العقود الأخيرة كانت مسرحا لثورة تكنولوجية لا مثيل لها في التاريخ، أثرت بعمق في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك مجال العدالة الجنائية. فقد أفرزت منصات التواصل الاجتماعي، كفيسبوك وتويتر وإنستغرام، ساحة جديدة لا تقتصر على التواصل الاجتماعي فحسب، بل تمتد لتشمل ارتكاب الجرائم والبحث عن مدى إثباتها. هذا التطور السريع أثار مجموعة من التساؤلات القانونية حول طبيعة الأدلة الرقمية وكيفية التعامل معها ضمن إطار القانون.
مصداقية الأدلة الرقمية في مواجهة التحديات
تختلف الأدلة الرقمية عن الأدلة التقليدية في عدة جوانب، فمن السهل التلاعب بها أو حذفها. تشمل هذه الأدلة الرسائل الإلكترونية، المنشورات، التعليقات، والوسائط المتعددة المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي. فقد أصبحت هذه الأدلة الرقمية دعامة رئيسية في إثبات الجرائم الإلكترونية، لكنها تثير في الوقت نفسه تحديات للمحققين والقضاة.
الخصوصية والعدالة في قلب الإطار القانوني
تختلف قوانين الدول في التعامل مع الأدلة الرقمية المستمدة من منصات التواصل الاجتماعي. ففي بعض التشريعات، تعتبر هذه الأدلة جزءا من "الاتصالات الإلكترونية"، وتخضع لقوانين صارمة تتعلق بالمراقبة وحماية الخصوصية. بينما في دول أخرى، يتم التعامل معها ضمن "خدمات مجتمع المعلومات"، مما يغير من طبيعة المتابعة القانونية لاستخدامها في المحاكم.
التحديات القانونية للموازنة بين الخصوصية والأمن
يطرح استخدام الأدلة الرقمية تحديات قانونية عديدة، خاصة في البلدان المتقدمة قانونيًا مثل الولايات المتحدة، بريطانيا، وفرنسا.
الإطار القانوني الدولي وضرورة التعاون
تتزايد أهمية وضع إطار قانوني دولي للتعامل مع الأدلة الرقمية نظرا لطبيعتها العابرة للحدود. فالجرائم المرتكبة عبر الإنترنت قد تشمل أشخاصا من دول مختلفة، مما يجعل التعاون الدولي ضرورة لضمان تطبيق العدالة. اتفاقية بودابست بشأن الجرائم السيبرانية، المعتمدة عام 2001، تعد من أهم النظم القانونية الدولية، وقد وقعت عليها دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ومصر. بينما وقع المغرب على الاتفاقية في عام 2006 لكنه لم يصادق عليها، مما يحد من فعالية مكافحة الجرائم السيبرانية على الصعيد الدولي.
دور الأدلة الرقمية في المنظومة القضائية
يتطلب استخدام الأدلة الرقمية في المحاكم إجراءات محددة لضمان مصداقيتها وقانونيتها. يجب أن يتم جمع الأدلة وفقا للقوانين الوطنية والدولية، مع ضرورة الحصول على التصاريح والتراخيص اللازمة من الجهات المختصة. كما يجب أن تخضع الأدلة لعملية توثيق دقيقة لضمان عدم التلاعب بها.
التحديات الحديثة أمام الجرائم في فضاء التواصل الاجتماعي
تشمل الجرائم المرتكبة عبر منصات التواصل الاجتماعي مجموعة واسعة من الأنشطة غير القانونية، مثل الاحتيال الإلكتروني، الابتزاز، والتحرش. يتميز هذا النوع من الجرائم بأنها غالبا ما ترتكب عبر الحدود الوطنية، مما يعقد عملية التحقيق والإثبات. لذلك، تلعب الأدلة الرقمية دورا حاسما في كشف هذه الجرائم وإثباتها أمام المحاكم.
كتخريج عام؛ يمكن القول بأن التقدم التكنولوجي السريع، أصبح يحتم علينا تحديث النظم القانونية لتنظيم استخدام الأدلة الرقمية في التحقيقات الجنائية. يجب أن توازن هذه التحديثات بين حماية خصوصية الأفراد وضمان الأمن العام. كما يجب على الدول تعزيز التعاون الدولي لوضع معايير مشتركة لجمع الأدلة الرقمية واستخدامها. في نهاية المطاف، يظل الهدف الأساسي هو تحقيق العدالة وحماية المجتمع في مواجهة التحديات التي تفرضها التكنولوجيا الحديثة.
ياسيــن كحلـي، مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية