كل ما قلناه وما لم نقله عن عدوانية الجزائر وعدائيتها، تجاه نفسها وتجاه جيرانها وكل العالم من حولها... يستحق مكاناً طليعيا في سجل "غينيس" للأرقام القياسية، حتى لا نقول إن ذلك يستحق أن يخصص له سجل حصري لا يدخله باستثناءِ الجزائرِ إلاّ الجزائرُ ذاتُها!!
هذا عن نظامهم العسكري العجوز المتهالك، نظام الحفاظات... نظام ستينات وسبعينات القرن الماضي... ونظام "حائط برلين"، القائم دائما وأبدا في الفكر والفهم الجَمْعِيَيْن بذلك البلد... فماذا عن شعب الجزائر، الذي يبدو أنه خارج التغطية، وأنه بالكاد يتبيّن مواطئ أقدامه بين كل طابورٍ مُهينٍ وآخر؟!
منذ أيام قلائل، تسرّب إلى وسائل التواصل الاجتماعي شريط فيديو من قسم مدرسي ابتدائي، بإحدى ابتدائيات التعليم الجزائري، تظهر فيه معلّمة جزائرية "متحجّبة"، أي أنها "ملتزمة بأخلاق الإسلام الحميدة" يا حسرة، وهي تلقن تلامذتها الصغار بمنتهى الكذب والبُهتان درسا في التاريخ، مشيرةً إلى خريطة للمملكة المغربية منزوعة من صحرائها، ومُلامِسةً برأس مسطرتها لرسم الصحراء المغربية وهي تقول ما مفاده: "أن هذه المنطقة محتلة من لدن الاستعمار المغربي، وأن شعبها الصحراوي مُهَجَّرٌ من أرضه بالقوة، وأنه يقيم مؤقتاً بمنطقة تيندوف الجزائرية، التي تأويه وتدعمه وتسانده بكل الوسائل إلى أن ينال استقلاله ويعود إلى أرضه المغتصبة"!!
وبطبيعة الحال، فالمُدَرّسة كانت تستعمل ألفاظاً قادحةً ونابية يصعب أن يستوعب معانيها أطفالٌ في عمر الزهور، لولا ان الهدف من كل ذلك واضح، وضوح الشمس في ظهيرة صيفية، وهو إنتاج جيل مختل العقل والفكر لا يفهم من حياته وواقعه سوى شيء واحد، هو أن تحت سماء وطنه الجزائر يوجد شعب مضطهَد يحتل المغرب أرضَه، وأن على الجزائريين الأحرار أبناء "ملايين الشهداء" أن يعيدونه إلى أرضه بكل الوسائل بلا استثناء، وأنّ ذلك ينبغي ان يكون بمثابة "علة وجود" المواطن الجزائري إلى أن يتحقق ذلك المطلب!!
تصوروا معي كيف سينشأ طفل يتلقّى مثل هذه المطارق اليومية على أمّ رأسه، منذ سن السادسة أو السابعة من عمره، ويستمر في تَلقّيها إلى أن يتخرج من جامعة، تُعتبَر بكل استحقاق وبكل المعايير من أسوأ جامعات المعمور!!
هذا في الأطوار التعليمية الابتدائية، فما بالنا بأسلاك الثانويين الإعدادي والتأهيلي، التي يتلقى التلميذ فيها دروسا في الجغرافيا تُشَرْعِن "الحدود الموروثة عن الاستعمار"، وأخرى في التاريخ تصوّر المغاربة كمناهضين للثورة الجزائرية منذ بدايتها بدافع الحسد، من جراء "الإعمار الراقي" الذي أقامته فرنسا في مقاطعتها الشمال إفريقية دون أن تقيم نظيراً لها في بلاد المغرب الأقصى، كما تقدم المغرب كمسؤول أول عن التضييق على زعماء الثورة الجزائرية، وكمهندس لعملية الاختطاف التي تعرضت لها طائرة قادة الثورة الخمسة من لدن القوات الفرنسية، مع الحرص في كل دروس التاريخ على طمس كل ما يتعلق بالسند والدعم غير المشروطين اللذين كان ثوار الجزائر يتلقونهما من المغرب ملكاً وحكوماتٍ ومواطنين، قبل استقلال المغرب وبعده، حتى أن ملك المغرب، المغفور له محمد الخامس، اختار ان ينادي المجتمع الدولي إلى واجب منح الجزائر استقلالها، بينما كان يعتلي منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة كأول قائد عربي وإفريقي يخاطب المجتمع الدولي والعالمي من فوق ذلك المنبر، بدلا من أن يكتفي بالمطالبة، بوصفه ملكاً عائدا لتوه من المنفى، باستكمال استقلال باقي ترابه الوطني، وبإجلاء ما تبقى من قوات الاستعمارين الفرنسي والإسباني من كافة تخوم وطنه بالكامل!!
أليس في هذا خير تفسير للكراهية المستقرة في الذهن الجمعي الجزلئري إزاء المغرب والمغاربة، تحت غطاء فاضح لم يَعُد ينطلي على أحد من العالمين، هو "معاداة المخزن وحده دون الشعب المغربي"، وما هذه إلا كذبة فاضحة تؤكد كَذِبَها مواقف الشارع الجزائري الحزينة والمصدومة تجاه نجاحات المغرب نظاما ومواطنين، وإظهاره بالمقابل تباشير الفرح والابتهاج إزاء الإخفاقات التي قد يكتوي بها المغاربة، كما هو الشأن في بعض المنافسات الرياضية، أو لدى الإصابة بإحدى الكوارث، كالذي وقع مثلاً على إثر زلزال حوز مراكش، حيث أطلق الجزائريون بعده، رسميين ومدنيين، العنان لتصيّد الأخطاء ونقط الضعف وهم يتابعون جهود الإنقاذ والإسعاف والتموين المثالية، وبرامج إعادة الإعمار... وما زالوا يتصيّدون الهنّات والمساوئ كما يفعل في العادة كل الحُسّاد والناقمين والشامتين!!
زيادة على كل هذا التشكيل المبيَّت والمقصود للعقل الجمعي في ذلك البلد، "الجار والشقيق يا حسرة"، يستمر إيهام الجزائريين عبر مختلف وسائل التخاطب والتواصل في ذلك البلد، إلى غاية ساعة الناس هذه، بكون المغاربة شعباً مكلوماً مغبوناً يعيش أسوأ أيامه، بين الفقر والتضييق، والقمع والتنكيل، وبين أوساخ وقاذورات لا أول لها ولا آخر... والعقل الجمعي الجزائري متشبعٌ فعلا بكل هذه الإيحاءات، وواقعٌ تحت تأثيرها بالكامل، إلى درجة إصابة أي جزائرية أو جزائري بالصدمة الشديدة والمزلزلة أو بما يشبه الجلطة الدماغية بمجرد ما تسنح له فرصة الدخول إلى التراب المغربي، بطريقة أو بأخرى، حين يجد نفسه فجأة وبدون سابق إنذار بإزاء قنبلة شديدة الانفجار تصيبه في وعيه وفي قدرته على تمثّل الأشياء المعروضة على ناظره، وهو يجوب شوارع المدن المغربية الفسيحة، وحدائقها المزهرة، ويرتاد أسواقها الكبرى، ويطّلع على حمولاتها من السلع الغذائية وغيرها، ويُعاين بنياتها "الأساسية" (ولا نقول "التحتية" لأن هذه ترجمة رديئة عن الفرنسية)، وكذلك، وهو يلامس هامش الحرية، الخرافي بمقاييس وطنه الجزائر، وخاصة عندما يدخل إلى المشور السعيد، بعاصمة المملكة، ويشرع في التقاط صور فوتوغرافية ورقمية لجنبات القصر الملكي العامر، أمام الأنظار الهادئة والمطمئنة لنساء الأمن ورجاله المنبثين عبر شوارع المشور وأزقته، دون أن يعترض على ذلك معترِض، أو يمنعه من ذلك مانع!!
وبطبيعة الحال والمنطق، تكتشف هذه الضيفة أو الضيف الجزائري أنه في بلد غير الذي قرأ عنه في فترات طفولته ويفاعته وشبابه بمدارس الجزائر وثانوياتها ومعاهدها، ويكتشف بعد فوات الأوان، وبعد أن تكون فأس "استصغار واحتقار وكراهية كل ما هو مغربي" قد وقعت في الرأس، أنه ضحية غسيل للدماغ لا يوجد له نظير إلا في بقايا أوراق ووثائق النازية والصهيونية العالمية، اللتان درجتا على تقديم نفسيهما كنموذجين ليس لهما نظير في التقدم والتطور والرقي، بينما العالم كله من حولهما رافل في حلل الجهل والعبودية والتخلف والبدائية!!
ويبقى السؤال المحرج والحارق: كيف السبيل إلى التعامل مع جار بكل هذا التشوّه والاعوجاج في الفكر والفهم والتَّمَثُّل... إذا بقي النظام هناك عسكرياً حاقداً وفي منتهى التعقيد العقلي والنفسي، وبَقِيَ بالتالي على ما هو عليه من الاعتباط والعربدة والغوغائية؟!
من يجيب ولكن، بموضوعية؟!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.