خديجة الكور: سمات الهوية المغربية.. الجذور والامتداد في عهد الملك محمد السادس

خديجة الكور: سمات الهوية المغربية.. الجذور والامتداد في عهد الملك محمد السادس د. خديجة الكور، أستاذة التعليم العالي في علم الاجتماع وعضوة المكتب السياسي لحزب الحركة الشعبية 
ونحن نحتفل اليوم بمرور ربع قرن من حكم الملك محمد السادس في خدمة المغرب والمغاربة بوفاء وإخلاص وعطاء وتميز قل نظيره، اخترنا أن نستحضر واحدا من المجالات الهامة والحيوية التي استأثرت باهتمام كبير في فكر الملك محمد السادس منذ اعتلائه عرش أسلافه المنعمين موضوع الهوية المغربية.
 
إن هوية المغاربة هي إنجاز جماعي وحصيلة تطور عبر العصور ودينامية تحول وتشكل مستمرة وممتدة في الزمن ومفهوم الهوية المغربية عرف من الناحية النظرية ضمن السياقات التي صاغته فيها الحركة الوطنية بعد صدور الظهير البربري من خلال الاحتجاج على تقسيم المغاربة بناء على ثنائية العرب والأمازيغ، وجعلت الحركة الوطنية من النضال من أجل اللغة العربية والدين الإسلامي إحدى أولوياتها. وقامت بصياغة الهوية بناء على هذين العنصرين وهو ما أخذت به دساتير المملكة المغربية منذ سنة 1962.
 
وبعد ذلك ومع تغير السياقات السياسية والاجتماعية، ظهرت مطالب حول إعادة تحديد الهوية المغربية وكانت الحركة الأمازيغية من الأصوات القوية التي طالبت بذلك حيث رأت أن الهوية المغربية هي هوية متعددة الأبعاد وليست ذات بعد واحد ونجحت في إقناع الدولة بذلك وتمت دسترة التعددية اللغوية والتنوع الثقافي في دستور المملكة لسنة 2011.
 
ولن نقارب موضوع الهوية المغربية في هذا العرض من الزاوية التاريخية ولا من خلال الوقوف على الإنجازات الكبرى والمتعددة الأبعاد للملك، ذات الصلة بالاهتمام بالتراث الحضاري والرصيد التاريخي والرأسمال البشري والمؤسسات الوطنية للثقافة ورعاية الفنانين والمبدعين والتراث للامادي للمغاربة، وإنما من زاوية السمات الكبرى للهوية المغربية كما رسم معالمها الملك في أكثر من مناسبة من خلال المعطيات التي تستوعبها بعض خطبه، وباعتماد دستور 2011 الذي يشكل وثيقة أساسية في تحديد الهوية المغربية.
 
السمات العامة للهوية المغربية
 
يتأسس مفهوم الهوية المغربية في فكر الملك محمد السادس على إرادة الدمج بين الجوامع المشتركة في الدولة والمجتمع والتاريخ وتنمية الوعي بمزايا المواطنة في المجتمع الديمقراطي بما يضمن توافق الخيارات وتقاسم المشترك بعيدا عن عصبيات التناحر الهوياتي. ويتمحور حول المصالحة والإنصاف وولوج المستقبل من باب التاريخ وبناء سردية وطنية واحدة للإجابة عن سؤال من نحن؟ وما هي محددات علاقاتنا مع الآخر؟ وما هو سقف طموحنا في الإسهام في بناء صرح الحضارة الإنسانية؟
 
كما يتأسس وينشأ مشروع الهوية المغربية في فكر محمد السادس في ارتباط مع تصوره لنهضة المغرب الجديد مغرب المصالحة والعدالة والإنصاف إنه لا يتحدث نظريا عن هوية مغربية بل يدرج حديثه ضمن مشاريع امتلاك القدرة والمبادرة والنجاعة في بناء المغرب الحديث.
 
إن الهوية المغربية ترمز في دستور المملكة إلى عنوان تجربة في التاريخ ساهمت أعراق وثقافات عديدة في بناءها وتميزت بقدرتها الفائقة على استيعاب المختلف والمستقر والعابر وتم ذلك حسب جدليات التاريخ كما ركبها المغاربة في علاقتهم بالعالم. وتتمثل أبرز سيماتها في التعدد والتوع والانفتاح والتحديث والنقد.
 
إن مفهوم التعدد والتنوع لا يرمز في خطب الملك إلى سمة لجغرافية متنوعة إنه سمة تاريخ ما يفتأ يتطور ويغتني إنها نحن بالجمع الدال على الوحدة والتعدد وحدة مجتمع ووطن وحدة الجبل والصحراء والبحر والسهل والامتدادات الراسمة لملامح وسمات الإنفتاح.
 
كما تشكل سمة الانفتاح خاصية مركزية في هويتنا المفتوحة، ولا يفيد الانفتاح غياب الوعي بمكانة الذات المغربية في التاريخ، الانفتاح يعني في مشروع الهوية المغربية كما رسم معالمه الملك محمد السادس مواصلة البناء والتأسيس الذي يرفض الانغلاق والإغلاق والقطع في الفعل وفي الفكر ويعتبر الانفتاح طريقا للإغناء والتطوير وطريقا للبناء وإعادة البناء. 
 
الانفتاح ليس اندفاعا ولا تبعية الانفتاح جدلية تاريخية صانعة لمنطق التطور والتلاقح الهوياتي في التاريخ حيث تصنع وحدة الشعوب والامم بفضل ما يترتب عن عمليات الانفتاح والتجاوز والنقد وسيلة من وسائل تحقيق التمثل وتركيب التجاوز.
 
إن الحتميات الجغرافية تساهم بدورها في منح هويتنا صفة الإنفتاح وخيارات المغرب الإفريقية التي لا تنحصر في الإنتماء إلى المجال الجغرافي لإفريقيا وإنما إلى تاريخ مشترك وهوية دينية وثقافية متقاسمة قد جسمتها كثير من سياسات الملك محمد السادس ذات الصلة بتعزيز علاقات جنوب – جنوب ودعم الواجهة الأطلسية.
 
كما أن انخراطنا اليوم في الإعداد لكأس العالم سنة 2030 يوضح انفتاح هويتنا على مكاسب التأورب المرتبط بموقعنا الجغرافي. 
 
إن سمة الهوية المغربية كما تعكسها وترتب ملامحها جهود الملك محمد السادس تتمثل في الانفتاح كما ورد سابقا ويؤسسها أفق التحديث السياسي، الذي يحرص النظام السياسي المغربي على أن يكون واجهة العمل وعنوانه الأكبر.
 
وقد تمثل ذلك في العمل على تطوير آليات تعزيز مشروع الانتقال الديمقراطي كما تمثل في برنامج هيئة الإنصاف والمصالحة وبرز بصورة جلية في دستور 2011 وما حمله من بنود تراعي التعدد اللغوي الأمر الذي ساهم ويساهم في دعم هوية ثقافية حداثية.
 
عندما أشرنا إلى سمة الانفتاح كنا بصدد مشروع هوياتي يرفض الانغلاق والاغلاق والقطع في الفعل وفي الفكر ويعتبر الانفتاح طريق للإغناء والتطوير طريق للبناء وإعادة البناء. وعندما حددنا السمة الثانية في التحديث كنا بصدد إبراز الخيار السياسي الأكبر في منظور الملك للسلطة والممارسة السياسية. 
 
تتمثل السمة الرابعة للهوية المغربية في النقد ذلك أن الانفتاح والتحديث يرتبطان في المنظور السياسي الملكي بالروح النقدية وهي الروح التي تعد نتيجة للمثاقفات التي تمت في ثقافتنا وهي تنفتح وتتعلم من مكاسب عصرنا. ويرتبط الانفتاح والتحديث في المنظور السياسي الملكي بالروح النقدية وهي الروح التي تعد نتيجة للمثاقفات التي تمت في ثقافتنا وهي تنفتح وتتعلم من مكاسب عصرنا.
 
يحضر النقد أيضا في سمة التحديث ذلك أن عملية التحديث لا تغفل المكونات المركزية في كل هوية الأمر الذي يكشف كيف يمتزج الكوني بالمحلي في عمليات التركيب الهوياتي وسواء في الإصلاح الدستوري كما تم في دستور 2011 أو في مختلف المبادرات السياسية التي توالت منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش نلاحظ حضور البعد النقدي في قلب الخطاب أو في أفعال الممارسة، نحن إذن أمام مشروع هوياتي نقدي مشدود إلى تاريخ ومتطلع لبناء تاريخ جديد. 
 
لقد شكل دستور 2011 أول دستور للمصالحة والإنصاف الثقافي تضمن تعريفا جديدا للهوية المغربية من خلال الاعتراف بتنوع مكوناتها وروافدها وانصهار مكوناتها الأساسية العربية والأمازيغية والإسلامية والصحراوية والحسانية مع الإقرار بتبوء الدين الإسلامي مكان الصدارة في ظل التأكيد على تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية وتكريس للتعدد اللغوي والثقافي وإقرار الحقوق الثقافية كبعد من أبعاد التنمية وكدعامة للتحديث والدمقرطة.
 
وقد منح التعديل الدستوري اللغة الأمازيغية صفة اللغة الرسمية للوطن إلى جانب اللغة العربية اعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة إلى جانب تنمية استعمال الحسانية وحمايتها وباقي اللهجات المستعملة ببلادنا. وهو ما يمثل منعطفا غير مسبوق لتأسيس التوازن المنشود بين مختلف المكونات الثقافية المغربية والإحاطة بالشعب في تعدديته المركبة.
 
ولتدبير هذا التعدد اللغوي والثقافي أحدث دستور 2011 المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، كما كرس دستور 2011 حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الأدب والفن والبحث العلمي والتقني على أسس تضمن تدبير الحقل الثقافي الذي يشكل سوقا تتبارى فيه الممتلكات الرمزية على أسس مهنية وديموقراطية.
 
كما تمت دسترة التعددية الثقافية واللغوية في وسائل الإعلام وهي النافذة التي يطل منها الإنسان على العالم ليرى ثقافته وحضارته وأكد على أهمية توسيع مشاركة الشباب وتعميمها في التنمية الاقتصادية وتيسير ولوج الشباب للثقافة وعلى خلق هيئة المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي يتولى تقديم المقترحات الكفيلة بالنهوض بواقع الشباب ودعم وتنمية قدراته الإبداعية. وقد شكل هذا الاعتراف الدستوري خطوة مهمة في ترقية كل المكونات الثقافية والانتقال بها إلى مجال السياسات العامة للدولة.
 
وقد بادر الملك محمد السادس في بداية عهده إلى إعادة الاعتبار للأمازيغية كمكون مركزي وأساسي للهوية المغربية وأحد أعمدة الحضارة المغربية العريقة من خلال خطاب أجدير التاريخي 17 اكتوبر2001 الذي أسس لعهد جديد في قضية الأمازيغية وأرسى بشجاعة ومسؤولية قواعد ميثاق ثقافي ولغوي متماسك وأعطى أمره بإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كمؤسسة دستورية لإبداء الرأي حول التدابير الكفيلة بالحفاظ على الثقافة الامازيغية والنهوض بها في جميع تعابيرها ومنذ ذلك الحين تتالت المبادرات حيث تم إحداث القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وحماية الموروث الحضاري الأمازيغي بمختلف تجلياته ومظاهره. وتوج ببلاغ الديوان الملكي ليوم 3 ماي 2023 الذي أقر فيه الملك محمد السادس رأس السنة الأمازيغية عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها على غرار فاتح محرم ورأس السنة الميلادية.
 
كما أولى الملك منذ أول خطاب للعرش في 30 يوليوز 1999، وفي أكثر من مناسبة عناية خاصة لتثمين عرى إنتماء مغاربة العالم للوطن الأم. وهو توجه جعل من مغاربة العالم الذين ينتمون لأكثر من دولة ويتكلمون أكثر من لغة وشربوا أكثر من ثقافة سفراء دائمين للمغرب بالخارج وحراسا آمنين لرأسماله اللامادي، وجعل منهم مواطنين بمواصفات خاصة أو مواطنين فوق العادة.
 
إن التراكم المحقق في مجال تصورنا للهوية المغربية الغنية بتعدد مكوناتها وروافدها كما رسم سماتها ومعالمها الملك محمد السادس تطرح على النخب ومدبري الشأن العام مسؤولية الدفع نحو إعادة قراءة تاريخ المغرب بشكل ينسجم مع الاعتراف الدستوري بكل المكونات الهوياتية لبلادنا، وترسيم وعي المغاربة بالانتماء إلى مغرب متعدد مع ما يسمح به ذلك من تعزيز قيم الحرية والمساواة والتسامح واحترام الحق في الاختلاف وتحقيق فهم عميق ودقيق لمفهوم العيش المشترك، وترسخ السلم في المجتمع وتشكل حاجزا ضد العنف وسدا منيعا في مواجهة الهويات المغلقة التي تتنكر لما هو كوني وإنساني.
 
تستدعي هاته المقاربة الجديدة لأسئلة الهوية والثقافة في مغرب الملك محمد السادس إطلاق مشروع نهضة ثقافية تستحضر عمق الخطب الملكية والتراكمات التاريخية والأبعاد الإنسانية والجغرافية واللغوية والروحية تفاديا للصراعات والاصطدامات بين مختلف المكونات والروافد. نهضة عنوانها المصالحة والإنصاف تأخذ في الحسبان المقتضيات الدستورية الجديدة ومتطلبات الواقع وهو ما سيتمثل إحدى الاستجابات الحضارية للتحديات العديدة التي تواجه المجتمع المغربي، بما يضمن الديموقراطية الثقافية، ويوفر شروط قيام مواطنة تقر بالمساواة والحقوق الكاملة لفائدة كل فئات المجتمع، ومواكبة مسلسل التحديث والتغيير المنشود وتحديد مقاربة جديدة لبناء مشروعنا الثقافي تتأسس على التشاور التشاركي بين مختلف الفاعلين والوعي المشترك بالخصوصيات الحضارية التاريخية الوطنية في إطار التعدد والانفتاح والتقدير الاستراتيجي لأهمية الاستثمار الثقافي وجعل الثقافة في قلب كل السياسات العمومية من مؤسسات تعليمية وجامعات وإعلام ومنتجي الثقافة والمبدعين والنخب والمؤسسات المدبرة للشأن الثقافي بما يضمن إقرار سياسة معبرة عن المنابع المتعددة للثقافة المغربية وأداة لضمان تحقيق المساواة في إطار التنوع الثقافي وتمثيل جسور التعاون الثقافي على المستوى الديبلوماسي والتأثير الثقافي والانخراط في الأوراش الكبرى ذات الصلة الصلبة بريادة وطننا في إفريقيا والبعد المتوسطي.
 
الخاتمة
 
حاولنا من خلال هذا العرض الوقوف على بعض جوانب دلالات الهوية المغربية في سياسات وخطب الملك محمد السادس لم يكن الأمر سهلا لصعوبة الموضوع ولوروده في صورة تركيبية في سياسات الملك وفي توجيهاته، ونحن نعي المزالق التي قد تعترض طريقنا.
 
تسلحنا بأدوات تسمح لنا بإمكانية ولوج الموضوع بطريقة تضعنا في وضع قريب من الأفق الذي يفتحه الموضوع في المجال السياسي وكنا نعي منذ البداية أن حقل تشكل الهوية المغربية يؤسسه التاريخ والدولة والمجتمع وأن الهوية حركة وفعل لا يمكن فصلهما عن عمليات تركيب ما ذكرنا.
 
وعندما وقفنا أمام سياسات وخطب الملك محمد السادس، وجدنا أنفسنا في قلب هوية مغربية بسمات محددة أبرزها التعدد والتنوع والمثاقفة والانفتاح ولا يتعلق الامر هنا بسمة ذات صلة بالبعد الجغرافي رغم أهميته بل إنها سمة عامة لهوية تتطور باستمرار، وقد تابعنا في الورقة عملية رصد السمات فتوقفنا أمام جهود الملك أمام الهوية ومشروع التحديث وبناء مجتمع المواطنة والمؤسسات واختتمنا السمات بسمة النقد والتجاوز.
 
ينفتح موضوع الهوية المغربية في أعمال محمد السادس على آفاق متعددة وقد حاولنا معاينة بعض جوانبه في هذا العرض ونتمنى أن تتاح لنا فرصة تطويره في أعمال أخرى.