نعم.. الشق الأول من العنوان أعلاه رديف للمقولة المغربية التي ستظل سارية المعاني والأبعاد على كل الفترات التاريخية القادمة: "مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس"... وبنفس الدلالات بعيدة المدى، التي سيظل صداها يتردد في آفاق هذا البلد المسالم الأمين!!
من ابرز المعاني التي زخر بها هذا العيد المجيد، بالذات، أنه شكّل كابوساً مرعبا لجارتنا الشرقية، طرد النوم من عيونها المُثْقَلة من فرط سُكْرها وعربدتها، حتى بدا أنّ سكانها العجزة سيأخذون معهم إلى قبورهم ذكرى هذا العيد، ومعظمهم فعلاً قاب قوسين أو يكاد من حافة قبره، لا لشيء، سوى لأن باباهم ماكرون تنكّر للقُبلات الحارة والعناق المحموم الذي جمعه قبل أقل من شهر مع رئيسهم عبد المجيد، أمام اندهاش جورجيا ميلوني، التي حملت نظراتها الحادة أكثر من معنى وهي تراقب حركات العشيقين الباعثة فعلا على السخرية والرثاء، وخاصة من الجانب الجزائري، وتحديداً من السي عبد المجيد، الذي لم يستطع أن يخفي عشقه المحموم وهو يضرب يد وزير خارجيته، بكل تلقائية، حتى لا يظل هذا الأخير ممسكاً بيد الحبيب ماكرون أكثر من اللازم (!!!).
الموضوع وما فيه، يا حضرات، أن حكام الجزائر الضائعة، بعدما شنّفوا أسماع العالم ببيانهم الأول، "الرسمي" والسابق لأوانه، بخصوص ما بلغ إليهم بالطرق "غير الرسمية" من اعتزام فرنسا العودة إلى جادة الحق والصواب بالاعتراف المنطقي والبديهي للمغرب بحقه المشروع في تكريس سيادته على كامل صحرائه الجنوبية الغربية... بعد كل تلك "الزيطة"، قضوا ليلة ذكرى عيد العرش المغربي واقفين على بُؤَرِ عيونهم، وليس على أقدامهم كما يقف النلس كافة، في انتظار ما سيأتي في الخطاب الملكي بالمناسبة، وكانوا بالبداهة يتوقعون صدور إشارة أو إشارات ملكية إلى الموقف الفرنسي المرتقب، ولكنهم في فورة ترقّبهم نسوا أن ملك المغرب ليس من طينتهم، وأن خُلُقَهُ الملكي الراقي ليس من صنف خصالهم المتذبذبة بين السَّيِّئِ والأسوأ، ولذلك أصيبوا بإحباط شديد، وفوق الطَّوْق، عندما أنصتوا إلى الخطاب السامي فلم يجدوا فيه أدنى إشارة أو حتى إيماءة إلى الموضوع إياه، وقضوا ليلتهم يُعيدون سماع الخطاب ذاته ويُقلّبونه من مختلف جوانبه خشيةَ أن يتضمن فيما بين أسطره معانٍ لم يدركوها في غمرة سُكْرهم اليومي الطافح... ومن الطبيعي أنهم أصيبوا بخيبة عارمة لأنهم لم يجدوا أدنى قشّةٍ يتمسّكون بها ويبنون عليها ردود أفعال ومواقف لا شك أنها كانت مصوغة وجاهزةً وفي خانة الانتظار!!!
ولأن عناية السماء لم تشأ أن تٌطيل انتظارهم القاتل ومعاناتهم، جاءهم الخبر اليقين مع أولى تباشير صبيحة العيد المجيد، من خلال بلاغ رسمي للديوان الملكي يزف إليهم بشرى تكريس الوعد الفرنسي على أرض الواقع السياسي والدبلوماسي، بعد أن كانوا سباقين إلى الرد عليه قبل صدوره عن أصحابه ومهندسيه في الإليزي، ولكنه جاءهم هذه الكَزّة شديد الضخامة والثقل لكونه موقعاً ليس من لدن وزير الخارجية الفرنسي، ب"الكِي دورساي"، ولا حتى من لدن رئاسة الحكومة المنتهية صلاحيتها، بل جاءهم بتوقيع رئيس الجمهورية بقده وقديده، "عمانويل ماكرون"، الذي كان قبل بضعة أسابيع منخرطا مع رئيسهم الشغوف في عناقات وقُبَل لا نظير لها في كل أشكال تَبادُل التحية بين رؤساء دول العالم وقاداته!!!
وكما كان منتظراً، جاءت رسالة ماكرون ملبية لانتظارات الشارع المغربي، الذي تلقاها بغبطة لا تضاهيها إلا فرحته بانتصارات فريقه الأولمبي لكرة القدم وباقي شبابه، من المشاركين والمشاركات في أولمياد باريس، في حين أن سكان الموراديا شكلت لديهم صدمة العمر، لأنهم كانوا بغبائهم المعهود يعتقدون أن بياناتهم المحمومة التي سبقت الرسالة الماكرونية والتي أطلقوا لها العنان طوال أيام الأسبوع الفارط سيكون لها أثرها الرادع بين جنبات الإيليزي، وأن من شأنها أن تجعل ماكرون يفكر ألف مرة قبل الإقدام على خطوته التصالحية والتوافقية تجاه مغرب المغاربة الأقحاح، الذين قال عنهم جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني ذات مرة، إنهم يستطيعون أن يهدّوا جبلا شاهقا ليس بالمعاول ولا بآليات الحفر والجَرف وإنما... بمجرد إبرة!!!
نهايته، أعادت الجزائر زعيقها وعويلها المعهود إلى ساحة الفعل السياسي والدبلوماسي الإقليمي والجهوي والعالمي، فأشبعت فرنسا شتما وتجريحا، قبل أن تعلن، على وجه السرعة والتسرّع كعادتها، عن "سحب سفيرها" من باريس، وكأنه شيء من الأشياء وليس موظفا ساميا له قيمته واعتباره، علما بأن اصطلاح "سحب السفير" لا وجود له في كل قواميس الدبلوماسيا العالمية!! وبذلك لم تخرج قيد أنملة عن الإجراء ذاته، الذي اتخذته تجاه المملكة الإسبانية غداة اعترافها المُشابه بعدالة الطرح المغربي ومشروعيته، مما يعني أنها ستُعيد السفير المسكين إلى موقعه بمجرد أن يتبدّد مفعول الكؤوس التي غرق فيها الحكام العجزة حتى النخاع فأفقدتهم كعادتهم القدرةَ على التفكير السليم، وأفقدتهم من جراء ذلك كرامتهم وباقي الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية التي أضاعوها منذ نحو خمسين سنة ومازالوا يفعلون!!!
نهايتُه أيضاً، أنهم لن يلبثوا أن تقع على رؤوسهم فؤوسٌ أخرى لا تقل شدة وضراوة، من قبيل مُجاراة دول أوروبية أخرى للخطوة الفرنسية، وفي طليعتها المملكة المتحدة، وإيطاليا، في وقت قريب ليس مُستبعداً أن يكون السفير الجزائري المسكين قد عاد فيه إلى مكتبه، تماماً كما وقع مع إسبانيا، وتكون الزوجة الأوراسية المتنطعة بذلك قد عادت إلى بيت الطاعة الفرنسي في خنوع واستسلام صارا في حكم المعتاد!!
المصادفة الغريبة، والتي جاد بها قَدَرٌ في غاية السخرية، هي أن السفير الجزائري الذي تم "سحبه" من باريس بالأمس، هو ذاته عين السفير السابق للجزائر، الذي تم "سحبه" قبل نحو سنتين من مدريد... هو ذاته بشحمه ولحمه، وقد أبى القدر إلا أن يجعله يعيش التجربة الفاشلة ذاتها خلال مساره الوظيفي المُخزي والمُحزن، عبر دولتين أوروبيتين متجاورتين... ... والعزاء في الشيراتون!!!
محمد عزيز الوكيلي/ إطار تربوي