أتاح النقاش المفتوح هذه الأيام من طرف السادة المحامون المتعلق بجدوى التصعيد في الأشكال النضالية، وتزامن ذلك مع إحالة مشروع قانون المسطرة المدنية على مجلس النواب والمصادقة عليه؛ الفرصة لمناقشة دور البرلمان في التعبير عن إرادة الشعب وإيصال صوتهم وهمومهم وآرائهم ومدى التزامهم بذلك.
إن تطور الأنظمة القانونية الدولية والتقدم الفاعل في مجال حقوق الانسان، وعلاقة ذلك بالسياسات العامة للدول، أدى إلى نتاج تطبيق الديمقراطية في أبهى حُللها من خلال تفعيل نظام الانتخابات الشعبية، والتصويت على مجموعة من الأشخاص المترشحين، يبقى دورهم الأصيل في الشق المتعلق بالبرلمان؛ يتمثل في ثلاث مهام أساسية: النيابة عن الشعب في إيصال همومهم ومصاعبهم وشكاياتهم من جهة أولى، اقتراح نصوص قانونية تعود على الشعب بالنفع من جهة ثانية، و المناقشة والمصادقة على مشاريع القوانين التي تشرعها الحكومة والحلول محل الشعب في تمريرها أو رفضها.
فإذا كانت هذه الأدوار الثلاثة الأصيلة والعامة لعمل البرلمان بمجلسيه، فإننا نلاحظ أن المشاريع التي تعد من طرف الحكومة وتحال على البرلمان غالبا ما يكون ختامها المرور والمصادقة إجماعا، حتى أكد أغلب السادة المحامون أن زمن النضال والتصدي لقانون المسطرة المدنية قد انقضى، ولا جدوى من أي تصعيدٍ نضالي، وهو التشخيص العملي لما سميناه " باليأس المسطري التشريعي".
وإذا كان هذا هو الواقع العملي والتشخيص التطبيقي لتدخل البرلمان في النصوص المشرعة من طرف الحكومة، فإن الأصل النظري الذي من المفترض أن يكون، هو أن هؤلاء البرلمانيين هم نوابٌ للأمة في التصدي لأي مقتضى قانوني سيمس بالشعب ويضر به، وسيخرق الدستور والقانون ويطيح به، بل وسيضرب عرض الحائط كل المبادئ الدولية والكونية المجمع على ضرورة احترامها، فيصوتُ الشخص بصفته مواطنا وعاملا وأجيرًا وموظفا.. رغبةً في حماية حقوقه الوطنية والشخصية والمهنية، فعِوضَ أن يصوِت كل شخص على حدى ويعبر عن موقفه اتجاه مشروع قانون أنجزته الحكومة؛ فإن الديمقراطية أنتجت أن يصوت هذا الشعب على ممثلين لهم يقومون بالدور المذكور بكل أمانة واستقلالية وثقةٍ فُوِضت لهم تحت طائلة المسؤولية. فأين نحن من ذلك..؟
ولأن المناسبة كما يقول المناطقة شرط، فإنني أتساءل مع من صوّتُ عليهم لينوبوا عني في قبة البرلمان بصفتي مواطناً ومتقاضياً ومحامياً الأسئلة الآتية:
هل من الديمقراطية أن تُمرروا قانونا يفرق ما بين الفقراء والأغنياء في التقاضي، فيمنح أصحاب الملفات التي تتجاوز مبلغ 40 ألف درهم حق الطعن بالاستئناف مقابل حرمان الآخرين من ذلك، ويحدد قيمة الطعن بالنقض في 100 ألف درهم ويَحرم الباقي من ذلك، والحال أن جميع المتقاضين متساوون أمام القضاء؟ فيُفرّغ ذلك المكتري المسكين الذي لم يستطع إثبات أدائه للوجيبة الكرائية، والحال أن الاستئناف ينشر الدعوى من جديد، وكان بإمكانه استدراك الحفاظ على المنزل المكترى استئنافا، ليطرد ويتشرد هو ومن يقوم مقامه من هناك، والحال أن المبدأ الكوني يقول بمجانية القضاء والولوج المستنير للعدالة؟
هل من الديمقراطية أن تُمرروا قانونا يفتح الباب بمصراعيه أمام انتشار السمسرة والفساد والإكثار من الطفيليات والمتدخلين في منظومة العدالة في غموضٍ كبير وتفسيرات متعددة تضرب بالاصلاح الذي نطمح له جميعا تحت القيادة الرشيدة لملك البلاد محمد السادس؟
هل من الديمقراطية أن تُمرروا قانونا مسطريا وُضع من دون اشراك المؤسسات المهنية ودون الأخذ باقتراحاتهم ومذكراتهم الترافعية واحتجاجاتهم والحال أنهم أسياد المساطر والمشتغلون بها والمحركون لها تطبيقا وتنظيرا؟
هل من الديمقراطية أن تُمرروا قانونا يخيف المتقاضي من اللجوء إلى القضاء عبر إقرار غرامات وعقوبات كثيرة على كل طلب حُكم بعدم القبول أو دفعٍ اتصف صاحبه بالشجاعة؟
هل من الديمقراطية أن تُمرروا قانونا يضرب قواعد قانونية متينة من قبيل حجية الشيء المقضي به وقوة الشيء المقضي له للأحكام والتنفيذ المعجل.. من خلال السماح للنيابة العامة بالطعن في جميع الاحكام وفي أي وقتٍ تحت علة النظام العام الذي لم يحددوا شروطه ولا ضوابطه؟
إن الدارس الجيد للتاريخ السياسي، والقانوني، والحقوقي بالأساس، يعي بوعي سامي، وإيمان اعتقادي عميق، أن الأفراد المكونين للشعوب هم الأصل، وبلغة أدق، هم الدائنون، أما الدولة فما هي إلا مدين لهذا الشعب في علاقة تعاقدية محضة منبعها العقد الاجتماعي، أما مشروعيتها فتتمثل في تحقيق المتطلبات اللازمة والحقوق الأساسية المنصوص عليها في الدستور، كوسيلة محلية مصغرة لصياغة ما هو مكرس بالإعلان العالمي لحقوق الانسان كأصل، وما صحبته من اتفاقيات لاحقة كفرع، والفرع يتبع الأصل وجودا وعدما.
ومن تم نقول إن احتكار الدولة للتشريع، ماهو إلا وسيلةٌ للحفاظ على تلك الحقوق وصيانتها، تحت طائلة الطعن في مشروعيتها من الأصل الأصيل، فهي بذلك وسيلة فرضتها الضرورة الحتمية للوصول لغاية تحقيق مجموعة من الحقوق والحريات وصيانتها، وعلى رأسها حرية التعبير والرأي. فأين نحن اليوم من ذلك؟
أناشد رجال الدولة العارفين، (وكثيرٌ ما هُم) بإعادة التوازن الناجع، وإعادة الأصل إلى أصله، كما أناشد غير العارفين بالمعرفة الدقيقة، اجتهادا، وتحصيلا، وتجردا من كل الايديولوجيات الشخصية.
ختاما، أقول كما سبق أن قلت كلما استدعى الأمر ذلك، فقد تدخل الدُبابُ لصنع العسل، فَفر النحل إلى الجبل، فمن أراد العسل صعد الى الجبل، ومن أراد الذباب فليَنبطح مع المنبطحين..
ذ فخصي معاذ/ محام بهيئة الدار البيضاء