طلب مني صديقي الصحافي أن أعطيه وجهة نظري في شكل مقال مكتوب حول إنجازات الملك محمد السادس خلال هذا الربع قرن من تربعه على عرش أسلافه الميامين، فسألت نفسي هل سأتحدث عن إنجازات الملك أم إنجازات أمير المؤمنين أم إنجازات أب هذه الأمة وهذا الشعب. فجلالته له أكثر من وظيفة ويلعب أكثر من دور واحد، وهذا هو سبب قوته وتواجده الضروري والهام على رأس هذا البلد.
إن الجواب عن هذا السؤال يقتضي مني بحث دكتوراه في ثلاثة مجلدات، وهذا لعظم إنجازاته وقوتها على أرض الواقع، فإذا كان المواطن المقيم بالمغرب يلامس هذه الإنجازات تباعا خلال حياته اليومية، فالمغترب أو الزائر لأرض الوطن يذهل من حجم التقدم والرقي الذي يعرفه المغرب وبوثيرة تصاعدية نحو القمة.
سأبدأ هذه المداخلة المتواضعة تحريرا لا مضمونا، ما دام المضمون هو صلب إنجازات هذا الملك، سأبدأ من السؤال الذي طرح على المغفور له الحسن الثاني من طرف الصحافية آن سان كلير صاحبة برنامج 7/7 سنة 1993، حينما قالت له كيف ترى فترة حكم سيدي محمد وهو ولي العهد آنذاك، فأجابها أتمنى ألا يكون عهدا سهلا وإلا فلن نكون في حاجة للملك. لقد قال هذه العبارة آنذاك بجيناته الوراثية وليس بفمه، لأنه من الأسرة العلوية المعروفة بالتحدي والشجاعة والحكمة، فقد حباها الله بالملك عبر التاريخ، وليس لأحد منا الفضل في ذلك، لأن هذا عطاء رباني، مصداقا لقوله جل وعلا: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء». فمثلا جد محمد السادس المولى إسماعيل سمي بأبو النصر لكثرة انتصاراته، وجده سيدي محمد بن عبد الله سمي بمحرر الثغور والشواطئ، وجده المولى الحسن الأول سمي بالملك الذي كان عرشه على صهوة جواده، وجده سيدي محمد الخامس محرر المغرب من الحماية، وأبوه الحسن الثاني مبدع المسيرة الخضراء ومتمم الوحدة الوطنية والترابية للمغرب. ليأتي محمد السادس ليتم هذه الإنجازات بثورة اقتصادية وبناء دولة المؤسسات عوض دولة الأشخاص. لأنه أمام تطور العالم كنا أمام خيارين: إما مواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية، وإما أن نهوي ونضعف أمام الزحف العالمي الاقتصادي والتكنولوجي والرقمي. وهذا ما تنبه له جلالته، فاستطعنا تجاوز هذا الطوفان أو هذه العاصفة في الوقت الذي هوت فيه عدد من الأنظمة العريقة بسبب هشاشة مؤسساتها وضعف مقومات الدولة الحديثة لديها. فجلالته له تكوين قانوني على مستوى القوانين الوضعية والقانون الدولي ما ساعده على تبني هذا النهج الصحيح.
كما أن بعد نظره وحصافة رأيه وبديهته جعلته يتنبأ باكرا بأن قوة المغرب في اتحاده مع إخوانه الأفارقة، لهذا قال في خطابه بأديس أبابا أحمل اليوم قلبي ومشاعري وأنا أعود إلى بيتي أي لحاضرة الاتحاد الإفريقي، لأن المغرب خرج قويا حينما حاول خصومه المس بوحدته الترابية، وعاد أقوى حينما تأكد لأشقائنا الأفارقة أن المغرب حلقة حتمية وفاعلة وقوية في تقدم إفريقيا وتطوير التعاون الاقتصادي جنوب جنوب.
بصفتي رجل متخصص في العلوم القانونية وعلم الإجرام، سأتطرق للإصلاح في الجانب التشريعي والقانوني، وأبرز من خلاله هذه الاستراتيجية في الدفع في آن واحد بالإصلاح الاجتماعي وبقاطرة الاقتصاد إلى الأمام، وهكذا استطاع جلالته أن يزاوج ما بينهما.
فحينما أمر جلالته بتعديل الدستور سنة 2011 كانت هذه المبادرة بمثابة الثورة الاجتماعية والاقتصادية للمغرب بامتياز، لأن هذا التعديل جاء بسبع مرتكزات أساسية كانت هب الأوراق الرابحة في رهان التعديل وهي:
• تعزيز فصل السلطات مع إعطاء مفهوم جديد لممثليها؛
• تقريب الإدارة من المواطن بإحداث جهوية متقدمة في إطار لا مركزية هادفة وإقرار ديمقراطية تشاركية مع ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتسهيل الولوج للخدمات واعتبار سكوت الإدارة بمثابة موافقة ضمنية ثم تيسير الإجراءات الإدارية مع رقمنة الإدارة؛
• الإبقاء على الثوابت الخاصة بالدين الإسلامي، وعلى رأسها مؤسسة إمارة المؤمنين؛
فكان هذا هو سبب قوة المغرب والمغاربة قاطبة، أولا بالالتحام حول العرش وتأكيد البيعة في شكل تماسك فسيفسائي عرقي برابط ديني موحد وقوي، مصداقا لقوله عز وعلا: «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»، وتصديقا لحديث المصطفى: «من مات وليست في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية»؛
• إعطاء مكانة للأمازيغية؛
ذلك أنه إذا كان العمود الفقري لجغرافية المغرب هي جبال الأطلس، فالعمود الفقري للأمة المغربية هم الأمازيغ فكان لزاما إقرار التعددية اللغوية دستوريا والتي فرضها العمق التاريخي والراجع لأكثر من 2000 سنة قبل الميلاد ما جعل منها حضارة قائمة الذات وموروثا ثقافيا يضاهي الحضارات العريقة؛
• تكريس الطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة والغنية بتنوع روافدها، ما دفع بانتهاج
تسامح ديني نابع من تاريخ مشترك وتعددية تكمل بعضها البعض مع الحفاظ على الموروث الثقافي واحترام الخصوصيات العرقية والقبلية في انسجام وتناغم فكري؛
• توسيع مجال الحريات الفردية والجماعية وضمان ممارستها؛
لحظر كل أشكال التمييز وإقرار المساواة بين الرجل والمرأة في كل الحقوق مع جعل السلامة الجسدية والمعنوية والاسرية حقوقا دستورية.
فتولد عن هذه الإصلاحات الجذرية تعديلات قانونية مسترسلة ومتواترة، صدرت بمقتضاها قوانين جديدة، وتم تحديث أخرى لمواكبة التطور، كحق تأسيس الجمعيات وتعديل قانون الصحافة والنشر وإقرار الحق في المعلومة واعتبار حرية التعبير والإبداع والنشر كحق دستوري؛
* تعزيز منظومة حقوق الإنسان؛
بإحداث المجلس الوطني لحقوق الإنسان بدل ديوان المظالم وإحداث مؤسسة وسيط المملكة، ثم جعل الاتفاقيات الدولية تسمو على القوانين الوضعية، الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، لتوطيد مبدأ فصل السلطات وتوازنها، إطلاق مشروع الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة ما بين سنوات 2013 / 2017؛ الاستقلال التام للسلطة القضائية عن باقي السلط مع الاستقلال التام للنيابة العامة.
القيادة والحكم يعنيان التشريع GOUVERNER C EST LEGIFERER
فحينما بدأ جلالته بالتشريع لفائدة الفئات الهشة ـ الفصل 34 من الدستورـ هنا تكون الدولة في خدمة المواطن كيفما كلف ذلك من مصاريف وإمكانيات وجهود. فعلى سبيل المثال نجد كحقوق دستورية: المناصفة والمساواة طبقا للفصل السادس؛ الحق في العلاج والصحة والتغطية الاجتماعية والتعليم؛ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛ مشاركة المجتمع المدني في تسيير الشأن العام؛ إعطاء صفة المنفعة العامة للجمعيات الفاعلة في المجال الاجتماعي؛
محاربة العنف ضد المرأة مع إحداث خلية التكفل بالمرأة والطفل وإقرار المصلحة الفضلى للحدث في كل الحالات والمواقف؛ إحداث مدونة الأسرة ثم الأمر بتعديلها لتواكب تطور المجتمع؛ تعديل القانون الجنائي لحماية الفئات الضعيفة؛ إحداث وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة؛ إحداث بطاقة الرميد وبعدها لامو وتقنين نظام التقاعد؛ ثم تنظيم المهن التقليدية للحفاظ على الموروث الثقافي.
كان لهذه التعديلات الدستورية غايات نبيلة وأهداف مسهّمة وعزم قوي من طرف جلالته لتخليق الحياة العامة لم تتم قراءتها في حينها آنذاك، فلما صدر القانون الجنائي المغربي سنة 1961 لم يعرف تعديلات كثيرة إلا بعد صدور دستور 2011، والذي كان بمثابة انطلاقة لكل التغييرات التي من شأنها تنزيل مقتضياته على أرض الواقع بما في ذلك العمل على ملاءمة التشريعات المغربية مع الاتفاقيات والقوانين الدولية، ما دام المغرب قد اختار في تصدير دستوره خيارا استراتيجيا يروم الانفتاح على العالم دوليا وقاريا.
فبعد 1961 كانت هناك تعديلات طفيفة لبعض الفصول سنة 67 / 74 / 77 / 82 / 92 / 94 / 96 / 99 / 2000 لتبدأ في سنة 2003 وتيرة سريعة في التشريع همت بالدرجة الأولى قانون مكافحة الإرهاب والتي وافق عليها البرلمان بغرفتيه إثر وقوع أول اعتداء إرهابي بمدينة الدار البيضاء في 16 ماي 2003، ثم في نفس السنة صدر قانون نظام المعالجة الآلية للمعطيات بعدما بدأت الحواسب تغزو الإدارات العمومية والمؤسسات التجارية، وعرفت سنة 2004 حذف محكمة العدل الخاصة التي كانت تختص في قضايا الفساد المالي والارتشاء تماشيا مع اختيار المغرب الاستراتيجي القائم على مبدأ المحاكمة العادلة والتكريس الحقيقي لمبادئ حقوق الإنسان، خصوصا أن المتابعات بهذه المحكمة كانت تحرك من طرف وزير العدل وليس الوكيل العام للملك، حيث وزعت اختصاصاتها على خمس محاكم عادية كبرى وهي الرباط الدار البيضاء مراكش فاس مكناس. فيما عرفت سنتي 2006 و2007 قانوني غسيل الأموال والتصريح بالاشتباه، وعرفت سنة 2008 قانون 48.07 الخاص بالتصريح بالممتلكات لكل الموظفين وممثلي الأمة، وعرفت سنة 2011 عدة تدخلات تشريعية من قبيل قانون العنف بالمباريات الرياضية لما أصبحت تعرفه الرياضة من ظاهرة الهوليگانز، ثم قانون تجريم سرقة الرمال حيث استغل تطور التعمير بالمدن في استنزاف الثروات الرملية، ثم ظهير غسيل الأموال وإلغاء الفصول 494/495/496 من القانون الجنائي في إطار القضاء على كل أشكال العنف ضد النساء، كما تم تعديل الفصل 475 بإلغاء فقرته الثانية التي كانت تسمح بتزوج الخاطف بالضحية القاصر ثم قانون محاربة العنف ضد المرأة والتحرش الجنسي ثم قانون 33.18 لتشديد العقوبة ضد محرري العقود الرسمية. وقوانين أدخلت بعض التعديلات على الفصول الخاصة بمكافحة الارهاب وغسيل الأموال.
فنجد إذن بعد خمسون سنة من التطبيق للقانون الجنائي أدخل عليه 31 تعديلا هم بالأساس تخليق الحياة العامة والقضاء على كل أشكال الفساد ثم الرقي بالقانون للقضاء على كل أشكال التمييز بين الجنسين والتنزيل الحقيقي للمحاكمة العادلة واحترام مبادئ حقوق الإنسان والقوانين الدولية، ثم حماية المعاملات وضمان استقرارها من خلال حماية القوة الثبوتية للعقود الرسمية، والحرص على مبدأ الشفافية والحق في المعلومة والتعاون القضائي الدولي في مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، والقضاء على خلايا التطرف، كما تم إدخال عدة تعديلات على قانون المسطرة الجنائية لتواكب هذه التعديلات، وذلك من قبيل حماية الشهود والضحايا والحرص على توازن مصالح أطراف الدعوى والفصل بين سلطات ممارسة الدعوى العمومية والبث داخل أجل معقول مع احترام قرينة البراءة والحق في إعادة فحص التهم والحق في الاطلاع على كل وسائل الإثبات وغيرها من الضمانات الأساسية في المحاكمة الجنائية.
ولأن المغرب اختار نظاما جديدا للفصل التام بين السلط وذلك خلال تعديل منظومة العدالة سنة 2017، بفصل النيابة العامة عن وزير العدل وإحالة كل اختصاصاته على الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض والذي أصبح في نفس الوقت هو رئيس النيابة العامة، مع إحداث لجنة للتنسيق ما بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة.
فقد لا يرى الرجل العادي هذه الإصلاحات كما يراها رجل القانون، والتي يقدر من خلالها الجهود المبذولة من طرف جلالة الملك للتأسيس الحقيقي لدولة المؤسسات عوض دولة الأشخاص.
حفظ لله مولانا أمير المؤمنين وأبقاه ذخرا وملاذا لهذا الشعب ولهذا البلد، وإن كتبت بمداد البحر وأقلام الغابات فلن أوفي حقه فيما حققه خلال ربع قرن من العمل الجاد والعزيمة القوية والجهد اللا مشروط والعطاء الوافر، والسلام على المقام العالي بالله.
عبد العالي المصباحي، رئيس رابطة قضاة المغرب