بوبكر انغير:  الفساد  يكبّل التّنمية ويهدر الثّروة.. وعلى النّخب أن تستفيق من سباتها

بوبكر انغير:  الفساد  يكبّل التّنمية ويهدر الثّروة.. وعلى النّخب أن تستفيق من سباتها بوبكر انغير ، المنسّق الوطني للعصبة الأمازيغيّة لحقوق الإنسان
يرى بوبكر أنغير المنسق الوطني للهيئة الأمازيغية لحقوق الإنسان أن المداخل الحقوقية والقانونية والدستورية كفيلة بالتصدي لأكل أوجه الفساد ونهب المال العام بالمغرب، وأن سقف دستور 2011 ساهم في الرقي بهذا الجانب، ووظف كل الآليات والواجهات من أجل أن تتبوأ الجمعيات مكانتها وتمنح الوضع الاعتبار بالإبلاغ عن جرائم الفساد ونحوها.
 في هاته الورقة يرصد الحقوقي أنغير وجهة نظره في سياق النقاش والجدل الدائر حول موضوع مصادقة الحكومة على مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية.
 

 مصادقة‭ ‬حكومية‭ ‬عكس‭ ‬التّيار‭ ‬وضد‭ ‬الإرادة‭ ‬الملكية 
لابدّ‭ ‬من‭ ‬التذكير‭ ‬بأن‭ ‬الدستور‭ ‬المغربي‭ ‬لسنة‭ ‬2011‭ ‬قد‭ ‬أعطى‭ ‬مكانة‭ ‬متميزة‭ ‬لهيئات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬التّرافع‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬القضايا‭ ‬المجتمعية‭ ‬التي‭ ‬تهم‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭ ‬وأعطى‭ ‬للمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬أهمية‭ ‬قصوى‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬وتتبع‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‮ ‬‭ ‬عبر‮ ‬‭ ‬العرائض‭ ‬والملتمسات‭ ‬التشريعية‭ ‬رغم‭ ‬الصعوبات‭ ‬التقنية‭ ‬والإدارية‭ ‬العملية‭ ‬التي‭ ‬تحد‭ ‬من‭ ‬لجوء‭ ‬المواطنين‭ ‬وهيئات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الآليات‭ ‬التي‭ ‬تجسد‭ ‬روح‭ ‬الديموقراطية‭ ‬التشاركية‮ ‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬دعم‭ ‬و‭ ‬تعضيد‭ ‬للديموقراطية‭ ‬الثمثيلية‭ ‬الانتخابية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الخطب‭ ‬الملكية‭ ‬تؤكد‭ ‬دائما‭ ‬أهمية‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬القيام‭ ‬بأدواره‭ ‬المواطنة‭ ‬المسؤولة،‭ ‬لكن‭ ‬عكس‭ ‬التيار‭ ‬الإصلاحي‭ ‬وضدا‭ ‬على‭ ‬الإرادة‭ ‬الملكية‭ ‬المستنيرة‭ ‬صيغ‭ ‬مشروع‭ ‬قانون‭ ‬المسطرة‭ ‬الجنائية‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬تعديلات‭ ‬جوهرية‭ ‬مهمة‭ ‬ومتقدمة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬وفي‭ ‬ترسيخ‭ ‬ضمانات‭ ‬المحاكمة‭ ‬العادلة،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬حرمان‭ ‬هيئات‮ ‬‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬من‭ ‬اللّجوء‭ ‬إلى‮ ‬‭ ‬القضاء‭ ‬فيه‭ ‬تراجع‭ ‬ونكوص‭ ‬حقوقي‭ ‬واضح‭.‬‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬أهداف‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تتبع‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‭ ‬والتّرافع‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬القضايا‭ ‬المجتمعية‭ ‬حسب‭ ‬القانون‭ ‬الأساسي‭ ‬لكلّ‭ ‬هيئة‭ ‬ويسمح‭ ‬ذلك‭ ‬بتأطير‭ ‬المواطنين‭ ‬وتربيتهم‭ ‬على‭ ‬الرّوح‭ ‬الدّيموقراطية‭ ‬وعلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالشؤون‭ ‬العامة‭ ‬للمواطنين‭.‬

 
محاربة‭ ‬الفساد‭ ‬وتخليق‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬من‭ ‬الأولويات‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬المغرب‮ ‬‭ ‬بمعية‭ ‬الشركاء‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬مؤسّسات‭ ‬الدولة‭ ‬والإعلام،‭ ‬لأنّ‭ ‬عمل‭ ‬البعض‭ ‬يكمّل‭ ‬عمل‭ ‬الاخرين‭. ‬‮ ‬لكن‭ ‬مشروع‭ ‬قانون‭ ‬المسطرة‭ ‬الجنائية‭ ‬أراد‭ ‬حصر‭ ‬محاربة‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬الأطراف‭ ‬الرّسمية،‭ ‬مما‭ ‬يعتبر‭ ‬انحرافا‭ ‬كبيرا‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬دستور‭ ‬المملكة‭ ‬وتراجع‭ ‬مهمّ‭ ‬عن‭ ‬مكتسبات‭ ‬كثيرة‭ ‬حقّقها‭ ‬المجتمع‭ ‬المدنيّ‭ ‬المغربيّ‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬عموما‭.‬
‮ ‬
 هل‭ ‬الفساد‭ ‬عقيدة‭ ‬رسميّة؟
 لا‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بعقيدة‭ ‬رسمية‭ ‬للدّولة‭ ‬تجاه‭ ‬الفساد،‭ ‬إنّما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الحالات‭ ‬بمبادرات‭ ‬فردية‭ ‬ممتنعة‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬صناع‭ ‬القرار‭ ‬التشريعي‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مستوياته‭ ‬الذين‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬خطرا‭ ‬يهدد‭ ‬المفسدين‭ ‬ويفضحهم‭.‬

 
الدّستور‭ ‬المغربي‭ ‬واضح‭ ‬فيما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالمكانة‭ ‬المهمّة‭ ‬التي‭ ‬أعطاها‭ ‬للمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬والواقع‭ ‬يبيّن‭ ‬الدور‭ ‬التّاريخي‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬‮ ‬والإعلام‭ ‬المستقلّ‭ ‬النّزيه‭ ‬في‭ ‬إشاعة‭ ‬روح‭ ‬النّقاش‭ ‬الديموقراطي‭ ‬الحرّ‭ ‬وتسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬ملفات‭ ‬حقوقية‭ ‬وتدبيرية‭ ‬كبيرة‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬حكومة‭ ‬الرّاحل‭ ‬عبد‭ ‬الرحمان‭ ‬اليوسفي‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكار‭ ‬الدّور‭ ‬المميّز‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬قضايا‭ ‬مهمّة‭ ‬وأساسية‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الأصعدة،‭ ‬كما‭ ‬طرح‭ ‬مبادرات‭ ‬مجتمعية‭ ‬راقية‭ ‬أزعجت‭ ‬بعض‭ ‬السّياسيين‭ ‬الذين‭ ‬تجاوز‭ ‬الزّمن‭ ‬مقارباتهم‭ ‬التدبيرية‭ ‬التقليدية‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬التّقليل‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬عبر‭ ‬التّشكيك‭ ‬في‭ ‬نواياه‭ ‬تارة‭ ‬أو‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭ ‬تكبيله‭ ‬عبر‭ ‬التّرسانة‭ ‬التشريعية‭.‬
 
ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نعرفه‭ ‬وندركه‭ ‬جيّدا‭ ‬أنّ‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تقدّمت‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الديموقراطية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وحققت‭ ‬مستويات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والتّنمية‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬ذلك‭ ‬إلاّ‭ ‬بالعمل‭ ‬الجبّار‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدو‭. ‬‮ ‬فدول‭ ‬مثل‭ ‬ألمانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وغيرها‭ ‬أعطت‭ ‬أولوية‭ ‬قصوى‭ ‬للمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬ومكّنته‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬وسائل‭ ‬العمل‭ ‬ووفّرت‭ ‬له‭ ‬كلّ‭ ‬ضمانات‭ ‬العمل‭ ‬والمبادرة‭ ‬وحافظت‭ ‬على‭ ‬استقلاليته‭ ‬مادّيا‭ ‬وتدبيريا‭ ‬فأعطى‭ ‬نتائج‭ ‬باهرة‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الأصعدة‭. ‬نحن‭ ‬في‭ ‬مغرب‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬بعض‭ ‬النّخب‭ ‬المدبّرة‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬منافسا‭ ‬انتخابيا‭ ‬أو‭ ‬تريده‭ ‬ملحقة‭ ‬سيّاسية،‭ ‬لذلك‭ ‬نرى‭ ‬الدّعم‭ ‬العمومي‭ ‬الذي‭ ‬يعطى‭ ‬كمنح‭ ‬للمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬خاضع‭ ‬للمزاج‭ ‬السّياسي‭ ‬الإنتخابي،‭ ‬ولا‭ ‬يمنح‭ ‬قيمة‭ ‬لاستقلالية‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬ولا‭ ‬للبرامج‭ ‬والمنجزات‭ .‬
 
في‭ ‬نظري،‭ ‬حان‭ ‬الأوان‭ ‬لتنظيم‭ ‬قانوني‭ ‬جديد‭ ‬للمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬خارج‭ ‬الحكومة‭ ‬والأحزاب‭ ‬يمتح‭ ‬روح‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬دستور‭ ‬المملكة‭ ‬والنّفس‭ ‬الديموقراطي‭ ‬الحداثي‭ ‬لجلالة‭ ‬الملك‭ ‬محمّد‭ ‬السّادس‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬بمشروعية‭ ‬الإنجاز‭ ‬والفعل‭ ‬الدّيموقراطي‭ ‬المسؤول‭ ‬للمواطنين‭ ‬خارج‭ ‬حسابات‭ ‬السّياسيين،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬نشاط‭ ‬المجتمع‭ ‬المدنيّ‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وفق‭ ‬مدونة‮ ‬‭ ‬قانونية‭ ‬تغيّر‭ ‬القانون‭ ‬المنّظم‭ ‬للجمعيات‭ ‬والتعاونيات‭ ‬وجميع‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬إرساء‭ ‬مجتمع‭ ‬مدنيّ‭ ‬حقيقيّ‭ ‬يستطيع‭ ‬الإنصات‭ ‬لروح‭ ‬الشّعب‭ ‬ومتطلباته‭ ‬وآماله‭ ‬في‭ ‬تناغم‭ ‬تامّ‭ ‬مع‭ ‬السّلطات‭ ‬العمومية‭ ‬المواطنة‭ ‬المسؤولة،‭ ‬ومدخل‭ ‬ذلك‭ ‬التّمويل‭ ‬المستقلّ‭ ‬عن‭ ‬كلّ‭ ‬الحسابات‭ ‬السّياسية‭ ‬الحزبية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وإعطاء‭ ‬حرية‭ ‬أوسع‭ ‬للمبادرة‭ ‬الجمعوية‭ ‬الحقوقية‭ ‬للتبع‭ ‬وتقييم‭ ‬ومراقبة‭ ‬السّياسات‭ ‬العمومية‭ ‬في‭ ‬احترام‭ ‬للقانون‭ ‬والمؤسّسات‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تكاملي‭ ‬حقيقي‭ ‬‮ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭.‬
‮ ‬
 الفساد‭ ‬‮ ‬يكبّل‭ ‬التّنمية‭ ‬ويهدر‭ ‬الثّروة؟
 تقدر‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الدّولية‭ ‬تكلفة‭ ‬الفساد‭ ‬بالملايير‭ ‬من‭ ‬الدولارات،‭ ‬والأخطر‭ ‬من‭ ‬ذلك‮ ‬‭ ‬بعشرات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الأرواح‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬تزهق‭ ‬بفعل‭ ‬فساد‭ ‬الأنظمة‭ ‬الصّحية‭ ‬والتّعليمية‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬الثالثية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وكذا‭ ‬الفساد‭ ‬المستشري‭ ‬في‭ ‬دواليب‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬الذي‭ ‬يؤدّي‭ ‬الى‭ ‬انعدام‭ ‬المراقبة‭ ‬على‭ ‬المنتجات‭ ‬الغذائية‭ ‬وعلى‭ ‬السّلامة‭ ‬الصّحية‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬المنتوجات‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬التي‭ ‬تعطي‭ ‬الشركات‭ ‬الكبرى‭ ‬عمولات‭ ‬ورشاوى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تببيض‭ ‬أوجه‭ ‬هذه‭ ‬المنتوجات‭ ‬المسرطنة،‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬اليوم‭ ‬بفعل‭ ‬سياسات‭ ‬التّسويق‭ ‬والإشهار‭ ‬أمرا‭ ‬مألوفا‭ ‬ويوميا‭ ‬لدى‭ ‬أطفالنا‭ ‬ولدى‭ ‬أسرنا‭ ‬عموما‭.‬

 
الفساد‭ ‬عمّ‭ ‬جميع‭ ‬البلدان‭ ‬وجميع‭ ‬القطاعات‭ ‬ويعتبر‭ ‬خطرا‭ ‬محدقا‭ ‬بالعالم‭. ‬اليوم‭ ‬لذلك‭ ‬نرى‭ ‬مئات‭ ‬الأطفال‭ ‬يتضورون‭ ‬جوعا‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الثالثية‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬غنية‭ ‬بالثّروات‭ ‬المعدنية‭ ‬والطبيعية،‭ ‬ومثال‭ ‬إفريقيا‭ ‬صارخ‭ ‬في‭ ‬الموضوع،‭ ‬ونظرا‭ ‬للرّشاوى‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تمنحها‭ ‬الشّركات‭ ‬الكبرى‭ ‬للأنظمة‭ ‬السّياسية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬بلدانها‭ ‬فإنها‭ ‬تقوم‭ ‬بنهب‭ ‬هذه‭ ‬البلدان‭ ‬وإيقاعها‭ ‬في‭ ‬مستنقعات‭ ‬الفقر‭ ‬والجهل‭ ‬والأمية‭. ‬فالسّودان‭ ‬وتشاد‭ ‬والنّيجر‭ ‬أمثلة‭ ‬صارخة‭. ‬هذه‭ ‬البلدان‭ ‬عندها‭ ‬الأورانيوم‭ ‬والغاز‭ ‬والذهب‭ ‬لكنّ‭ ‬شعوبها‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬أبسط‭ ‬مقوّمات‭ ‬العيش‭ ‬بسبب‭ ‬انتشار‭ ‬الفساد‭ ‬والرّشوة‭ ‬وتعاظم‭ ‬الصّراعات‭ ‬الّدموية‭ ‬التي‭ ‬يتمّ‭ ‬تغذيتها‭ ‬بنفس‭ ‬المنطق‭ ‬الاستغلالي‭.‬
 
في‭ ‬بلدنا‭ ‬المغرب‭ ‬قامت‭ ‬المؤسّسة‭ ‬الملكية‭ ‬ومؤسّسات‭ ‬الدولة‭ ‬بمجهودات‭ ‬قانونية‭ ‬وعملية‭ ‬مهمّة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحدّ‭ ‬من‭ ‬الفساد‭ ‬وتم‭ ‬إنشاء‭ ‬هيئة‭ ‬دستورية‭ ‬تعنى‭ ‬بالنزاهة‭ ‬وتخليق‭ ‬الحياة‭ ‬العامة،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬المجهودات‭ ‬تعترضها‭ ‬ترسانة‮ ‬‭ ‬قانونية‭ ‬يجب‭ ‬تغييرها‭ ‬بشكل‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬إرادة‭ ‬حقيقية‭ ‬للإصلاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والسّياسي‭ ‬والمجتمعي،‭ ‬لأنّ‭ ‬الفساد‭ ‬ينتشر‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الدّواليب‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وفي‭ ‬الصفقات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تهمّ‭ ‬كبريات‭ ‬المشاريع‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للبلاد،‭ ‬ممّا‭ ‬يجعل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬أمام‭ ‬تحديات‭ ‬كبرى‭ ‬بين‭ ‬سندان‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬ومتطلّباته‭ ‬ومطرقة‭ ‬اختلال‭ ‬توزان‭ ‬مناخ‭ ‬الأعمال‭ ‬وطنيا‭. ‬ولكي‭ ‬يستمرّ‭ ‬الفساد‭ ‬الإقتصادي‭ ‬لابدّ‭ ‬من‭ ‬حماية‭ ‬سياسية‭ ‬له‭. ‬لذلك‭ ‬نرى‭ ‬بعض‭ ‬السّياسيين‭ ‬يلجون‭ ‬العمل‭ ‬السّياسي‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬بالوكالة‭ ‬للتأثير‭ ‬على‭ ‬القوانين‭ ‬الكابحة‭ ‬للفساد‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬إصدار‭ ‬تشريعات‭ ‬تلائم‭ ‬طموحات‭ ‬شركائهم‭ ‬أو‭ ‬وكلائهم‭ ‬الاقتصاديين،‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬محصورا‭ ‬‮ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬السياسي‭ ‬المغربي،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ظاهرة‭ ‬عالمية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬سيطرة‭ ‬‮ ‬كبار‭ ‬المستثمرين‭ ‬ورجال‭ ‬الأعمال‭ ‬على‭ ‬برلمان‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدّول‭ ‬لضمان‮ ‬‭ ‬حماية‭ ‬مصالحهم‭.‬
 
للأسف‭ ‬الشّديد‭ ‬المواطن‭ ‬البسيط‭ ‬المقهور‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬ثمن‭ ‬انتشار‭ ‬الفساد‭ ‬وانعدام‭ ‬روح‭ ‬التّنافس‭ ‬الشريف‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬المستويات‭. ‬ولعلّ‭ ‬معدّلات‭ ‬التّضخم‭ ‬والبطالة‭ ‬ورغبة‭ ‬معظم‭ ‬الشّباب‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭ ‬نحو‭ ‬الفردوس‭ ‬الغربيّ‭ ‬الموعود‭ ‬ولو‭ ‬على‭ ‬قوارب‭ ‬الموت‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الفساد‭ ‬يقتل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬ويقلّص‭ ‬فرص‭ ‬التنمية‭ ‬ويهدم‭ ‬أسس‭ ‬الثّقة‭ ‬بين‭ ‬المواطن‭ ‬والمؤسسات‭ ‬العمومية‭. ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬ثروات‭ ‬كبرى‭ ‬طبيعية‭ ‬وبشرية‭ ‬لو‭ ‬تمّ‭ ‬استغلالها‭ ‬بشكل‭ ‬أمثل‭ ‬وتمّ‭ ‬التوزيع‭ ‬العادل‭ ‬للثروة‭ ‬الوطنية‭ ‬وتمّ‭ ‬تشجيع‭ ‬الكفاءات‭ ‬لا‭ ‬الولاءات،‭ ‬وتمّ‭ ‬تشجيع‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬المنتج‭ ‬لا‭ ‬‮ ‬الرّيعي‭ ‬لشهدنا‭ ‬اقتصادنا‭ ‬ينمو‭ ‬ويزدهر‭ ‬ولعشنا‭ ‬في‭ ‬بحبوحة‭ ‬وازدهار‭ ‬ولسجّلنا‭ ‬معدّلات‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬التّنمية‭ ‬البشرية،‭ ‬لكن‭ ‬المجهودات‭ ‬قائمة‭ ‬والتحديات،‭ ‬أي‭ ‬الصعوبات‭ ‬كبيرة‭ ‬ومؤثرة‭.‬
 
 الفساد‭ ‬يتغوّل‭ ‬من‭ ‬يحميه‭ ‬ويصونه؟
في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬المجهودات‭ ‬المؤسّساتية‭ ‬الرقابية‭ ‬مهمة‭ ‬وذات‭ ‬وقع‭ ‬إيجابي،‭ ‬إذ‭ ‬سنويا‭ ‬تقوم‭ ‬جميع‭ ‬الأجهزة‭ ‬الرقابية‭ ‬بعمليات‭ ‬مراقبة‭ ‬وتقييم‭ ‬للسياسات‭ ‬العمومية‭ ‬لكنّ‭ ‬الفساد‭ ‬لا‭ ‬ينحصر‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬وطني‭ ‬بل‭ ‬له‭ ‬أبعاد‭ ‬وارتباطات‭ ‬متشعّبة،‭ ‬فالفساد‭ ‬يمكن‭ ‬تشبيهه‭ ‬باليد‭ ‬الخفيّة‭ ‬لآدم‭ ‬سميت‭ ‬التي‭ ‬تعبث‭ ‬بكلّ‭ ‬شيء‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬طبيعيا‭ ‬ومألوفا‭. ‬والفساد‭ ‬لا‭ ‬لون‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬رائحة‮ ‬‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬القبض‭ ‬عليه‭ ‬أو‭ ‬محاصرته‭ ‬ليس‭ ‬عملية‭ ‬ميكانيكية‭ ‬أو‭ ‬تقنية‭ ‬بسيطة‭. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬تمت‭ ‬مجهودات‭ ‬قانونية‭ ‬لتجويد‭ ‬وتخليق‭ ‬نظام‭ ‬الصفقات‭ ‬والطلبيات‭ ‬العمومية‭ ‬وتم‭ ‬رقمنة‭ ‬المجال‭ ‬وضبطه،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الفساد‭ ‬الذي‭ ‬يعرفه‭ ‬المجال‭ ‬تمّ‭ ‬القضاء‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬تحايل‭ ‬ومقاومة‭ ‬لكلّ‭ ‬تغيير‭ ‬قانوني‭ ‬يشترك‭ ‬فيه‭ ‬المتضرّرون‭ ‬من‭ ‬الإصلاح‭ ‬الذين‮ ‬‭ ‬يخترعون‭ ‬حيلا‭ ‬للتّحايل‭ ‬على‭ ‬القانون‭.‬‮ ‬‭ ‬نفس‭ ‬الشيء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نلاحظه‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬القوانين‭ ‬زاجرة‭ ‬للغشّ‭ ‬الانتخابي‭ ‬لكنّ‭ ‬الفساد‭ ‬يتمّ‭ ‬بتوافق‭ ‬بين‭ ‬المرشّح‭ ‬والمصوّت‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬لأيّ‭ ‬هيئة‭ ‬رقابية‭ ‬أن‭ ‬تضبطه‭. ‬لذلك‭ ‬فمحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬تتطلّب‭ ‬وعيا‭ ‬مجتمعيا‭ ‬ومستوى‭ ‬معيشيا‭ ‬محترما‭ ‬وإجراءات‭ ‬قانونية‭ ‬عملية،‭ ‬وهي‭ ‬كلّها‭ ‬مسائل‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬بين‭ ‬عشيّة‭ ‬وضحاها‭. ‬الكلّ‭ ‬مسؤول‭ ‬عن‭ ‬محاربة‭ ‬الفساد‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬لأجهزة‭ ‬رقابية‭ ‬محدودة‭ ‬العدد‮ ‬‭ ‬بشساعة‭ ‬البلاد‭ ‬أن‭ ‬تراقب‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭. ‬‮ ‬المواطن‭ ‬كذلك‭ ‬وهيئات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬والإعلام‭ ‬والأحزاب‭ ‬السّياسية‭ ‬والمؤسّسات‭ ‬الدّينية‭ ‬عليها‭ ‬مسؤولية‭ ‬الانخراط‭ ‬الإيجابي‭ ‬في‭ ‬التّحسيس‭ ‬والتّرافع‭ ‬و‭ ‬اليقظة‭ ‬لمواجهة‭ ‬تغوّل‭ ‬الفساد‭.‬
 
ما‭ ‬السّبيل‭ ‬للتّصدي‭ ‬للفساد‭ ‬ومحاربة‭ ‬الرّيع؟
الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬تعمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬وسعها‭ ‬لمحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬وكلّ‭ ‬الظواهر‭ ‬المشينة‭ ‬وجلالة‭ ‬الملك‭ ‬هو‭ ‬ضامن‭ ‬وحدة‭ ‬البلاد‭ ‬ومسارها‭ ‬الديموقراطي‭ ‬وأمنها‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الأصعدة‭ ‬الرّوحية‭ ‬والاقتصادية‮ ‬‭ ‬والتشريعية‭. ‬والنّموذج‭ ‬المواطن‭ ‬الذي‭ ‬تريده‭ ‬بلادنا‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬لخدمة‭ ‬بلده‭ ‬والسهر‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬المواطنين‭ ‬ورقيهم‭. ‬فالملك‭ ‬يكرّم‭ ‬الأبطال‭ ‬الرّياضيين‭ ‬وصناع‭ ‬الأمل‭ ‬والأمجاد‭ ‬من‭ ‬المغاربة‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬النّموذج‭ ‬الذي‭ ‬يريده‭ ‬لشعبه،‭ ‬لكنّ‭ ‬اليد‭ ‬الواحدة‭ ‬لا‭ ‬تصفّق‭ ‬فالمنظومة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المعولمة‭ ‬والمنظومة‭ ‬السّياسية‭ ‬ببلادنا‭ ‬تعتريهما‭ ‬نقائص‭ ‬كبيرة‭ ‬ولا‭ ‬تساعدان‭ ‬على‭ ‬إشاعة‭ ‬روح‭ ‬التّنافس‭ ‬الخلاّق‭ ‬وصقل‭ ‬المواهب‭ ‬وتشجيع‭ ‬الكفاءات،‭ ‬بل‭ ‬اقتصادنا‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬مكبّلا‭ ‬بالرّيع‭ ‬وسياسات‭ ‬أحزابنا‭ ‬ماتزال‭ ‬مطوّقة‭ ‬بالفساد‭ ‬والصّراعات‭ ‬الذّاتية‭ ‬وانعدام‭ ‬الاستحقاق‭.‬

 
نتمنّى‭ ‬لبلدنا‭ ‬خيرا‭ ‬ولشعبنا‭ ‬وعيا‭ ‬متبّصرا،‭ ‬لأنّ‭ ‬الوعي‭ ‬السّياسي‭ ‬والمجتمعي‭ ‬هو‭ ‬ضمانة‭ ‬عدم‭ ‬تغلغل‭ ‬الفساد‭ ‬وكلّ‭ ‬القيم‭ ‬الهدّامة‭ ‬للمجتمعات‭ ‬ومسؤولية‭ ‬النّخب‭ ‬المثّقفة‭ ‬المستنيرة‭ ‬كبيرة‭ ‬لتستفيق‭ ‬من‭ ‬سباتها‭ ‬وعزلتها‭ ‬وتساهم‭ ‬في‭ ‬تهذيب‭ ‬روح‭ ‬المجتمع‭ ‬والدّفاع‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬الإجتماعية‭ ‬الحقيقية‭.‬