منعم وحتي: في رثاء صديقي العجوز والبحر..

منعم وحتي: في رثاء صديقي العجوز والبحر.. منعم وحتي
كانت أصداؤك تصلني عن بعد، وكان تواتر الحكايات الأسطورية عنك يستهويني، ذاك البحار الأكثر مهارة ومروءة وسط كل البحارين، بقامته الفارعة يمخر عباب البحر..، لم يكن يحتاج لمنارة يهتدي بها لمسار اتجاهات الزمن ولا لشراع يتلمس به هبات الرياح، فطول قامته منارة في حد ذاته، وخصلات شعره تداعبها نسمات اليم.
 
وريث لحب الحياة، وركوب المغامرات، ككل سلالة بحارة الموانئ، محبوب عند الأطفال قبل الكبار، وهم يتسلقون كتفيه ويلعبون الأرجوحة فوق رأسه وقفزا على أطرافه، حتى أنك لن تستطيع أن تتبين أين الطفل فيهم.. لقد كانت روعته في احتفاظه بذاك الطفل البريء في دواخله..
 
وأنت تغادرنا في غفلة منا، ولم نشبع بعد من محياك البهي، وقفشاتك الضاحكة، وأنت تدندن بمقاطع "السِّت"، وأنذر مقطوعات الزمن الجميل، تحفظها عن ظهر قلب، وتمتحن الجميع، بمن غنى وكنه ما غنى.
 
نفتقدك، كما افتقد البحارة البدر في الليلة الظلماء، وكم كان التذكر غرائبيا، وحياتك تحاكي رواية "العجوز والبحر"، للكاتب أرنست هيمنجواي، وهو يصارع سمكة كبيرة استطاع ببسالته وحنكته أن يصطادها بعد عناء كبير ومثابرة لا مثيل لها، حيث أدهشت ضخامة السمكة سكان القرية، بعد أن أوصل بحارنا العجوز المقدام هيكلها إلى اليابسة، بشجاعة منقطعة النظير، وسط زهوه وافتخاره الأنيق بهذا الإنجاز الاستثنائي مع تصفيقات بقية البحارة ومحيط أهل القرية، هكذا كان.. "الرايس" البحري شجاعة. 
 
هي نفس الحكاية، بقالب آخر، لكن هاته المرة بنكهة الواقع الملموس، وحب الناس لبحار طيب، نحتت الحياة في جسده كل علامات الشجاعة والنبل.
 
وداعا أيها البحار الطيب.. وداعا صديقي خربوش الطيبي، سلامي وعناقي الحار لك وأنت في مثواك الأخير.. وعبر هاته الخطاطة لكل أهلك وأحبابك.