مضى الآن علي أسبوعان بالريف الإنجليزي. تأقلمت تدريجيا، مع وضعي الجديد في المرآب. نسجت علاقات صداقة مع معظم زملائي الطلبة العمال. رفاييل يحب المغني البرتغالي "روي فيلوزو" بجنون. يشغل جهاز كاسيت كل صباح منصتا إلى حدى أغانيه الرائعة "لا توجد نجوم في السماء". عصمت يعشق المغني التركي الشهير "إبراهيم سالتس"، وتجده هو الآخر يطلق على مسامعنا كل صباح إحدى أجمل أغانيه "أنا متعب".
في حين يستمع بوريس وألكسندر لمذياع مهترئ، يذيع أخبارا مملة وموسيقى بولندية تشمئز منها النفوس. على الأقل، بالموسيقى وسماع المذياع تصبح الغربة أقل قساوة داخل هذا المرآب البارد. تغشاني نشوة كبيرة حينما أستمع إلى الموسيقى التركية والبرتغالية، لكن الموسيقى البولندية لاتطربني في شيء، أكاد أجزم أن كل شيء قادم من أوروبا الشرقية لا يوقد أفكاري ولا يلامس مشاعري. لا أدري لماذا بعض شبابنا يصورون البلدان الشيوعية كجنات العريف. إنها ليست كذلك ! هي مجرد دول تشبه ثكنات عسكرية عملاقة تعج بحركة مواطنين بؤساء غارقين في حياة رتيبة ضجرة.
حينما يشغلون أجهزتهم في آن واحد تتشابك الأصوات وتتمازج النغمات في الفضاء، ثم تتحول إلى موجات متحركة غير متناسقة، فيضج المرآب بتلوث ضوضائي. "فيلوزو" مغني وعازف ماهر على القيتارة، نمط أغانيه يشبه أغاني "روك" لبوب ديلان، يتقن العزف على الهارمونيكا والقيتارة في آن واحد بشكل لافت. فيما أغاني "سالتس" التركي رومانسية الكلمات، ومرهفة الأحاسيس يكسوها طابع مشرقي.
عندما أنزوي إلى إحدى أركان المرآب، أفكر مليا وأقول في نفسي: لا أدري لماذا نحن المغاربة نتعب أنفسنا في تعلم جميع اللغات، نتذوق كل أنواع الموسيقى، ونلتهم شتى ألوان الأطعمة. في كل مرة يهيئ زملائي الطعام وفق عادات بلدانهم يعرضونها علي كي أتذوقها، وآتي على كل ما في الصحن دون تردد، معظم الأحيان لا أدري ماذا آكل لأنها أطعمة مغايرة لثقافتي وغريبة عني. ومع ذلك أجدني ألتهمها. اكتشفت بعد أسبوع من إقامتي هنا أن شخصيتي تستهويهم ويندمجون معي بسلاسة. ربما لأنني أسايرهم في حديثهم وأحاورهم في مواضيع شتى.
أحيانا لما تصدح أصوات الموسيقى وتتشابك في فضاء المرآب تولد صخبا ضخما. تمتزج إيقاعات الموسيقى الثلاث في مسمعي محدثة طنينا مزعجا في رأسي. كنت أتمنى لو كان معي جهاز كاسيت فأطلق عليهم صوت الحاجة الحمداوية الرشيق، عندئذ سيكتسح المرآب ويغطي على أصواتهم جميعا. فجأة، التفت نحو رفاييل وقلت له: أشعر وكأننا في سباق مهرجان "أوروفزيون"، ليتنا نذيع أغاني كل بلد على حدة بانتظام تجنبا لفوضى أصوات عارمة تتحول إلى ضجيج لا يطاق، عندها سأطلق على مسامعكم أغنية الحاجة الحمداوية "ها الكاس حلو" لتضفي نكهة فنية جميلة من شمال إفريقيا على مشهد متعدد الثقافات داخل هذا المرآب الموحش. علت وجه رفاييل ابتسامة وديعة وقال: الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي توحد كل شعوب العالم بقومياته وألوانه، وتتجاوز حدوده ومعتقداته.
يدرس جوصيه علم الاجتماع بجامعة لشبونة. يهتم كثيرا بالتاريخ الغابر والحاضر علاوة على ثقافة الشعوب والأجناس. لطالما سألني عن أشهر الفرق الموسيقية بالمغرب، فأشرت له إلى فرقة ناس الغيوان ولمشاهب، لكنه لم يسمع بأي منهما. معظم زملائي هنا في الضيعة لا يعرفون عن المغرب سوى البطل سعيد عويطة، جوصيه ورفاييل يتطلعان إليه كبطل عالمي يقهر المسافات، ومنبهران بأدائه. لكنهما يتوجسان كثيرا من اللاعب المغربي "خيري" كتوجسهم من السلطان عبد الملك السعدي. يلقب جوصيه اللاعب خيري بقاهر البرتغال لأنه سجل إصابتين في شباكهم بالمكسيك خلال مونديال 86، الذي كانت تداعياته لا زالت تخيم على الصحافة الدولية أنذاك.
جوصيه لا يحب اللاعب "خيري" ويتحفظ عن النطق بإسمه، يكتفي بمناداته برقم 17 حتى صار رقم شؤم في حياته. سيظل رقم 17 عالقا في ذاكرته ويؤرقه إلى الأبد. ذلك أن خيري مرغ أنوف البرتغاليين في التراب مثلما مرغها عبد الملك السعدي في ضواحي القصر الكبير. لقد أزاح حلمهم عن التأهل للدور الثاني بشكل مهين، مثلما قتل عبد الملك حلم الملك سباستيان في احتلال المغرب وتنصيره. لقد كانت هزيمة ثقيلة على أنفسهم في ملعب كرة القدم، كهزيمتهم المذلة في معركة وادي المخازن خلال القرن السادس عشر.
حدثت جوصيه في التاريخ وحاولت استطلاع رأيه عن معركة وادي المخازن، لكنه فاجأني برده لما قال: إننا في البرتغال نسميها معركة القصر الكبير، بعد التمحيص في بعض مراجع التاريخ الأوروبي تبين لي صحة كلامه. حاولت استفزازه بحديث مزهو عن تفاصيل المعركة التي انتصر فيها المغاربة انتصارا ساحقا، لكن جوصيه لم يعبأ كثيرا، فرد علي ساخرا: أنت تتحدث عن القرن السادس عشر ونحن في نهاية القرن العشرين، أين هو موقع البرتغال بين الأمم وأين هو المغرب الآن؟، كان يلمح بطريقة ذكية ماكرة أن البرتغال للتو انضمت للاتحاد الأوروبي خلال تلك السنة. فما كان مني إلا أن لذت بصمت مطبق محدثا نفسي: نعم نحن في أسفل السافلين نرزح تحت وطأة حكم مطلق، وما زلنا نكابد الفقر وضنك العيش، وهذا أمر لا يختلف عليه إثنان.
أما رفاييل، فهو طالب يدرس الطب في السنة الرابعة بجامعة بورتو، ولم يتبق له سوى ثلاث سنوات حتى يتوج طبيبا بإحدى مستشفيات البرتغال. بين حين وآخر تنتابه نوبات سعال قوية ومع ذلك لا يغادر التدخين. يلف عشرات سجائر "دروم" كل يوم ويدخنها بشراهة، قلت له: إن التدخين مضر بصحتك وسوف يقتلك إن لم تتوقف. ضحك وقال: ربما سأموت بسبب التدخين. هز رأسه مرفقا ذلك برفع حاجبيه تأكيدا على ما أقول لكن الأمر أكبر من ذلك.
يقول رفاييل أنه يزور مدينة شفشاون مرة كل سنة ويقضي فيها أسبوعا كاملا يدخن القنب الهندي. عندما سألته هل شاهد مدنا مغربية أخرى؟ رد علي: سبق له أن زار طنجة منذ بضع سنوات لكنه كرهها لأنه مر فيها بقصة أليمة. حين زارها اقتنى قطعة من مخدر حشيش وكادت تفتك بحياته بعد التهامها، علم بعد ذلك أن الحشيش كان مغشوشا وممزوجا بمواد سامة، على إثرها أمضى أسبوعا كاملا ممددا على سرير متسخ في مستشفى المدينة. يصف الوضع قائلا: وجبات الطعام كانت عبارة عن فاصوليا وعدس كل يوم، روائح كريهة تنبعث من مراحيض نتنة، خضت تجربة قاسية أطارد فيها الحشرات والضجيج داخل قاعة مزدحمة بالمرضى، انتهاكات بالجملة وإهمال للإنسان يفوق الخيال. منذ ذلك الحين وهو يتردد على مدينة شفشاون ليتعاطى مخدر الحشيش بنهم كبير، مؤكدا أن الناس فيها عفويون وطيبون، وشفشاون هي المغرب بالنسبة إليه...