيئاً فشيئاً أخذ يفقد صلته بالعالم من حوله، كأنه ينظر للمشهد من زاوية أخرى. ينظر لنفسه وهو يشد رجله ويصرخ ألماً، ويرى الصبي وهو يخرج من جيوب سترته مساعدات طبية أولية، يمدها لمقاتل يتقرفص بجانب الرجل المعطوبة، يشدها بحزام، ثم يغيب ظافر عن الوعي"[5].

يتضافر هذا الألم الجسماني الفظيع مع ألم وجداني نفسي في تجربة ظافر الذي وجد نفسه في معمان حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وإنما ولج غمارها متنكرا في هيئة صحفي مرافق للفرنسي فيليب آملا أن يستنقذ صديقه "أرسلان" الملقب بالصحراوي من البئر المظلمة التي وضع نفسه فيها، حين قرر الانضمام إلى جبهة النصرة. تزداد حدة الألم العاطفي النفسي حين يعلم ظافر بموت صديقه أرسلان إثر إصابة بليغة، فتنفجر الأسئلة في رأسه: "كيف مات؟ وحيدا؟ هل الموت باغته دون أن يحس به؟ مات صديقه. انتهى كل شيء. الألم، عقدة الذنب، السكر، الفتيات، الرغبات، التيه.. انتهى كل شيء"[6].

عندما نـتأمل سيرة الألم أو السيرة المؤلمة للصحراوي أرسلان؛ وهذا المركب الاسمي يستبطن حجم التغيرات التي شهدها مجتمع الصحراء على مستوى تغيّر الأسماء على نحو استلابي، نجد أن معاناته من الألم الوجداني الناجم عن الشعور بالذنب (محاولة اغتصاب أخته تحت تاثير الحبوب المهلوسة، جلسات النبيذ الماجنة...) أفرزت لديه أثراً نفسياً انسحابيا مدمراً، إذ انضم إلى المقاتلين في أرض الشام آملا في التخلص من عقابيل الماضي ومحو الذنوب عبر ما اعتبره انضماماً للمجاهدين. إنه بكل اختصار، استجار من حر الرمال الساخنة (الرمضاء) بالنار...

العنف العابر للحدود والجنسيات:
تثير الرواية بشكل غير مباشر، وغير منحاز، مسألة العنف المعولم الذي أضحت واجهته وذراعه شركات تصدير الحروب والتجنيد لها، لا يذكر النص ذراع أمريكا في حربها على العراق، بالرغم أنه يشير إلى أن "أرسلان" قتل إثر غارة أمريكية على جبهة النصرة في سوريا التي لا تعدو أن تكون محضنا من محاضن الحرب ضد النظام، ظاهرها الدين وباطنها تجنيد الأغمار من أمثال أرسلان الصحراوي الذي لا يعبأ النص بتاريخه العائلي بقدر ما يشير إشارة عابرة إلى أنه سليل عائلة من محدثي النعم...ظهور شخصيات من جنسيات مختلفة في القسم الأخير من الرواية مثل فيليب الفرنسي وحارث والمصري يؤشر على توسع الاستقطاب والتجنيد من أجل خوض حرب عمياء. ليس مفاجئا أن يكون "بروفايل" أرسلان مناسبا لهذا الوضع، فسنده الشخصي والعائلي ينبئ عن شخصية تمردت على وضعها العائلي المشوب بالإثراء بلا سبب، وانغمست في المجون قدر انغماسها في النضال في ساحات الربيع العربي بمراكش. بروفايل يناسب شخصيات فشلت في اقتطاف أزهار الربيع، فأغرتها دعاوى الجهاد المقدس بالذهاب إلى إدلب حيث مات.

زهرة الكالا رمز التناقضات :
يعمل النص على تسريد كثير من الخيبات العاطفية (علاقة ظافر ولورا، وأرسلان وسلوى..) والسياسية والحقوقية (خيبات الربيع العربي)، ويتخذ من زهرة الكالا رمزاً للشيء الذي يحمل نقضيه، فهي "زهرة جميلة، لكنها سامة". ومع ذلك ينتصر النصّ لمسألة التعايش. التعايش مع الألم، قبول الهزيمة في العلاقات العاطفية...

خاتمة: تجمع رواية "آخر ما تركت لي" بين رشاقة الجملة السردية وتماسك الحبكة التي تجعل من النص الروائي عالما متخيلا منفتحا على مرجعيات واقعية.

هوامش
[1] بوسحاب أهل علي، آخر ما تركت لي، رواية، منشورات إيبيدي، الطبعة الأولى،2023،ص270.

[2] بوسحاب أهل علي، آخر ما تركت لي،ص4.
[3] يرجع إلى : https://www.alfaisalmag.com/?p=23084

[4] دافيد لوبروتون، تجربة الألم بين التحطيم والانبعاث، ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2017، ص15.
[5] بوسحاب أهل علي، آخر ما تركت لي، ص 265.
[6] بوسحاب أهل علي، آخر ما تركت لي، ص268.