العميد يوسف البحيري يقدم قراءة في المسار الحقوقي والسياسي للمغرب في عهد الملك محمد السادس ( الجزء الأول)

العميد يوسف البحيري يقدم قراءة في المسار الحقوقي والسياسي للمغرب في عهد الملك محمد السادس ( الجزء الأول) العميد يوسف البحيري أستاذ القانون الدولي بجامعة القاضي عياض بمراكش

إن المكانة التي تشغلها حقوق الإنسان  والحريات العامة في النظام السياسي في عهد الملك محمد السادس طيلة ربع قرن من الزمن كرافعة للإصلاحات الدستورية والسياسية والقضائية والنهوض بالاقتصاد الوطني وجلب الاستثمار الأجنبي، أبانت عن الرؤية الثاقبة للعاهل المغربي في تعزيز دولة القانون والمؤسسات في الدستور الحالي والرهان على تجربة هيئة الانصاف والمصالحة  في معالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من أجل التفاوض على الانتقال الديموقراطي وحفظ الذاكرة الجماعية وتجاوز الفترة العصيبة لسنوات الجمر والرصاص، وذلك بتبني استراتيجية اقتصادية وتنموية محورها المواطن في مناهضة الارهاب واتخاذ التدابير القانونية في حالة الطوارئ لمكافحة جائحة كورونا. ولتحليل المسار الحقوقي والسياسي للمغرب في عهد الملك محمد السادس طيلة   25 سنة، تستضيف " أنفاس بريس" العميد يوسف البحيري أستاذ القانون الدولي بجامعة القاضي عياض بمراكش لثلاث عقود ونصف من الزمن، وصاحب العشرات من المراجع القانونية منها الكتاب الصادر عام 2022والمعنون "التجربة المغربية في مجال حقوق الانسان والحريات الأصيل والمكتسب" للحديث في الموضوع.

 

 

ما هو تقييمكم للمقاربة الحقوقية للملك محمد السادس في تجربة هيئة الانصاف والمصالحة لطي ماضي الانتهاكات الجسيمة؟

إن مقاربة الملك محمد السادس في تجربة هيئة الانصاف والمصالحة تهدف إلى دعم مسلسل الانتقال الديمقراطي وإثبات مدى جسامة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سياقاتها التاريخية، كما ترمي إلى تحقيق المصالحة وحفظ الذاكرة الجماعية دون إثارة المسؤوليات الفردية.

 

إن اختيار التسوية العادلة والشاملة لملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هي مقاربة ثاقبة للملك محمد السادس لتحقيق المصالحة بين الدولة والضحايا بإقرار المسؤولية المباشرة لمجموعة من الأجهزة التي تسببت بشكل أو بآخر في ارتكاب جرائم حقوق الإنسان مهما كانت مواقع مسؤولياتهم في أجهزة الدولة. وتندرج التجربة المغربية في معالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ضمن مسلسل التسوية غير القضائية، في سياق التحول الديمقراطي وإرساء أسس المجتمع الحداثي ودولة الحق والقانون ومواجهة شجاعة للفترة الحالكة من الماضي المؤلم والبحث عن إقامة مصالحة وطنية بين جميع الأطراف، واتخاذ إجراءات للتعويض المادي والمعنوي لضحايا الانتهاكات الجسيمة، وتأهيلهم نفسيا واجتماعيا وجبر الضرر المعنوي من أجل إنصافهم والمصالحة معهم، واعتبار الفترة الأليمة التي عاشها المغرب هي محطة من التاريخ لن يشملها النسيان والتي قد تشكل مدخلا رئيسيا للمصالحة وحفظ الذاكرة.

 

شكلت المبادرة الملكية بإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة بمرسوم ملكي بمقتضى الصلاحيات الدستورية التي يختص بها الملك بصفته حاميا لحقوق المواطنين وحرياتهم، وتنصيبها بتاريخ 7 يناير 2004 محطة بارزة في تاريخ المغرب الحديث من خلال اعتراف الدولة المغربية رسميا بمسؤوليتها من خلال جلسات الاستماع العمومية للضحايا الذين قدموا شهادتهم عن المعاناة في سنوات الجمر أمام الملايين من المشاهدين في التلفزيون المغربي والحديث التلقائي عن الآلام الناتجة عن سنوات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري كخطوة جريئة غير مسبوقة في العالم لمصالحة المغاربة مع التاريخ في سياق حفظ الذاكرة.

 

فالدور البيداغوجي لجلسات الاستماع العمومية، بإعتبارها شكلا من أشكال سرد الحقيقة الصادرة من أفواه الضحايا، يكمن في كونها موجهة أساسا إلى المجتمع، من أجل إيصال وقائع ما جرى، إضافة إلى كونها منبر عمومي يعبر من خلاله الضحايا عما يمتلكوه من الحقيقة وهو ما يشكل عنصر ضروريا في مسلسل المصالحة وجبر الضرر الجماعي.

 

كما حصلت هيئة الانصاف والمصالحة على ضمانات من الملك محمد السادس للوصول إلى الأرشيفات الرسمية وهو ما عبرت عنه الهيئة من خلال ما جاء في تقريرها الختامي، وساهمت ضمانات جلالة الملك في الوصول إلى الأرشيفات الرسمية والكشف عن الحقيقة لإقامة جسور المصالحة وقراءة ماضي الانتهاكات وجبر الأضرار المعنوية للضحايا والمجتمع.

 

أسندت إلى المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان في حلته الأولى مهمة متابعة تفعيل توصيات هيئة الإنصاف و المصالحة بمقتضى الخطاب الملكي السامي للملك محمد السادس الموجه للأمة في 6 يناير2006 بمناسبة إنتهاء ولاية الهيئة. فالهيئة أوصت في التقرير الختامي بأن تتولى لجنة المتابعة أربعة مواضيع أساسية، أولها يتعلق بتنفيذ المقررات المتعلقة بالتعويض ومتابعة تفعيل التوصيات حول الأشكال الأخرى لجبر الأضرار، بما فيها التأهيل الصحي والنفسي للضحايا وبرامج جبر الضرر الجماعي.

 

أما الموضوع الثاني فيتمثل في تفعيل التوصيات الخاصة بالكشف عن الحقيقة بالنسبة للحالات التي لم يتم استجلاؤها، ويتعلق الامر ب 66 حالة لمجهولي المصير، وهي حالات سبق للهيئة فتحتها والتحقق فيعا وإنجاز التحريات في البعض منها ولكن دون التوصل إلى كشف الحقيقة بشأنها. ولذلك أوصت الهيئة بقيام اللجنة بإستكمال التحريات بناء على مسارات البحث التي فتحتها الهيئة في هذا الخصوص وإطلاع العائلات على نتائجه. ويهم الموضوع الثالث تفعيل توصيات الهيئة المتعلقة بالإصلاحات القانونية والتشريعية والحكامة الامنية. أما الموضوع الرابع فهو يندرج في إطار حفظ الذاكرة الجماعية والمتعلق بحفظ الأرشيف الخاص بهيئة الإنصاف والمصالحة، حيث أن الهيئة تركت رصيدا غنيا يحتوي على التسجيلات الصوتية والبصرية والمكتوبة والمنجزة في إطار التحريات والزيارات الميدانية التي قامت بها للضحايا ومراكز الاعتقال، إضافة إلى أرشيف حوالي 5000 جلسة إستماع مغلقة، وهو ما يستدعي حفظ هذا الأرشيف الهام بهدف إستخدامه من طرف العموم ولأغراض البحث العلمي الجامعي.

 

ماهي قراءتكم القانونية للدستور المغربي لعام2011 كوثيقة للحقوق والحريات؟

إن ترسيخ حماية حقوق الإنسان والحريات العامة في الدستور المغربي لعام 2011هو بمثابة إعلان على إدراجها ضمن الثوابت الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي كما هو الشأن بالنسبة للدعامات الأخرى كالإسلام والملكية الدستورية والوحدة الترابية. فالإقرار بالتشبث بحماية حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها في ديباجة أسمى قانون في البلاد هو تعبير حقيقي على الإدارة السياسية للملك محمد السادس في توطيد احترام الحقوق والحريات للمواطن.

 

إن مرجعية الدستور تمثل في حد ذاتها دعامة أساسية لحماية حقوق الإنسان على المستوى الوطني، وتشكل تعبيرا قويا عن الطابع العالمي والبعد الكوني لحقوق الإنسان، لأن الدولة تتعهد وتضع على عاتقها التزامات دولية مرتبطة بضمان الاحترام العالمي لحقوق الإنسان والاعتراف بالكائن البشري كمحور للحقوق المتساوية اللصيقة بالكرامة الإنسانية. ويلاحظ اتساع دائرة الحقوق الاساسية والحريات العامة المعنية بالحماية الدستورية في وثيقة 2011 التي تتضمن 21 فصلا مقارنة مع دستور 1996 الذي أورد 11 فصلا، كما نص الدستور المغربي الحالي على ضمانات جديدة لحماية حقوق الإنسان:

- المساواة في الحقوق: " يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية..."، (الفصل19)

- عدم التميز في الحقوق: "حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي، مهما كان..."، (تصدير الدستور)

- الحق في الحياة: " الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان. ويحمي القانون هذا الحق"، (الفصل 20)

-الحق في السلامة الشخصية: "لكل فرد الحق في سلامة شخصه وأقربائه"، (الفصل 21)

- الحق في عدم التعرض للتعذيب أو غير من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة الإنسانية: "لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية. ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون"، (الفصل22)

ـ الحق في المساواة أمام القانون: "القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين واعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له " (الفصل 6)

- الحق في عدم الخضوع للاعتقال التعسفي: "لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون. الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري، من أخطر الجرائم، وتعرض مقترفيها لأقسى العقوبات"، (الفصل 23 ) ـ الحياة الخاصة وحرمة المنازل وسرية المراسلات: "لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة. لا تنتهك حرمة المنزل. ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا وفق الشروط والإجراءات، التي ينص عليها القانون. لا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية، كيفما كان شكلها"، (الفصل24)

- الحق في الحصول على المعلومة: "للمواطنين والمواطنات حق الحصول على المعلومات، الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام"، (الفصل 27)

 

كما ينص الدستور الجديد على الاعتراف بالأمازيغية والحسانية والروافد الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية وعلى حماية الحقوق الفئوية لا سيما حقوق النساء والأمهات وللأطفال والأشخاص المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة.

 

كما أن دسترة مبدأ سمو القانون الدولي على التشريع الوطني بشكل صريح في الوثيقة الدستورية سيجعل الدولة المغربية تأخذ مرجعية تعاملها وسلوكها في مجال حماية وتعزيز حقوق الإنسان من المواثيق الدولية. ومن تم فإدماج مبدأ سمو القانون الدولي هو بمثابة اعلان على ترجيح كفة المعايير الدولية لحقوق الإنسان على التشريع الوطني بما يتناسب مع تعهد الدولة المغربية بالالتزام باحترام حقوق الإنسان حتى لا تسقط في مسألة التعارض بين مقتضيات قانونية دولية وأخرى وطنية في مجال حماية حقوق الانسان.

 

أعلن الملك محمد السادس عن مسألة تكتسي أهمية بالغة في رسم هندسة الدستور الجديد، وهي التنصيص على الخيار الديموقراطي ضمن الثوابت المقدسة في الدستور والتي تكتسي قيمة قانونية خاصة، وتحمل بين طياته دلالات عميقة من حيث الترتيب الدستوري. فإدراج الخيار الديموقراطي من ضمن محددات هوية المملكة المغربية، هو بمثابة تأكيد قوي على تشبث الدولة بالمبادئ القانونية والقيم الاخلاقية لدولة الحق والمؤسسات، واعتراف صريح بأنها تشكل جزء لا يتجزأ من التشريع المغربي وعنصر أساسي لمرتكزات السياسات العمومية.

 

إن القيمة الدستورية لمبدأ تأصيل الخيار الديموقراطي في مرجعية الدستور، تمثل في حد ذاتها دعامة أساسية قائمة بذاتها لمكانة الديموقراطية في محددات هوية الدولة المغربية، وتتكامل مع التعهد الوارد في ديباجة الدستور الحالي المتعلق باحترام حقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا والتي تشكل تعبيرا قويا عن الطابع والبعد الكوني لحقوق الإنسان، لأن الدولة تتعهد دستوريا وتضع على عاتقها التزامات مرتبطة بمأسسة الخيار الديموقراطي والاحترام العالمي لحقوق الإنسان. يتبع