ضمن مشروع قانون 03.23 بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية، كشف المحامي رشيد ايت بلعربي من هيئة القنيطرة للمحامين، أنه يتضمن ضمن مواده، اختلال التوازن بين وقاية المجتمع من الجريمة وحماية حقوق وحريات الأفراد، وكذا إجراءات التفتيش والحجز، التقاط المكالمات والاتصالات عن بعد والاختراق.. فيما يلي التصريح الذي أدلى به المحامي رشيد أيت بلعربي:
لغط كبير أثاره مشروع تغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية الذي صادق عليه المجلس الحكومي الأسبوع الماضي، ليس بسبب ما تم تسويقه في الإعلام الرسمي حول الملاءمة مع الدستور والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة والميثاق الوطني حول إصلاح منظومة العدالة وغيرها، بل بسبب القيود الكثيرة والتقليص المبالغ فيه من هامش الحقوق والحريات المضمونة دستوريا. واسترسالا في الملاحظات التي أثرناها وأثارها الكثير من المهتمين بشأن هذا المشروع، أريد تسليط الضوء في هاته المناسبة على بعض المواد التي وردت فيه سواء لتعديل بعض مواد القانون الحالي وكذا بعض المواد التي وردت لأول مرة. وهي المواد التي تتضمن انتهاكا خطيرا لبعض الحقوق الواردة في الدستور وكذا المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وفي مقدمتها الحق في حماية الحياة الخاصة وفي حماية سرية الاتصالات الشخصية وحق الدفاع.
وهكذا فإنه بالاطلاع مثلا على التعديل المقترح على المادة 59 من قانون المسطرة الجنائية، يتضح أن الحياة الخاصة وسرية الاتصالات أصبحت مستباحة ولا تتمتع بأدنى حماية. فالبحث التمهيدي في جنحة بسيطة قد يسمح لضابط الشرطة بالعبث بكل ما يتعلق بحياتك الخاصة واتصالاتك والحياة الخاصة لأفراد عائلتك ممن يقطنون معك في المنزل الخاضع للتفتيش ومراسلاتهم. فلا حق لك في منع ضابط الشرطة من الاطلاع على هاتفك أو حاسوبك أو هواتف أو حواسيب أبنائك أو زوجتك أو كل فرد من العائلة يتواجد بمنزلك ولو بالصدفة. ولا حق لك في منع اطلاعه أيضا على كل الوثائق و المستندات والمعطيات والبرامج و الأجهزة المعلوماتية والأدوات الرقمية المتواجدة بالمنزل. وبعد الانتهاء من العبث بكل هذا آنذاك يمكنه الاحتفاظ بكل ما له علاقة بالجريمة. ويمكن لضابط الشرطة أيضا بإذن من النيابة العامة إخضاع الأجهزة المعلوماتية ودعامات التخزين المحجوزة لخبرة تقنية من أجل استخراج البيانات والأدلة ذات الصلة بالجرائم موضوع البحث ولو تم حذفها سابقا. والأخطر من ذلك أن الضابط لا يكتفي بحجز ما له علاقة بالجريمة موضوع البحث بل يمكنه حجز كل شيء عثر عليه عرضا وله علاقة بجريمة أخرى. بمعنى أن البحث قد ينطلق حول جريمة ما وينتهي بجرائم أخرى قد طواها الزمن ولو تعلق الأمر بأشخاص آخرين تمت مصادفتهم في منزلك.
إن ما يؤاخذ على هاته المادة ليس إجراءات التفتيش والحجز في حد ذاتها. فهذان الإجراءان كان معمولا بهما من قبل وقد تقتضيهما مصلحة المجتمع. لكن ما يؤاخذ عليها أنها منحت للضابطة القضائية صلاحيات واسعة دون قيود ودون أدنى ضمانات قانونية ومسطرية لحماية الحياة الخاصة للأشخاص وأسرهم وكذا سرية مراسلاتهم. فعلى سبيل المثال إذا كان الضابط يبحث في هاتف مشتبه فيه على دليل حول جنحة الرشوة في علاقة بينه وبين أحد الموظفين العموميين، فما الذي يعطيه الحق في تصفح مضمون كل المراسلات الخاصة بين هذا المشتبه فيه وبين أفراد عائلته وأصدقائه ومحيطه الاجتماعي؟ فالأولى أن يتم وضع قيود لضمان احترام سرية الاتصالات بين المشتبه فيه وكل هؤلاء وحصر البحث في الشخص أو الأشخاص الذين يحتمل أن تكون لهم علاقة بالجريمة موضوع البحث.
أما المادة 108 المتعلقة بالتقاط المكالمات والاتصالات المنجزة عن بعد والتي دخلت المسطرة الجنائية بمقتضى تعديلات سنة 2003 في ظروف أمنية خاصة كانت تمر منها البلاد نتيجة تنامي ظاهرة الإرهاب، فقد تم اقتراح تعديلها في المشروع وذلك بالتوسيع من مجال اللجوء إلى هذا الإجراء بإضافة جرائم جديدة. فبعدما كان الأمر يتعلق ببضع جرائم فقط، أصبح الأمر في المشروع يشمل عدد كبيرا من الجرائم. وهو ما يعني توسيع نطاق التضييق على سرية الاتصالات كحق دستوري. فالقاعدة أن التشريع المسطري في المادة الجنائية يوسع من دائرة الحماية للحقوق ولا يوسع من دائرة التضييق عليها. لكن الأدهى من ذلك أن الجرائم المسموح فيها بالتقاط المكالمات و الاتصالات المنجزة عن بعد لم تعرف توسيعا من دائرتها فقط في مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد، بل تمت إضافة إجراء آخر إمعانا في التضييق على حقوق وحريات المواطنين بمناسبة البحث فيها وهو "الاختراق" بمقتضى المادة 1-3-82 من المشروع. وهو إجراء جديد من إجراءات البحث التمهيدي تقوم به الشرطة القضائية بإذن من النيابة العامة المختصة. والذي يسمح لضابط أو عون الشرطة القضائية بتتبع ومراقبة الأشخاص المشتبه فيهم من خلال التظاهر أمامهم بأنه فاعل أو مساهم أو مشارك أو مستفيد من الأفعال الإجرامية موضوع البحث و لو باستعمال هوية مستعارة. لكن الأمر المثير للدهشة في هذا الإجراء هو أنه منح لضباط و أعوان الشرطة بمقتضى المادة 2-3-82 القيام ببعض الأفعال التي قد تشكل في حد ذاتها جريمة، أو لولاها لما كان للجريمة أن ترتكب وذلك من قبيل القيام بنقل أو تسليم أموال أو وثائق أو أشياء مجرمة أو استخدمت لارتكاب جرائم أو معدة لارتكابها، أو استعمال وسائل قانونية أو مالية أو وسائل نقل أو وضعها رهن إشارة الأشخاص المتورطين في هذه الجرائم. فقد تكون هاته الأفعال التي قام به الضابط هي السبب الرئيسي في ارتكاب الجريمة أو في تغيير وصفها أو بإضافة ظرف تشديد تشديد لها. ونقدم على ذلك بعض الأمثلة:
- المثال الأول: إذا سلم ضابط الشرطة أثناء عملية الاختراق للمشتبه فيه بمناسبة البحث في جريمة التسميم مواد سامة وتم استعمالها من طرف هذا الأخير في تسميم الضحية، فإننا نصبح أمام جناية تسميم، عقوبتها الإعدام والتي ما كان لها أن تقع لولا تسليم المواد السامة من الضابط للمشتبه فيه.
-المثال الثاني: إذا وضع الضابط أثناء تنفيذ عملية الاختراق رهن إشارة المشتبه فيه سيارة نقل أو بذلة نظامية و قام هذا الأخير باستعمالها في اختطاف ضحية ونقلها من مدينة إلى أخرى، فإننا سنصبح إزاء عقوبة أشد لجناية الاختطاف ما كان لها أن تكون لولا عملية الاختراق.
فهذان فقط مثالان بسيطان يظهر فيهما أن الصلاحيات غير المشروطة التي منحت بمناسبة تنفيذ عملية الاختراق قد تتسبب في كوارث لا حصر لها. فإذا كان لا بد من هذا اللجوء إلى هذا الإجراء بمناسبة البحث في بعض الجرائم الخطيرة دفاعا عن مصلحة المجتمع ، فإنه يتعين ضبطه لتحقيق نوع من التوازن يحمي حقوق المشتبه فيهم من خلال إحاطته بضمانات موضوعية و مسطرية لفائدتهم من قبيل عدم تقديم أي وسيلة يمكنها أن تشكل عاملا أساسيا أو فاعلا في ارتكاب الجريمة وألا يكون الفعل الذي قام به الضابط المنفذ لعملية الاختراق سببا في تغيير وصف الجريمة أو إضافة ظرف تشديد فيها. لكنه بالرجوع إلى المادة 4-3-82 يتضح عكس ذلك لأنها منحت ضباط وأعوان الشرطة المأذون لهم بعملية الاختراق الإعفاء التام من أي مسؤولية جنائية. وهنا سنصبح أمام تجسيد حقيقي للمثل الشعبي" طلع تاكل الكرموص، نزل شكون قالها ليك". وهو ما يعتبر أمرا غير مقبول إطلاقا.
ويبقى الانتهاك الأخطر في هذا الإجراء هو أنه وأثناء المحاكمة فإن الإذن بمباشرة عملية الاختراق الذي تمنحه النيابة العامة لضابط الشرطة القضائية والذي يتضمن تفاصيل العملية والقائمين عليها، لا يمكن الاطلاع عليه لا من طرف المتهم ولا دفاعه بل المحكمة وحدها فقط من تملك طلب الاطلاع عليه وفق ما نصت عليه المادة 4-3-82 من المشروع. وهو ما يشكل خرقا خطيرا لحقوق الدفاع المضمونة دستوريا. فإذا كان هناك قضاة يتمتعون بالجرأة الكافية في التصريح ببطلان أي إجراء مخالف للقانون، فإن قضاة آخرين لا يستطيعون التصريح ببطلان محاضر الضابطة القضائية رغم الخروقات الشكلية الفظيعة التي تحملها حتى لو أثيرت من دفاع المتهمين، فكيف يمكن للمتهم ودفاعه أن يطمئنا لهاته الهيئات في إثارة بطلان عملية الاختراق من تلقاء نفسها؟ وكيف يمكن للهيئة الاستئنافية أو محكمة النقض أن تراقب مدى احترام عملية الاختراق للقانون؟