2024-1999.. خمس وعشرون سنة.. ربع قرن..
إنها الذكرى "الفضية" لاعتلاء صاحب الجلالة على عرش أسلافه الميامين..
لكن باستقراء الحصيلة.. يتبين أن الأمر يتعلق بفضة من لون خاص..
إنه لون الذهب.. وبامتياز..
فما كان لبلدنا أن يصل هذه المرتبة.. أن يفتح كل هذه الأوراش.. ويصل هذه المكانة الدولية.. لولا هذا العهد الجديد.. المتميز بالنظرة الثاقبة.. والإستراتيجية الواضحة.. والوسائل الملائمة.
يهمني هنا أن أركز أساسا على الاهتمام الملكي بقضايا النساء.. اهتمام شامل.. يُحيط بكل مناحي حياة المرأة المغربية.. يُوجِدُ لها شروط التطور.. ويُحافظ لها على خصوصياتها الحضارية..
مدونة الأسرة (المحور الأول)، ومكانة النساء في دستور 2011 (المحور الثاني).. هي العناوين الكبرى لهذه المقالة.
المحور الأول: من مدونة الأحوال الشخصية لمدونة الأسرة
قليل من يتمعن في هذا العنوان: ظهير شريف رقم 1.04.22 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 (3 فبراير 2004) بتنفيذ القانون رقم 70.03 بمثابة مدونة الأسرة..
قد يبدو أن الأمر يتعلق بمسطرة عادية.. لكن يُمكنني القول إننا أمام ثورة قانونية هادئة..
فأن يكون لدينا "قانون" بمثابة قانون الأسرة.. فإنه لفهم هذه المسطرة ينبغي الرجوع للدستور السائد آنذاك..
إنه دستور 1996 الذي لم يكن يضع قضايا الأسرة.. وبالضبط كل ما يرتبط بمدونة الأحوال الشخصية ضمن مجال القانون.. ثم أنه ينبغي دراسة التطورات اللاحقة لفهم جوهر الموضوع..
عاشت بلادنا ثلاث محطات بهذا الخصوص.. تجربة 1993 (أولا).. ومحطة 2004 (ثانيا).. ثم محطة 2022 (ثالثا).
أولا: تجربة محطة 1993
خلال سنتي 1992و1993.. وبعد المطالب العديدة بتعديل مدونة الأحوال الشخصية.. استجاب المرحوم الحسن الثاني لذلك من خلال إصداره لهذ التعديلات باعتباره أمير المؤمنين.. وبالتالي فإن ذلك من صلاحياته لا من صلاحيات البرلمان..
تم ذلك من خلال ظهير 10 شتنبر 1993 بتعديل مجموعة فصول بعد استشارات.
ثانيا: محطة 2004
فشلت محاولة حكومة التناوب التوافقي من خلال خطة العمل الوطني لإدماج المرأة في التنمية سنة 1999.. واستمر الوضع على ما هو عليه لغاية التدخل الملكي السامي.
لقد اعتمد صاحب الجلالة مبدأً آخر..
فباعتباره أميرا للمؤمنين.. وضع إصلاحا شاملا.. وأكد على أنه بصفته هذه، لا يُمكنه أن يحل ما حرم الله أو أن يُحرم ما أحله، وأكد أن "نظرنا السديد ارتأى أن يُعرَض مشروع مدونة الأسرة على البرلمان، لأول مرة، لما يتضمنه من التزامات مدنية، علما بأن مقتضياته الشرعية هي من اختصاص أمير المؤمنين"..
توجيه ملكي دقيق وضع له كمنطلق قوله تعالى "وشاورهم في الأمر"..
وتفاعل ممثلو الأمة بالبرلمان مع الإصلاحات الملكية بهذا الخصوص بتسجيلهم على أنهم "يثمنون عاليا المبادرةَ الديمقراطية لجلالة الملك، بإحالة مشروع مدونة الأسرة على مجلسيه للنظر فيه، إيمانا من جلالته، باعتباره أميرا للمؤمنين، والممثل الأسمى للأمة، بالدور الحيوي الذي يضطلع به البرلمان في البناء الديمقراطي لدولة المؤسسات"..
وهكذا أصبحت سنة 2004 محطة لإيلاء المرأة المغربية المكانة التي تستحقها.. ومن خلال مكتسبات عديدة أصبحت محل تقدير.. ليس وطنيا فقط.. بل أيضا إقليميا.. وعربيا.. وإسلاميا.. ودوليا.
ثالثا: محطة 2022
لم يتوقف جلالة الملك عند هذا حد إصدار مدونة حديثة.. لقد تابع تطبيقها على أرض الواقع.. بل تابع كل التفاصيل والجزئيات.. ولا أدل على ذلك من هذه المحطة الجديدة..
لقد فتح الخطاب الملكي لعيد العرش المجيد بتاريخ 30 يوليوز 2022، ورشا استراتيجيا جديدا..
يخص مدونة الأسرة بعد مرور 18 سنة على دخولها حيز التنفيذ.. فأوضح جلالته أن هذه المدونة، والتي تتضمن من الإيجابيات الشيء الكثير الذي لا يُمكن نكرانه.. قد تعرضت لنوعين من الاختلالات..
فمن جهة أولى سجل جلالته أن هناك اختلالات ناتجة عن سوء تطبيق بعض المقتضيات..
ومن جهة ثانية سجل وجود اختلالات ناتجة عن مرور فترة كافية لظهور بعض النواقص..
وبنفس المنهجية السابقة.. وضع جلالته أربع مبادئ عامة لمشروع مراجعة مدونة الأسرة.. تتمثل في أنه: لا يُمكن بناء مغرب التقدم والكرامة إلا بمشاركة جميع المغاربة، رجالا ونساء، في عملية التنمية؛ وضرورة المشاركة الكاملة للمرأة المغربية في كل المجالات؛ مع اعتماد النهوض بوضعية المرأة، وفسح آفاق الارتقاء أمامها، وإعطائها المكانة التي تستحقها؛ واعتبار أن تقدم المغرب رهين بمكانة المرأة وبمشاركتها الفاعلة في مختلف مجالات التنمية..
بل إن جلالته سجل عدم تفعيل المؤسسات الدستورية المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وعدم تحيين الآليات والتشريعات الوطنية للنهوض بوضعيتها، ودعا للقيام بذلك. ويتعلق الأمر بصفة عامة بالمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة (الفصلان 32 و169 من الدستور)، وهيئة المناصفة ومكافحة جميع أشكال التمييز (الفصلان 19 و164 من الدستور)، إضافة للدور الذي ينبغي أن يقوم به المجلس الوطني لحقوق الإنسان (الفصل 161)..
وقد أكد جلالة الملك اهتمامه البالغ عندما سجل أن "التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها".. وأنه يلزم التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضيات مدونة الأسرة؛ وتجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة؛ ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك؛
محطة استراتيجية ثانية.. نتج عنها نقاش عمومي واسع جدا.. أتاح لكل مكونات المجتمع الإدلاء برأيها.. إلى جانب نقاش مؤسساتي مؤطر بإحداث لجنة لتلقي الاقتراحات.. إنها اللجنة المكونة من كل من وزير العدل، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، ورئيس النيابة العامة، والوزيرة المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة..
لجنة متوازنة كالعادة.. استمعت لكل التنظيمات وبمختلف توجهاتها.. منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال المرأة والطفولة وحقوق الإنسان.. الأحزاب السياسية.. المنظمات النقابية.. الممارسين والباحثين.. مؤسسات وقطاعات وزارية.. إضافة للتوصل بمذكرات عبر البريد الإلكتروني..
وقد تم تتويج كل ذلك برفع تقرير مفصل من اللجنة لرئيس الحكومة بتاريخ 30 مارس 2024، والذي أحاله للملك..
ومرة أخرة أبان صاحب الجلالة عن حسه التشاوري العالي، فأعطى توجيهاته السامية، بتاريخ 28 يونيو 2024، للمجلس العلمي الأعلى لــــ "دراسة المسائل الواردة في بعض مقترحات الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي، ومقاصده السمحة، ورفع فتوى بشأنها للنظر السامي لجلالته".
المحور الثاني: دستور 2011 والمكتسبات النسائية
يذهب جل المحللين إلى أن دستور 2011 دستور متقدم بكل المعايير..
دستور الهندسة الجديدة لتوزيع السلطات..
لكن أيضا وأساسا.. دستور حقوقي بشهادة الجميع..
أضيف لذلك دستور قضايا النساء.. وبامتياز..
فهناك العديد من المبادئ الدستورية العامة المؤطرة لقضايا النساء (ثانيا).. وضمان العديد من الحريات والحقوق (ثالثا).. لكن قبل هذا وذاك ينبغي الإشارة إلى مختلف ضمانات هذه الحقوق النسائية (أولا).
أولا: الضمانات الملكية لحماية الحقوق النسائية
إلى جانب مجموعة من الضمانات التي تقوم بها هيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، وبعض المؤسسات الدستورية الأخرى، والتنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية.. هناك ضمانة أسمى.. تتمثل في الضمانات الملكية من خلال صفتين:
فهناك ضمانات باعتبار الملك أمير المؤمنين، وفق الفصل 41، حيث أن الملك، بهذه الصفة، هو حامي حمى الملة والدين، وباعتباره رئيس المجلس العلمي الأعلى، الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا، في شأن المسائل المحالة إليه، "استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة"..
وهناك ضمانات باعتبار الملك رئيس الدولة، بناء على الفصل 42 من الدستور.. والذي منح للملك صلاحية السهر على "احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وأيضا "حقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، (...) واحترام التعهدات الدولية للمملكة".
ثانيا: المبادئ العامة المؤطرة لقضايا النساء
إنها مبادئ موزعة ما بين تصدير الدستور وما بين فصول عديدة أخرى..
فعلى صعيد تصدير الدستور، نُسجل الأهداف والالتزامات التالية:
- بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون؛
- توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة؛
- المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، كمرتكزات للدولة؛
- تشبث الشعب المغربي، في إطار الدين الإسلامي، بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء.
- تشبث المملكة المغربية بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا؛
- تأكيد والتزام المملكة بـ:
أما على صعيد مختلف الفصول الدستورية الأخرى، فنُشير لكل من:
الفصل 6، الذي نص على أنه على السلطات العمومية أن "تعمل على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛
والفصل 154، الذي يجعل تنظيم المرافق العمومية قائم على أساس المساواة بين المواطنات والمواطنين في الولوج إليها، والإنصاف في تغطية التراب الوطني، والاستمرارية في أداء الخدمات.
ثالثا: موقع النساء ضمن مجال الحريات والحقوق الأساسية
من المهم هنا الإشارة إلى أن هذا المجال واسع جدا..
فبالإضافة الحقوق والحريات المشتركة بين الرجال والنساء، والتي لا يُمكن حصرها هنا.. هناك الحقوق والحريات الخاصة بالنساء.. وعلى رأسها الفصل 19.
لقد نص الفصل على ما يلي:
"يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها.
تسعى الدولة إلى تحقيق مبدإ المناصفة بين الرجال والنساء.
وتُحدث لهذه الغاية، هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز".
فصل يُمكن اعتباره أساس كل المكتسبات النسائية.. وفي مختلف المجالات:
- فالفصل لم يتحدث عن المساواة في الحريات، على غرار كل الدساتير السابقة، بل يتحدث عن الحقوق والحريات معا؛
- كما أنه وسع من مجال المساواة لتشمل المجالات المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية؛
- ولم يُشر الفصل فقط إلى الحقوق والحريات الواردة بالدستور، ولكن أيضا إلى الاتفاقيات والمواثيق التي صادق عليها المغرب؛
- أضف لذلك أن الفصل لا يتحدث عن "المساواة" فقط، ولكن أيضا على مبدأ "المناصفة"، الذي تم وضعه كالتزام ينبغي على الدولة أن تسعى إلى تحقيقه؛
- وأخيرا فإن الفصل 19 لم يقتصر على التنصيص على الحقوق والحريات، بل أحدث آلية خاصة لتحقيق الأهداف الواردة بالفصل، وهي "هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز".
وإلى جانب هذا الفصل الجوهري هناك مقتضيات أخرى، أكتفي بالإشارة إلى بعض منها.. من قبيل الفصل 34 الذي جعل السلطات العمومية تسهر على "معالجة الأوضاع الهشة لفئات من النساء والأمهات ..."؛ وباقي المقتضيات التي تضمن تمثيلية مناسبة للنساء في مختلف المؤسسات المنتَخَبَة.
خاتمة..
لكل ما سبق.. لا يُمكنني الحديث على ذكرى فضية إلا بلون الذهب..
25 سنة من إعلاء مكانة المرأة المغربية..
في حياتها الخاصة ضمن أسرتها..
وفي حياتها العامة في المؤسسات المنتَخَبَة ومراكز اتخاذ القرار..
دُمْتَ ذُخْرًا لِبَلَدِنَا.. وأَدَامَ اللهُ مُلْكَكَ وَعِزَّكَ.
نزهة مزيان/ دكتورة في الحقوق (وزارة العدل)