حسن مخافي: اغتيال إسماعيل هنية.. إسرائيل تمارس رقصة المذبوح

حسن مخافي: اغتيال إسماعيل هنية.. إسرائيل تمارس رقصة المذبوح

عودنا إسرائيل منذ نشأتها أنها تلجأ إلى التصفية الجسدية للزعماء السياسيين متى اشتدت أزمتها، وأحست أنها أمام أفق مسدود، وذلك لصرف النظر عن فشلها الذريع في طمس معالم القضية الفلسطينية. حدث هذا عنما عمدت إلى اغتيال بعض قيادات منظمة التحرير في تونس، لما اقتنعت بأن حربها على الفلسطينيين في لبنان أعادت القضية إلى الواجهة، كما حدث عنما امتدت يد الإجرام الصهيوني إلى الشيخ أحمد ياسين حينما اشتدت على الكيان الصهيوني هجمات الاستشهاديين، وعندما يئس من إخضاع ياسر عرفات سممه. والأمثلة على ذلك كثيرة تستعصي على الحصر.

 

وفي كل مرة يستشهد زعيم سياسي فلسطيني، يبرز زعماء آخرون يواصلون مسيرة الصمود والمقاومة من أجل التحرير، وربما بشكل أقوى مما كان عليه الأمر من قبل.

 

سياسة الاغتيالات إذن، لا تعيق الاسمرار في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وإنما تزيد الفلسطينيين إصرارا على الثبات على أرضهم والذود عن حريتهم وكرامتهم. وبالتالي فإن النتائج التي يحصل عليها الكيان الصهيوني من خلال تصفية الرموز السياسية للقضية الفلسطينية تأتي بنتائج عكسية.

 

 ومع ذلك تأبى الحكومات الصهيونية المتوالية إلا أن تخلص لهويتها الإجرامية، التي تدمي قلوب الفلسطينيين والمناصرين لقضيتهم، لا شك في ذلك، ولكنها لا تجدي نفعا في محاولات إحجام الوطنيين الفلسطينيين عن الدفاع عن بلادهم، أرضا وإنسانا، بل تزيدهم إصرارا وصمودا.

 

اغتيال إسماعيل هنية لا يخرج عن هذه القاعدة العامة، ذلك أنه جاء في وقت تستمر فيه الحرب على غزة منذ عشرة أشهر دون أن تحقق حكومة نتنياهو الفاشية أيا من الأهداف التي أعلنتها. فالمقاومة لا تزداد إلا شراسة، والأسرى الذين اغتنمتهم المقاومة يوم طوفان الأقصى ما زالوا بيدها... والأهم من ذلك كله أن القضية الفلسطينية عادت إلى واجهة الأحداث الدولية وأصبحت تتصدر العناوين الرئيسية لنشرات الأخبار في كل بقاع العالم، وأضحت مدار حديث المؤتمرات العالمية واهتمامها، وحركت الضمير العالمي الذي يبدو أنه بدأ يستفيق من عملية التنويم المغناطيسي الذي مارسته عليه وسائل الإعلام الصهيونية، التي اطمأنت لمدة غير يسيرة إلى أنها قادرة على صناعة رأي عام مدجن، يصدق أكاذيبها، ويحفظ مزاعمها عن ظهر قلب.

 

عرف الشهيد إسماعيل هنية بأنه كان يمثل منذ توليه المسؤوليات القيادية في حركة المقاومة "حماس" التعبير الصادق عن الصوت المعتدل والواقعي، وهذا ما يفسر أنه ظل إلى آخر رمق من حياته مؤمنا بحل متفاوض عليه، يعيد الأسرى الصهاينة إلى ذويهم، ويؤدي إلى سحب القوات المحتلة من غزة، ويرفع الحصار عن أهلهل، كي يتمكنوا من العيش على أرضهم عيشة إنسانية.

 

لقد كان مثالا للإنسان الواقعي المؤمن بقوة الشروط الموضوعية التي تمنع من تحقيق الأهداف الفلسطينية فورا ودفعة واحدة. لذلك بقي متشبثا بالمبدأ القائل: ما لا يدرك كله، لا يترك جله.

 

ومع كل هذا رأت فيه حكومة نتنياهو الفاشية خطرا داهما، فقررت تصفيته جريا وراء أهداف وضيعة ذات أبعاد آنية ونفعية، لا تتعدى رؤية أنفها، ولكنها تلخص أزمة الكيان الصهيوني الذي أصبح مشغولا بتدبير ما هو يومي، ولم يعد يلتفت إلى المرامي البعيدة التي ترتبط بوجوده باعتباره كيانا غاصبا.

 

لقد أرادت الحكومة الصهيونية باغتيال إسماعيل هنية صرف النظر عن هزيمتها الكبرى على الأرض، التي تؤكد يوما بعد يوم أن القوات الصهيونية دخلت غزة ولكنها لا تعرف كيف تخرج منها، وأن خسائرها البشرية في تصاعد مستمر، إلى الحد الذي جعل بعض مجنديها يفضلون السجون على الذهاب للقتال في غزة. هذا فضلا عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تنتظر المستوطن الصهيوني والتي تنهك جيبه بالغلاء والتضخم والبطالة وغيرها.

 

من هنا يلاحظ المتتبع للشأن الصهيوني، أنه لأول مرة يخوض فيها هذا الكيان الغاشم حربا لا يحصل عليها الإجماع في أوساطه. بل إنها الحرب الحالية خلقت شرخا اجتماعيا وسياسيا يهدد الكيان من الداخل، جعل آلاف المستوطنين يخرجون إلى الشوارع محتجين.

 

إن هذا يؤكد أن حكومة نتنياهو أصبحت في الواقع معزولة عن "منتخبيها"، وأنها حكومة أقلية، على الرغم من أنها مدعومة بأغلبية برلمانية. وإذا أضفنا إلى هذا أن مستقبل بعض أعضاء هذه الحكومة مرهون بالاستمرار في هذه الحرب القذرة أو بالسجن، وأن بعضها الآخر يؤمن إيمانا شديدا بالشعار التلمودي: "أقتل كي تكون..." ويعمل به، أدركنا أن الحاجة إلى خلق حدث من حجم اغتيال إسماعيل هنية، كانت ماسة بالنسبة لنتنياهو وباقي أفراد العصابة التي تحكم الكيان.

 

يتضح هذا كله عندما نستحضر أن عملية الاغتيال الشنيعة جرت في أوج المفاوضات التي كان يقودها من الدوحة إسماعيل هنية شخصيا. فكيف يمكن لعاقل أن يستسيغ أن طرفين متحاورين ولو بشكل غير مباشر، يلجأ أحدهما إلى تصفية الطرف الآخر، ليصبح بدون محاور. إن هذا دليل على أن المفاوضات التي كانت تجري من أجل إيقاف الحرب على غزة لم تكن سوى حديث الليل يمحوه النهار، وأن حكومة الكيان الصهيوني كانت تخوض تلك المفاوضات فقط من أجل إسكات أهل الأسرى الصهاينة، واستجابة للدول الداعمة لها، ورغبة في استمالة الرأي العام الدولي وكسب مزيد من الوقت لقتل المزيد من الفلسطينيين، والبقاء أكثر ما يمكن في السلطة.

 

فكيف يحق للفلسطينيين بعد اليوم أن يتفاوضوا مع خصم يحاورهم في النهار ويبيت لهم القتل بالليل؟ وكيف للوسطاء العرب الذين ما فتئوا يمارسون كل أنواع الضغط على القيادات الفلسطينية، أن يقنعوا الفلسطينيين مرة أخرى بالجلوس إلى طاولة الحوار، وقد قضى نتنياهو وعصابته على كل فرصة يمكن أن تؤدي إلى وقف إطلاق النار؟

 

إن أمام العرب حلا واحدا لا ثاني له، هو دعم الفلسطينيين بما يحتاجونه من مساعدات إنسانية وسلاح من أجل القدرة على الصمود في وجه هذا العدو الذي لا يؤمن سوى بالقوة، وأن يدعوا لغة الحياد التي تستعمل في موضع لا يصح فيه الحياد، وأن يعلموا أن حدود الأطماع الصهيونية وفق الأدبيات التي أسست لها، لا تقف عند غزة والضفة الغربية فحسب، وإنما تمتد إلى أقطار عربية أخرى. فما غزة والضفة سوى الجبهة الأمامية في حرب قد تطول وتمتد جغرافيا، إذا بقي الموقف الرسمي العربي على ما هو عليه من ضعف وحياد سلبي.

 

اغتيال إسماعيل هنية إسماعيل هنية بالطريقة التي نفذ بها وبالمكان الذي اختير له، هو إعلان هزيمة مدوية من طرف الحكام الصهاينة، بقدر ما هو مصاب جلل أصاب حركة التحرير الفلسطينية، والمناصرين لقضيتها. وبالتالي فإن على العرب أن يتخذوا هذه المحطة الأليمة نقطة انطلاق أخرى، لدفعة جديدة في مسار الكفاح العربي ضد الصهيونية.

 

إن هذه العملية الدنيئة التي برهنت على استخفاف كبير بالوسطاء العرب، وأضعفت موقفهم باعتبارهم دعاة للسلام، هي تعبير عن عجز فادح لآلة القتل الصهيونية أمام مقاومة مسلحة بإيمانها العميق بعدالة قضيتها. إنها بالنسبة للعدو الصهيوني أشبه ما تكون برقصة الطائر المذبوح في بيت الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي:

لا تحسبوا رقصي بينكم طربا ·· فالطير يرقص مذبوحا من الألم