في حياتنا العابرة، حتى لو ادعينا أننا لا نشبه أحدا، وأننا نريد أن نكون متفردين، فالحقيقة أنه دائما ما يكون هناك مثال ما نسعى لأن نقتفي أثره، وحتى لو تجاوزناه أو اختلفنا معه، فإننا دوما نعود له بوعي أو بدونه، اتفاقا معه أو اختلافا.
لا أدعي أني أخرج عن هذا النسق، بل لا أجد حرجا في القول إني مدينة لكثيرين فيما وصلت له، وفيما ما زلت أسعى له.
ومن هؤلاء اخي الأكبر في دروب السياسة والصحافة: جمال براوي رحمه الله.
كنت محظوظة حين بدأت مساري السياسي في الشبيبة الاتحادية وأنا ما زلت تلميذة، قادمة من جمعية الشعلة للتربية والثقافة.. كان المرحوم جمال براوي من الوجوه الاتحادية وطنيا ومحليا بالمعاريف / المدينة القديمة/ أنفت الذي كان محظوظا بأن جمال كان من مؤطريه الأساسيين بحكم سكنه.
كنا منبهرين بثقافته الواسعة، وبفصاحته باللغتين العربية والفرنسية، وبتواضعه، وبقدراته البيداغوجية، بحيث لم يتضايق يوما من استفسار أو انتقاد أو وجهة نظر، حتى ولو كانت ساذجة، مما كان يشجعنا على الحديث معه بدون حواجز..
كان يبدأ الحديث في السياسة، ثم يعرج للأدب، ويعود لشرح مسألة قانونية، تكون مدخلا للفت انظارنا إلى مقال حديث الصدور في مجلة عالمية، ويسألنا بعدها عن الأسرة وأحوالها...
لم تهمه يوما المناصب لا الحزبية ولا التمثيلية ولا الإدارية، كان نموذجا في الزهد بالماديات، رغم عشقه الكبير للحياة تجولا وفنا وأدبا...
وكان مدرسة في الاختلاف والصدق، لم يكن يتوانى عن التصريح بما يراه، دون تجريح ولا تآمر ولا حقد وإعلان مساندته لفكرة او مشروع دون محاباة او مجاملة..
فمثلا انتقد فقيدنا اليوسفي بقوة مع الاحترام، ودافع عنه في الآن نفسه بحب مع الامتنان له.
وكنت محظوظة ثانية، أني حين التحقت بالصحافة، كان جمال من صناع منعطفاتها الكبرى.
عاش أوج الصحافة الحزبية، فكان مستقلا وسطها، داعيا لتكريس المهنية ما أمكن، لكنه حين انتقل للصحافة الخاصة، بل كان من آبائها المؤسسين، لم ينسق مع الدعوات إلى جعلها صحافة "تقنوية" بدون روح نقدية، فالتجأ إلى رصيده السياسي ليعطيها روحا تضع المعلومة في سياقها، بل لا أبالغ إذا قلت إنه مع جمال براوي ابتدأت ظاهرة: الصحفي/ المحلل السياسي.
وكما في السياسة، وجد جمال نفسه وسط صراعات برهانات ومصالح داخل الصحافة، فكان يعرف كيف يسجل مواقفه بالوضوح الممكن، ثم كيف يبتعد في الوقت نفسه تاركا الجمل بما حمل، ليخلد إلى استراحة محارب، يعود بعدها بأفكار ومشاريع أخرى.
كان يتمثل إيجابيا مقولة: أرض الله واسعة.
في سنواته الأخيرة، عانى كثيرا مع المرض، فخصص ما بقي له من قوة ووقت للدفاع عن القضايا الوطنية الكبرى...
ابتعد عن الصراعات السياسية والحزبية الضيقة وظل مساندا وداعما لحزبنا الاتحاد الاشتراكي بروح النصيحة الواجبة والتنبيه الموجه والتحذير الضروري عند الحاجة وبتواضع الكبار..،
كما ظل بعيدا التدافعات داخل الجسم الصحافي. كان ابتعادا عن الخوض فيها، ولو ان له مواقف شخصية من كل ما كان يحدث، ولكنه فضل أن يقصر جهده على القضايا الوطنية الجامعة...
كان يستشعر أن بلدنا يتعرض لمؤامرات، تقتضي أن يترفع الجميع عن الأفق الضيق، وأن نفتح عينينا على المستقبل، لذلك كان غالب حديثه مؤخرا عن القضية الوطنية، والسياسة الخارجية، ومشاكل التعليم والصحة والأمن المائي، ومواجهة الإعلام والمنظمات التي تستهدف المغرب بالتضليل والافتراءات.
في محطات كثيرة كان قريبا من صناع القرار، فكان يدلي برأيه أو ينصح، ويعود لقواعده الأثيرة مع أصدقائه المخلصين، دون أن يطلب مقابلا، لا له، ولا لأفراد أسرته، ولذلك احترمه الجميع. حتى من اختلفوا معه.
للأسف، غادرنا دون أن يكتب مذكراته، التي لو قيض له أن يكتبها، لغير كثيرون رؤيتهم للوقائع وللأشخاص، ولأسقط أقنعة كثيرة...
رحل الأخ العفيف اللسان، والموسوعي ثقافة وفكرا، والمساند للطاقات الشابة دوما، العاشق للوطن والأدب والحياة.
وشكرا لكل ما قدمته، ولأنك كنت معنا ناصحا أمينا، وقدوة في السياسة والصحافة...