بعد تولي الملك محمد السادس حكم المغرب (29 يوليوز 1999)، قال للصحافية الفرنسية آن سانكلير، في حوار مع أسبوعية "باري ماتش"، إن "والدي، رحمة الله عليه، كان يقول متحدثا عني: «هو هو، وأنا أنا». لكل واحد منا أسلوبه وطريقته الخاصة في العمل. لكن المهم هو الهدف".
والآن وقد مر ربع قرن (25 سنة) على اعتلائه العرش، يحق للمؤرخين والباحثين في التاريخ والمتابعين والإعلاميين، أن يتساءلوا عن الأسلوب الذي نهجه الملك محمد السادس في تدبيره لحكم بلاده، في مرحلة طغت عليها، بحق، التحولات الكبرى والتقلبات العابرة للحدود. ما هي المكاسب والإنجازات التي حققها؟ كيف استطاع إدارة البلاد في كل المنعرجات الوطنية والدولية الوعرة التي اتسمت بها المرحلة؟
لا شك أن فترة حكم الملك محمد السادس تتميز بمجموعة من العناوين الكبرى التي شكلت جوهر الحكم وأسلوبه وأهدافه، بل شكلت ملامح المغرب الجديد وفق فلسفة الحكم التي ميزت المرحلة الحالية منذ تدشين مساراتها الأساسية قبل ربع قرن بإرادة، ويمكن إجمالها في مايلي:
أولا: القضية الوطنية: تعتبر مغربية الصحراء ثابتا وطنيا واضحا في سياسة الملك محمد السادس، إذ اعتبرها دائما «النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم». وقد عمل، وفق هذه الرؤية، على إسماع صوت المغرب على الساحة الدولية، مما دفع العديد من القوى العالمية، وعلى رأسها واشنطن ومدريد وبرلين وبروكسيل وباريس، إلى الاعتراف بالطرح المغربي، ووجاهة مقترح الحكم الذاتي، وواقعيته بوصفه حلا وحيدا لتسوية النزاع. وقد كان الأداء الديبلوماسي قويا وفاعلا، إذ راهن على تقوية شراكات المغرب الحالية والمستقبلية، وإخراجها من المنطقة الرمادية، بما ساهم في تعزيز الدعم الدولي في ما يتعلق بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، ضدا على المخططات التآمرية لـ «كابرانات الجزائر» ومن يدور في فلكهم من مرتزقة البوليساريو والمؤسسات الدولية. إذ تمكنت الرباط، بفضل يقظتها الديبلوماسية على عدة أصعدة «سياسية وأمنية واقتصادية ورياضية»، من حيازة دعم أزيد من مائة دولة تدعم بقوة سيادة المغرب على صحرائه أو تلتزم على الأقل بمخطط الحكم الذاتي. بل نجح في دفع مجموعة من الدول العربية والإفريقية إلى افتتاح 28 قنصلية بمدينتي العيون والداخلة. كما أن أكثر من 84% من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة لا تعترف بشرعية «جمهورية البوليساريو» التي تدعمها جارة السوء «الجزائر».
ثانيا: العودة إلى إفريقيا: كل المؤشرات تثبت بأن الحدث المفصلي لحكم محمد السادس هو عودة المملكة إلى عضوية الاتحاد الأفريقي بعد أكثر من 32 عاما من انسحابها منه في العام 1984 احتجاجا على قبول المنظمة عضوية «الجمهورية الصحراوية» الوهمية بدعم من دولة العسكر الجزائري وبعض دول «الموز» المتحالفة معها. وقد انخرط الملك في جولات إفريقية بخيارات سياسية واقتصادية واستراتيجية واضحة، جعلت العديد من الدول الإفريقية تقف على كساد «التآمر الجزائري»، وتراهن على المغرب بوصفه شريكا موثوقا وصاحب مشروع إقليمي وقاري ودولي يرتكز على قناعة التنمية الإفريقية على قاعدة الاقتصاد أولا وأخيرا. وقد ساهم الجهد الديبلوماسي الملكي في انخراط فاعلين أفارقة في ضرورة التخلص من أطروحة البوليساريو الوهمية وديناميكيتها الشكلية التي تستعملها الجزائر وبريتوريا من أجل الاتجار السياسي ومعاكسة مصالح المغرب، بحثا عن زعامة قارية مزعومة.
ثالثا: الريادة الأمنية: منذ أحداث 16 ماي 2003، انتبه الملك محمد السادس، ولم يمض على حكمه إلا نحو 4 سنوات، إلى خطر الإرهاب بوصفه تهديدا حقيقيا لأركان الدولة، وخطرا ماحقا على السلم العالمي والدولي، وذلك في سياق عالمي تتميز بارتدادات هجمات 11 شتنبر 2001، فعمل على تجديد المنظومة الأمنية إلى أن تحولت بالفعل إلى مرجع على المستوى العالمي، إذ أشعل يقظة هذه الأجهزة بكل تفريعاته «الشرطية والاستخباراتية والعسكرية»، ضد كل الأخطار المحدقة، وذلك وفق رؤية مقتدرة للحفاظ على الكيان الوطني من كل التهديدات التي أصبحت، راهنا، متعددة الأشكال والأساليب، وعابرة للحدود، وقد تتخذ معنى حربيا على المستوى الإقليمي والدولي.
وقد تمكن خلال كل هذه السنوات من تحويل إدارة الأمن، بفضل التعيينات الناجحة والمخطط الناجع، إلى وجهة دولية، وأصبح المسؤولون الأمنيون بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، وحتى بعض الدول الأسيوية «مثل الهند والصين» يترددون على الرباط من أجل إبرام اتفاقيات أمنية تهم التكوين والتنسيق والتعاون في المجال الأمني والاستخباراتي.
رابعا: تعزيز دور إمارة المؤمنين: أكد الملك محمد السادس، في أكثر من مناسبة، أنه أمير المؤمنين لجميع الديانات"، إذ تحظى «إمارة المؤمنين» باهتمام كبير، ليس في النسق السياسي المغربي فقط، بل أيضا على المستوى الإفريقي والدولي أيضا، وخاصة الأمريكي والفرنسي، حيث سبق لتقرير نشره «معهد فورين بوليسي» أن أكد على ضرورة الاستناد إلى إمارة المؤمنين في الاستراتيجية الرامية إلى مكافحة الإرهاب والتطرف الديني بغرب إفريقيا والساحل. ذلك أن الوضع الديني لملك المغرب يمكن أن يشكل «عماد تحالف إقليمي ملتزم بالمهة النبيلة المتمثلة في هزم الجماعات الجهادية الإرهابية». كما سبق للمراكز الفرنسية المتخصصة.
وقد عمل الملك، طيلة فترة حكمه على تشغيل إمارة المؤمنين، على المستوى المؤسساتي، إذ أنشأ «مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة» التي تسعى إلى إعطاء دفعة قوية للحضور المغربي داخل إفريقيا، وإلى استثمار الرصيد الثقافي والتاريخي الذي يربط المغرب بإفريقيا الغربية بهدف الحصول على المقبولية والدعم من طرف شريحة واسعة من النخب الدينية والسياسية بتلك البلدان الإفريقية.
خامسا: طي ماضي الانتهاكات: عمل الملك محمد السادس على تكريس مبدأ العدالة الانتقالية وطيّ صفحة الماضي بواسطة هيئة الإنصاف والمصالحة التي أنشأها في السابع من يناير 2004، وتكلل عملها بإطلاق عدد من التوصيات والإصلاحات، من بينها إصلاح الأمن والقضاء، وإنشاء سلطة قضائية مستقلة «المجلس الأعلى للسلطة القضائية»، وتعديل الدستور لضمان حقوق معينة لاسيما حقوق الإنسان، والإذن بجبر الضرر والتعويضات؛ مالية ونفسية وطبية واجتماعية؛ والتصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بما في ذلك إلغاء عقوبة الإعدام، وتحمل الدولة المسؤولية عن الانتهاكات بما في ذلك الاختفاء والاحتجاز التعسفي والتعذيب والاستخدام المفرط للقوة، والعمل على تقليص السلطات التنفيذية وتقوية السلطة التشريعية، بالإضافة إلى توصيات مفصّلة في مجالات معينة منها: المساواة بين الجنسين، الوساطة المجتمعية، الحد من الفقر، تطبيع الوضع القانوني، التعليم المستمر، التطوير المهني، إعادة التأهيل الطبي والنفسي وإقامة النصب التذكاريّة وأشياء أخرى.
سادسا: إصلاح مدونة الأسرة: أولى الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش أهمية قصوى لإصلاح مدونة الأسرة. إذ يعتبر إصلاحها من بين الأوراش التشريعية الكبرى التي أطلقها سنة 2004، وشهدت جدلا كبيرا بين الحداثيين والإسلاميين؛ وعاد بعد عشرين سنة من ذلك ليدعو، في خطابه بمناسبة الذكرى الثالثة والعشرين لعيد العرش بتاريخ 30 يوليوز 2022، إلى تجاوز الاختلالات والسلبيات التي أبان عنها تطبيق مقتضيات مدونة الأسرة، ومراجعة مجموعة من البنود، وذلك لكي تقوم الأسرة على التوازن اللازم فيما يتعلق بحقوق المرأة والرجل وحقوق الطفل. وقد اختار الملك الإطار المؤسساتي التشاركي والتشاوري لإعادة النظر في مدونة الأسرة، وذلك بهدف تجاوز «الإطارات المغلقة»، والارتفاع عن النقاش الحامي الوطيس بين المحافظين والحداثيين، لصالح مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي والقوانين الوطنية التي عرفت تطورا ملحوظا يستجيب للقيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب.
سابعا: مراجعة الدستور: تمكن الملك محمد السادس، من خلال خطاب 9 مارس 2011، من كبح الهزات التي عرفتها مجموعة من البلدان المجاورة. وقد بادر الملك إلى إعلان إصلاح دستوري شامل لتسريع وتيرة الديمقراطية، حيث تمت المصادق على «دستور يوليوز 2011»، في استفتاء شعبي كاسح. وكان هذا الدستور محطة مفصلية في تاريخ المغرب، إذ أعاد تأسيس العلاقة بين العرش والشعب، وبين الدولة والمجتمع. حيث ركز على الفصل بين السلط في إطار نظام ملكية دستورية، ديمقراطية، برلمانية وذلك بحذف كل إشارة إلى قدسية شخص الملك وتعويض ذلك بأن الملك لا تنتهك حرمته وله واجب التوقير والاحترام. كما نص التعاقد اللغوي القائم على التعددية والانفتاح، من خلال تكريس رسمية اللغة الأمازيغية ضمن، فضلا عن التأكيد على سيادة الأمة وسمو الدستور،، إضافة إلى دسترة الجهوية المتقدمة والتنصيص على المبادئ الموجهة للجهوية المغربية، ناهيك عن تعزيز المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وتم التنصيص على إحداث هيأة للمناصفة ولمحاربة كل أشكال التمييز. هذا دون أن ننسى الإرتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة. كما تضمن الدستور مبادئ قوية في مجال الحكامة الجيدة وتخليق الحياة العامة ودولة القانون في المجال الاقتصادي، من خلال الحق في الملكية، وحرية المقاولة والمنافسة الحرة وتأطير شروط الاستفادة من الحصانة البرلمانية.
ثامنا: النموذج التنموي الجديد: سعى الملك محمد السادس من خلال البحث بناء نموذج تنموي جديد (تم إحداث اللجنة يوم 12 دجنبر 2019)، إلى تعزيز الديمقراطية و تقوية أسس نمو اقتصادي مستدام، عبر تنزيل الدولة الاجتماعية وفق رؤية متقدمة للنهوض بالتنمية البشرية ومحاربة الفقر والاقصاء خاصة من خلال السياسات الاجتماعية وبرنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والنموذج التنموي للأقاليم الجنوبية وبرنامج تنمية المناطق القروية والجبلية والمناطق الرطبة وتسريع وتيرة النمو في المجالين الاطلسي والمتوسطي. وقد سعى محمد السادس عبر هذا النموذج إلى بناء أرضية تعاقدية للتوجه نحو التنمية التي أضحت موضوعا ملكيا ثابتا، وذلك عبر هندسة أجيال جديدة من الإصلاحات القطاعية، لغاية اعتمادها كركائز في لا محيد عنها لمعالجة الفوارق الاجتماعية والمجالية، التي ما فتئت تتسع يوما بعد يوم.
تاسعا: الحماية الاجتماعية: عمل الملك محمد السادس على إقرار مجموعة من الإصلاحات الاجتماعية التي تؤسس لما يصطلح عليه اليوم بالدولة الاجتماعية التي توفر لمواطنيها الرفاهية والحماية الاجتماعية من اجل ضمان حقوق الإنسان الأساسية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك من خلال الاهتمام بفتح أوراش التعليم والصحة والتطبيب والضمان الاجتماعي ونظام التأمين ضد الشيخوخة والإعاقة والتأمين الصحي والحق في العمل والسكن اللائق والدعم الحكومي للخدمات الاجتماعية والثقافية للفئات الاكثر احتياجا. وقد أبان عاهل البلاد عن اهتمامه الكبير بالإصلاحات الاجتماعية الكبرى، من خلال إحداث المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومؤسسة محمد الخامس للتضامن، والجهود الجبارة لصندوق المقاصة، ونظام المساعدة الطبية «راميد»، وإقرار المساعدات المباشرة خلال الفترات الاستثنائية، لا سيما خلال جائحة كوفيد-19، حيث استفادت 3.81 مليون أسرة من هذه المساعدات. ولن ننسى الصلابة والعزيمة التي واجه بها الشعب المغربي، بقيادة الملك، زلزال الحسيمة الذي وقع يوم 24 فبراير 2004 وتسبب في مقتل ما لا يقل عن 628 شخصا، ثم زلزال الحوز، الذي وقع في 8 شتنبر 2023. وما تبعه من سرعة في مساعدة الضحايا، وأظهر فعالية وسرعة تحرك سلطات البلاد وقبل كل شيء، الالتزام الكامل للملك. وكما حدث في أكادير عام 1960، لم تكن الزلازل التي ضربت الحسيمة والحوز دروسا في التضامن فحسب، بل كانت أيضا بدايات جديدة لمناطق بأكملها. في المغرب، نحن نبني، وإذا لزم الأمر، نعيد البناء. ولكن إلى الأفضل.
عاشرا: فورة البنيات التحتية: تمثل الثورة في البنيات التحتية تجسيدا لمرحلة الملك محمد السادس، ومن أبرز الأوراش التي أطلقها، ميناء طنجة المتوسط «يصنف في قائمة أفضل 20 ميناء للحاويات في العالم»، وتطوير البنية التحتية للموانئ والمطارات، ومشروع القطار الفائق السرعة «البراق»، والوصول إلى 2000 كيلومتر من الطرق السريعة «أكبر شبكة طرق في إفريقيا بعد شبكة جنوب إفريقيا»، ومن المنتظر أن تبلغ 3000 كيلومتر بحلول 2030، فضلا عن ميناء الناظور، ثم ميناء الداخلة فضلا عن مضاعفة أسطول الخطوط الملكية. وتهدف هذه المشاريع إلى تحسين الربط الإقليمي والدولي، وتعزيز الاقتصاد الوطني من خلال تحسين كفاءة النقل وتسهيل حركة البضائع والأشخاص، مما يؤكد تركيز الملك على بناء اقتصاد قوي ومترابط يعتمد على بنية تحتية متطورة ومتكاملة.
تبين من خلال هذه الإنجازات أن الملك محمد السادس أقر، طيلة ربع قرن، رؤية واضحة ومترابطة لتحديد الإقلاع الاجتماعي والاقتصادي الوطني، فضلا عن تأطير جغرافيا العلاقات الدولية والتعامل مع الأوضاع الجيوسياسية التي فرضتها التحولات الكبرى على الصعيد الدولي، وذلك عبر بناء شراكات قوية ومتنوعة مع مختلف القوى العظمى «الولايات المتحدة، الصين، روسيا»، والعمل على تحقيق توازنات في العلاقات مع الدول الصاعدة والتجمعات الدولية والإقليمية، بما أدّى إلى تحقيق اختراقات غير مسبوقة على مستوى تحقيق التعريف بالقضية الوطنية الأولى. ومن جملة ذلك، الانفتاح الديبلوماسي والأمني والفلاحي، وأيضا الطاقي، من خلال استراتيجية التنقيب عن الغاز، وترسيم الحدود البحرية، ومشروع أنبوب الغاز المغرب-نيجيريا، ومشروع الطاقة الشمسية، من خلال بناء محطات بقوة إجمالية قدرها: 2000 ميكاوات، فضلا عن مشاريع الطاقة المتجددة والمدن الذكية التي تسعى لتحقيق الاستدامة البيئية.
لقد عمل الملك محمد السادس على وضع ركاز قوية وأساسية لحكمه الذي استغرق حتى الآن 25 سنة، ومن أقواها على الإطلاق تحصين القضية الوطنية ضد مؤامرات الجار الشرقي، وتحصين الأمن الداخلي، وتنويع شراكاته الاقتصادية، فضلا عن العودة إلى البيت الإفريقي، وتحسين مناخ الأعمال، وتقوية الاقتصاد الوطني وجلب الاستثمارات الأجنبية، وتطوير البنيات التحتية الكبرى، بالإضافة إلى تكريس السلم والأمن داخليا وخارجيا.
تفاصيل أوفى تجدونها بالعدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"