لا نتملك الكتاب الرقمي، لا يصبح في "متناول أيدينا"، ولا نستطيع أن نربط معه علاقة جسدية، ولا حتى أن"نتصفحه". لا تربطنا به علاقة تلامس. وبدون تلامس جسدي لا روابط حميمية. يستشهد فالتر بنيامين بالمقولة اللاتينية المعروفة: "Habent sua fata libelli" ("للكتب أقدارها")، كي يستنتج أن للكتاب الورقي قدرا بصفته شيئا يقتنى ويتملك، لذا هو يحمل آثارا مادية تمنحه تاريخا. نحن نقتني الكتاب الورقي ونتملكه، أما علاقتنا بالكتاب الرقمي، فلا تتعدى كوننا نستطيع "الولوج إليه"، لأنه ليس "شيئا"، وإنما هو معلومات.
"العالم المكون من المعلومات لا ينظم بالملكية، بل بالولوج". هنا يستبدل الولوج المؤقت إلى الشبكات والمنصات بالروابط الفعلية مع الأشياء أو مع الأماكن. وبذلك فإن للكتاب الورقي وضعا مختلفا تمام الاختلاف عن الكتاب الرقمي. ذلك أننا، حتى إن تمكنا من الولوج إلى هذا الأخير، فإنه لا يغدو "ملكا" لنا. نحن لا نملك إلا "الإطلالة" عليه. مع الكتاب الرقمي، يتم تقليص الكتاب إلى قيمته المعلوماتية. وهو يتخلى عن "قدره"، ويغدو بلا عمر، بلا مكان، وبلا غلاف أو مالك، وحتى بلا ناشر. إنه يفقد شيئيته، ولا يعود في إمكاننا أن نتصفحه أو نهديه ونوقعه. وهو يتخلى تماما عن المسافة الزمنية التي يمكن أن يتحدث إلينا منها قدر فردي، فالمعلومات لا "قدر" لها.
يتخذ الكتاب الورقي، بعد أن ينشر، أشكالا متفردة. فتصبح نسختي متميزة عن نسخ غيري الذين اقتنوا الكتاب نفسه. تصبح نسخة خاصة بي، تحمل شيئا مني، ويمتزج قدرها بقدري. لا نسخة من كتاب "ألف ليلة وليلة" تعادل، قيمة ومضمونا، تلك التي كانت بين رفوف مكتبة بورخيس، والتي فضلها على غيرها من الترجمات، والتي عليها اشتغل، وعليها دون بلا شك بعض ملاحظاته، وعلى بعض صفحاتها ربما تحفظ عن الترجمة المقترحة، أو أشار إلى المقطع المبتور. لكي تكون نسخة الكتاب بهذا التفرد، ينبغي أن تتناولها اليد. أما الكتاب الرقمي، فليست له نسخ خاصة، نسخ يدوية، كما يقال باللغة الألمانية: Handexemplar. "النسخة اليدوية" هي التي وقعت في "متناول يد" صاحبها، فمنحتها يده وجها لا يقلد ولا يضاهى.
الكتب الرقمية ليست لها وجوه ولا تواريخ. إنها تقرأ من غير أن تكون في "متناول اليد"، وحتى تقليب الصفحات لا يتم إلا بصفة غير مباشرة، ومن طريق نقر الأصابع. لفظ "ديجيتال، رقمي" يأتي من الأصل "digitus"، الذي يعني الإصبع. الأصابع ترتبط بعقلية حسابية، فبأصابعنا كنا نعد ونحسب. يميز هايدغر بين اليد والأصابع. الآلة التي لا تلمسها سوى أطراف الأصابع، "تنزع من الإنسان المجال الأساسي لليد". إنها تدمر "الكلمة" من طريق تحويلها إلى مجرد "وسيلة تواصل"، أي إلى "معلومة". ما يكتب هنا "لا يذهب ولا يأتي عبر اليد التي تكتب وتعمل وتتعامل بشكل صحيح".
تتميز الملكية بالألفة والحميمية. فوحدها علاقة مكثفة مع الأشياء تتيح لنا امتلاكها. لا أملك قلم الرصاص الذي أكتب به بيدي مثلما أملك جهاز الحاسوب. إذا كانت المنتجات الاستهلاكية اليوم تنتهي بسرعة إلى النفايات، فهذا لأننا لم نعد "نمتلكها"، لم نعد نألفها. الملكية هي شيء حميمي، وهي تبطن دائما حمولات نفسية. الأشياء التي نمتلكها حاوية للمشاعر والذكريات. لذا، غالبا ما يتعذر علينا فراقها حتى إن لم نعد "نستهلكها". أما السلع الاستهلاكية الحالية، فهي تظل بلا بطانة وجدانية، إننا لا نألفها ولا نرتبط بها أي ارتباط، وهي محملة تصورات ومشاعر جاهزة تفرض نفسها على المستهلك، ولا تتولد من خلال تفاعل يأخذ وقته لكي يترسخ.
الظاهر أن الكتاب اليوم لا يعمل إلا على تجسيد ما تعرفه أشياؤنا جميعها، وكل ما يطبع الحياة المعاصرة التي تتميز بكونها لم تعد تستهلك "أشياء" بقدر ما تستهلك "معلومات". في النصف الأول من القرن الماضي كان الفيلسوف وعالم النفس إيرك فروم قد كتب في مؤلفه "الامتلاك أو الوجود"Etre ou Avoir: "الامتلاك يتعلق بالأشياء والوجود يتعلق بالتجربة". أما اليوم، على حد تعبير الكاتب الكوري بيونغ-شول هان في كتابه "نهاية الأشياء"، فإننا "نريد أن نخوض تجارب أكثر من أن نمتلك، نريد أن نغتني وجودا أكثر مما نريد أن نتملك".
لم يعد النقد الذي كان إريك فروم وجهه إلى المجتمع الحديث، لكونه يتخذ الامتلاك نقطة مرجعية أكثر من الوجود، نقدا مناسبا لما نحياه اليوم، لأننا نعيش في مجتمع التجربة والتواصل الذي يفضل الوجود على الامتلاك. المقولة القديمة للامتلاك: "أنا أغتني وجودا بمقدار ما أملك"، فقدت صحتها، وحلت محلها مقولة جديدة للتجربة هي: أغتني وجودا بمقدار ما أخوض من تجارب، لأن التجربة شكل من أشكال الوجود.
ذلك أننا، حتى عندما نستهلك أشياء، فأساسا لما تخزنه من معلومات، وما تكتنزه من علامات، وما تكثفه من تجارب. نحن اليوم لا نتملك أشياء، وإنما علامات، نتملك محتوى الأشياء بما يغلفها من معلومات، مثل صورة العلامة التجارية، وما تشتهر به من كون النجم الفلاني اقتناها، وكون البطل الرياضي الفلاني يفضلها، إن مثل هذه الأمور تتخذ اليوم أهمية أكثر من القيمة الاستعمالية للشيء. نحن ندرك الأشياء أولا وقبل كل شيء من خلال المعلومات المخزنة فيها. نشتري العلامات، ونقتني الدلالات ونستهلك العواطف عند اقتناء الأشياء.
من أجل خلق القيمة، تعمل الحياة المعاصرة على إنتاج المعلومات التي تخلق التميز، والتي تعد المستهلك بتجارب فريدة، فتحاول أن تتيح له "تجربة التفرد" المفقودة. وهنا "تغدو المعلومات أكثر أهمية من مادية السلعة، ويصبح المحتوى الجمالي الثقافي للسلعة هو المنتج الفعلي، فتحل اقتصاديات التجربة محل اقتصاديات الأشياء".
لكن، بما أننا لا يمكننا تملك المعلومات بسهولة كما نمتلك الأشياء، فقد يتولد لدينا الانطباع بأنها تنتمي للجميع، وأننا لن نتملكها مهما فعلنا. وهذه هي حال النسخ الرقمية من الكتب، إنها لا "تتفرد"، إنها ملك للجميع وليست ملكا لأحد.
عن مجلة "المجلة"