أثار مشروع قانون المسطرة المدنية الجديد، نوعا من الارتباك الحقوقي، خصوصا مسه ببعض المُسلمَّات الدستورية، كحق الدفاع والحق في تسهيل الولوج إلى العدالة، ومبدأ التقاضي على درجتين..، وما زاد الأمر ارتباكا، هو المبالغة في تقرير الغرامات على المتقاضين، وكأنه ملحق للقانون الجنائي .
يأتي سياق هذا الانفلات التشريعي، بالضبط، في بعض المواقف غير الواضحة من قبل المسؤول الحكومي على قطاع العدل، والتي في الغالب تُفهم في غير سياقها ولربما يُعزى ذلك لأمور سياسية قد لا يراها المتتبع العادي، لكن ليس محلها في هذا المقال.
بتاريخ 23 يوليوز 2024 تم اختتام النقاش بمجلس النواب والتصويت بالأغلبية على مشروع قانون المسطرة المدنية، وهي الخطوة الهامة في صناعة القوانين، تليها مراحل لا تقل أهمية عنها، إذ سيحال المشروع على الغرفة الثانية قصد المناقشة والتصويت.
أمام سؤال جدوى مآل التعديلات التي تقدمت بها فُرق ومجموعات ونواب المُعارضة بالجلسة العمومية المنصرمة الخاصة بالمناقشة والتصويت على مشروع قانون المسطرة المدنية، والتي في نظري كانت بعضها في الصميم وتصب في مصلحة المبادئ الأساسية للتقاضي، حيث عُنونت بعدم القبول كما تابعنا.
يأتي معه سؤال هام، حول إمكانية تفعيل مقتضيات الفقرة 3 من الفصل 132 من الدستور، من قبل النواب خارج الأغلبية الذي يفوق عددهم النصاب القانوني المنصوص عليه في الدستور للتقدم بعريضة الطعن في دستورية بعض مواد هذا المشروع، حين انصرام المناقشة والتصويت بمجلس المستشارين وقبل إصدار الأمر بتنفيذه .
حيث نصت الفقرة 3 من الفصل 132 من دستور 2011 على ما يلي:
"...يمكن للملك، وكذا لكل من رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خُمس أعضاء مجلس النواب، أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين، أن يحيلوا القوانين، قبل إصدار الأمر بتنفيذها، إلى المحكمة الدستورية، لتبت في مطابقتها للدستور."
إن إمكانية اللجوء للمحكمة الدستورية قصد البت في مطابقة نصوص مشروع قانون المسطرة المدنية الجديد للدستور، لم يجعلها الدستور حكرا على مؤسسة واحدة دون سواها، بل عدد الأشخاص ذوي الصفة، بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة، وإلا ما الجدوى من التنصيص على صفة خُمس أعضاء مجلس النواب أو 40 عضوا من مجلس المسشارين، التي تُعتبر حقا للأقلية التشريعية في عرض موقفها أمام القضاء الدستوري، بَيد أن هذا الأخير حسم الكثير من الأمور التشريعة وألزم المشرع نفسه باحترام الدستور .
إن قانون المسطرة المدنية، في نظر الممارسين، ليس قانونا عاديا كباقي القوانين الأخرى، هو بمثابة الخريطة الإجرائية، التي من خلالها تُصان الحقوق وتُحفظ وتُرد وتُعطى بل وتُنتزع.
وَددتُ لو كان هذا القانون العادي يخضع في صناعته لنفس مبدأ القانون التنظيمي، الذي يُحال جبرا على المحكمة الدستورية قبل نفاذه، لكن الوثيقة الدستورية حاليا لا تُسعف.
لكن؛ إذا ما سلمنا بمرور هذا المشروع وصار نافذا بصيغته الحالية، فإنه سيكون أرضا خِصبة للدفوع بعدم دستورية القوانين، فور نفاذ مشروع القانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بالدفع بعدم دستورية قانون، حينها سيحق للمتقاضين أنفسهم الدفع بعدم دستورية نص تلو النص الوارد بقانون المسطرة المدنية الجديد المخالف للدستور أمام المحكمة الدستورية، ولن تتوانَ هذه الأخيرة في إسقاط تلك النصوص غير المطابقة للدستور كما مبادئه وأهدافه وغاياته الكبرى.
بين هذا وذاك، يُثار التساؤل حول نواب الأغلبية المُنتسبين للمهن القضائية ومشاركتهم في تفعيل نفس المقتضيات؟
في الجزء الأول من هذا الطرح؛ كنت قد تطرقت لإمكانية اللجوء إلى المحكمة الدستورية، قصد البت في مطابقة نصوص مشروع قانون المسطرة المدنية الجديد للدستور، وقلت بأن الدستور لم يجعلها حكرا على مؤسسة واحدة، بل عدد الأشخاص ذوي الصفة، بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة. وبرغم أن النص واضح، إلا أن تفعيله لم يسلم من منطق التنزيل المُعطَّل بسبب التحالفات السياسية.
إن الأحزاب المشكلة للمعارضة اليوم، تجد نفسها مُحرجة أمام تفعيل مقتضيات الفصل 132 من الدستور الفقرة الثالثة. والسبب في ذلك، عدم تغليب المصلحة العليا على التوجهات الداخلية لمكاتبها التنفيذية والسياسية، والنتيجة في الأخير نفاذ مشروع قانون المسطرة المدنية مستقبلا بصيغته الحالية لا محالة، بصرف النظر عن تقدم هذه الأحزاب نفسها بجملة من التعديلات.
إذ الأولى على مستوى مَسطرة التشريع، ودفاعا عن موقف المعارضة البرلمانية من قانون ما، أن يتم التحالف فيما بين هذه الأحزاب وكذا غير المنتمين، لتشكيل النصاب القانوني (خُمس أعضاء مجلس النواب) قصد تقديم عريضة الطعن وإحالة المشروع على المحكمة الدستورية، وإلا يمكن اعتبار الأمر لا يهم قادة هذه الأحزاب ومكاتبها، طالما أن مشروع قانون المسطرة المدنية في نظرهم ليس سوى قانون عادي.
لنترك المعارضة جانبا؛ وأعطيكم تصورا آخرا، قد يبدو مزعجا للبعض، وأعني هنا بعض النواب المنتسبين للمهن القضائية، ليس من فُرق ومجموعات ونواب المعارضة، بل هؤلاء النواب من فُرق الأغليية، الذين لم يحضروا الجلسة العمومية الخاصة بالمناقشة والتصويت على مشروع قانون المسطرة المدنية، واختاروا الهروب إلى الأمام، لكي لا تُسجل عليهم الملاحظات، وهم الأولى بالصفة الممارستية المتعلقة بقانون يُعتبر الجامِع للإجراءات القضائية.
حيث إذا كان تفعيل مقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور، اليوم تجد نفسها مطوقة بمنطق التحالف المعدوم بين توجهات أحزاب المعارضة وبلاغات أمانتها العامة المستنكرة لأشكال هذه التحالفات في سبيل كبح جماح الأغلبية في تمرير القانون، التي تتضمن مقتضيات غير مُطابِقة للدستور، وهي تفضل هذا التمرير على وضع اليد مع الخصم، من وجهة نظرها، فإن تلك من أمور السياسة، مقبولة إلى حد ما.
لكن؛ ما بال النواب المنتسبين للمهن القضائية - إذا كنا سنجزم بعدم تحالف فرق ومجموعات ونواب المعارضة في سبيل مصلحة المُتقاضين، قصد تفعيل مقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور - حيث يتعين عليهم أن يعلموا، أن هذه المقتضيات لا تخص نواب المعارضة فحسب، بل هي شاملة لكل نواب الأمة برمتهم، أغلبية ومعارضة يسارهم ويمينهم ووسطهم.
إن منطق ترك تفعيل مقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور، بِيَدِ فرق ومجموعات ونواب المعارضة (غير المنسجمين في توجهاتهم) ما هو إلا هروب إلى الأمام مرة أخرى من قبل شريحة نواب الأغلبية المنتسبين للمهن القضائية، وجعل الأمر وكأنه ليس بأيدهم، بَيْدَ أن الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور، تنص على نصاب خُمس أعضاء مجلس النواب. وليس خُمس أعضاء النواب من فرق المعارضة.
ذ.أيوب الغانمية/ المنسق العام للمركز المغربي للوعي القانوني..