من المؤكد أن التحاق فرنسا بدائرة الدول التي تعترف بمقترح الحكم الذاتي المغربي بوصفه حلا وحيدا لتسوية نزاع الصحراء، كان صفعة مدوية على قفا خصوم المغرب الذين تثبت الوقائع المتتالية أنهم فقدوا الكثير من المساحات، على المستوى الديبلوماسي، فيما تمكن المغرب، بمصداقيته السياسية وعمله الدؤوب وحسه البراغماتي العادل، من انتزاع اعتراف القوى الدولية الكبرى بمغربية الصحراء.
فبعد حرب ضروس لا هوادة فيها قادها ماكرون ضد المغرب في المنتديات الدولية، ولو في الكواليس؛ وبعد التحرشات التي واجهها في البرلمان الأوروبي، وبعد الكثير من الضربات تحت الحزام في قضية بيغاسوس، ومحاولة الضغط على الدولة المغربية بإشعال حرب الفيزا، و"تحريك" الإعلام الإسباني لإبطال الاتفاق التاريخي بين الرئيس سانشيز والملك محمد السادس، اقتنعت باريس أن مصلحتها في الرباط، وليس في مكان آخر، كما تأكدت أن افتعال المشاكل للمغرب يعمق الثغرة بين البلدين، مما قد يؤدي إلى القطيعة بينهما.
تعامل المغرب بكل نضج ما "فركلات" باريس، ولم يستسلم للضغوط التي حاولت أن تمارسها باريس. واختار أن يمارس سيادته غير منقوصة في إبرام شراكاته على قاعدة المنفعة المتبادلة. وهو ما جعل حكماء باريس يتحركون، بكل جدية، من أجل إرجاع قطار العلاقات المغربية الفرنسية إلى سكته، خاصة أن التجربة أكدت أن المغرب شريك موثوق، ويحمل كل مقومات الدولة القوية التي لا تقايض "انتهازيتها" بدق المسامير في ظهر جيرانها. وكان أن بدأت باريس تفطن إلى أخطائها الجسيمة التي ترتكبها ضد المغرب، وخاصة بعد انسحاب السفير المغربي من باريس، مما أكد أن الأساليب الاستعمارية القديمة لم تعد تجدي، وأن النخبة المغربية الجديدة لا تربطها أي علاقة "تبعية" مع باريس، وأنها اختارت تنويع شراكاتها حتى لا تقع في هذا الشرك.
أول تحرك فرنسي لإنهاء سوء الفهم كان في العاشر من فبراير 2024، حين صرح وزير الخارجية الفرنسي في مقابلة مع صحيفة " ويست فرانس بأنه سيعمل “شخصيا” على تحقيق التقارب بين فرنسا والمغرب بعدما شهدت العلاقات بينهما توترا في السنوات الأخيرة.
وفي 16 فبراير 2024، أكد السفير الفرنسي بالرباط، كريستوف لوكورتيي، الحاجة إلى ضخ أنفاس جديدة من أجل تعزيز التعاون وإنعاش العلاقات الاقتصادية بين المغرب وفرنسا.
كما قام قصر الإليزيه، في 21 فبراير 2024 ، بالاحتفاء بالأميرات للاّ مريم وللاّ حسناء وللاّ أسماء، وأقامت زوجة الرئيس الفرنسي بريجيت ماكرون مأدبة على شرفهن، مما اعتبرته العديد من الأوساط رسالة لحرص باريس على تبديد الفتور الذي ساد العلاقة مع الرباط.
بعد ذلك بأيام، عقد وزيرا خارجية المغرب وفرنسا، في 26 فبراير2024، ندوة صحافية بالرباط، أكدا خلالها عزمهما على طي صفحة الأزمة التي طبعت علاقاتهما خلال الأعوام الأخيرة؛ كما أعلنا المضي قدما نحو إقامة شراكة "استثنائية" متجددة على أسا.س "الاحترام المتبادل".
لقد أثبتت الوقائع أن الرباط وباريس رتبا لعلاقات جديدة قوامها الاقتصاد والمصلحة المشتركة، بعيدا عن الانزلاقات السياسية، وهذا ما تبين خلال زيارة وزير الخارجية ستيفان سيجورنيه الى الرباط. فضلا عن الزيارة التي قام بها ناصر بوريطة الى باريس، مما أكد التقارب بين البلدين. وتوالت الزيارات من هنا وهناك، حيث قام وزير التجارة الخارجية فرانك ريستر بزيارة الى الدار البيضاء، وكانت تصريحاته واضحة حول تطوير مجال التعاون الاقتصادي والاستثمار بين الجانبين.
وفي 21 أبريل 2024، حل وزير الفلاحة الفرنسي، مارك فينسو، بالمغرب، وقام بتوقيع اتفاقيات مع نظيره وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، محمد صديقي. كما حل في اليوم نفسه وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، ضيفا على عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية المغربي، في زيارة تهدف إلى إلى “تعميق” التعاون بين البلدين في المجال الأمني “في سياق دولي من عدم الاستقرار.
ومما زاد من تأكيد المعطى الاقتصادي في الشراكة "الجديدة مع باريس" ، استقبال رئيس الحكومة عزيز أخنوش، لوزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي، برونو لومير، يوم 26 أبريل 2024، وتباحثهما حول سبل تطوير التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين.
لا شك أن باريس، بإقدامها على الاعتراف بمغربية الصحراء، أصبحت تدرك أن الشراكات بين الدول باتت تنعقد في ظل وضع عالمي وإقليمي جديد ومعقد، وأن بناء التوافقات العادلة هو السبيل إلى حل النزاعات.