الحديث عن تأثير وسائل الإعلام والتواصل هو اهتمام قديم من الناحية العلمية، ويشمل التأثير جميع الفئات العمرية، سواء الكبار أو الصغار، ويشمل مجالات متعددة مثل توجيه الرأي العام سياسياً أو البروباغاندا في الحروب، وصولاً إلى التأثير التجاري وغيرها. تمتد تأثيرات وسائل الإعلام إلى الصحة الفردية والجماعية بناءً على كيفية الاستخدام ونوعية الرسائل الصحية التي تُروج إعلامياً، سواء كانت إيجابية أو سلبية.
فعلى سبيل المثال، يمكن الاستفادة من وسائل الإعلام في التوعية الصحية وتشجيع تبني السلوك السليم إذا تم استخدامها بشكل صحيح. أما إذا تم تمرير رسائل سلبية وضارة، فإن آثارها تكون وخيمة. من أبرز التحديات التي تؤثر على الصحة العامة هي الدعاية التجارية للمواد الضارة بالصحة. ففي جيلنا، كانت إعلانات السجائر تمرر برمزية البطولة والقوة لرعاة البقر حاملين السلاح، مما جذب الكثير من الأطفال إلى تجربة التدخين لأول مرة، وهذه التجربة الأولى غالباً ما تكون بداية إدمان طويل الأمد.
خضع التأثير السلبي لوسائل الإعلام لدراسات عديدة، خاصة تأثير التلفزيون الذي كان يوصف بالإدمان التلفزيوني، مع التركيز على تأثيره على الأطفال. صدرت توصيات من المجتمع العلمي والأطباء للحد من هذه التأثيرات السلبية ومنع الأطفال من التعرض للإعلانات الضارة، خاصة تلك المتعلقة بالمشروبات الطاقية والمعلبات الغنية بالسكريات. تتبع هذه التوصيات الأطفال حتى في المدارس عبر قواعد صارمة، وكنت دائماً معجباً بتوصيات جمعية أطباء الأطفال الكنديين الذين يقومون بتحيين توصياتهم بانتظام. فعلى سبيل المثال، بعدما تابعوا تأثير التلفزيون، ها هم اليوم يراقبون تأثير المنتج الرقمي ويوجهون الأسر لمتابعة استخدام الأطفال للإنترنت بشكل سليم.
اليوم، قفز استعمال وسائل التواصل إلى مستويات عليا بعد جائحة كوفيد، حيث جاء كتعويض لحالة العزلة والقلق التي اجتاحت العالم. الضحية الأولى لهذا الاستعمال المكثف هو الطفل الذي يمضي ساعات طويلة أمام الشاشة، مما يؤثر على نموه الجسدي بسبب الخمول وضعف التغذية والتأثر بالمواد التجارية الضارة. هناك أيضاً تأثيرات على العينين من جراء الأشعة، وعلى السمع نتيجة استخدام السماعات بشكل مفرط. كما يؤثر الجلوس في وضعية غير صحيحة لفترات طويلة على العمود الفقري. بالإضافة إلى ذلك، يعاني الأطفال من العزلة الشعورية عن محيطهم، حيث يعيشون في عوالم رقمية تؤثر على تفاعلهم المجتمعي وتواصلهم اللغوي.
أما في مجال التعليم، فإن الإفراط في استخدام الإنترنت يؤثر سلباً على التحصيل الدراسي، حيث يعاني الأطفال المدمنون على الإنترنت من مشاكل في التركيز والقلق المزمن. كما يتأثر الذكاء اللغوي والتواصلي لديهم، وتقل قدرتهم على حل المشاكل الشخصية والاجتماعية.
تبدأ الحلول من الأسرة، التي يجب عليها تعديل عاداتها لتصبح مثالاً إيجابياً للأطفال. يمكن تعويض الأطفال ببرامج خارج المنزل مثل التمشية وقضاء الأغراض العائلية، وخلق جو عائلي داخل المنزل من خلال الألعاب التقليدية والتربوية.
يجب اعتماد تقنيات المراقبة عبر تطبيقات تمنع الولوج إلى المحتوى غير المناسب للأطفال. بالنسبة للوقت المخصص لاستخدام الإنترنت، يرى الباحثون أنه قبل عمر السنتين يجب منعه نهائياً، ومن سنتين إلى خمس سنوات لا يجب أن يتجاوز الساعة يومياً، ومن ست سنوات إلى 12 سنة يجب أن لا يتعدى ساعتين يومياً. يجب مراقبة نوعية استخدام الهاتف والإنترنت في سن أكبر لضمان تحقيق الأهداف التربوية والتعليمية.
يجب أيضاً إيقاف استخدام الشاشة قبل النوم بساعة على الأقل لتحضير الطفل لنوم أفضل. لا ينبغي للبالغين استعمال الشاشة بشكل مفرط أمام الأطفال، وينبغي تخصيص وقت جماعي بدون شاشات، خاصة أثناء الواجبات المدرسية وتناول وجبات الطعام.
تجدر الإشارة إلى ما أكدت عليه الجمعية الكندية لطب الأطفال بأن استخدام الوسائل الرقمية ليس ضرورياً للحصول على تعليم أفضل. اللعب، والقراءة، والعلاقات الاجتماعية تمنح الطفل فرصاً مهمة للتعلم بشكل جيد.
الدكتور عبد العزيز حنون، طبيب اختصاصي في الصحة العامة وتدبير الصحة وباحث في التواصل