مع انطلاق جولات الحوار الاجتماعي المركزي بين الحكومة والمركزيات النقابية الأكثر تمثيلة برز وسط موظفي قطاع الصحة مطلب استفادتهم المستحقة بدورهم من الزيادة العامة في الأجور التي لم يستفيدوا منها قطاعيا (ولو على غرار القطاعات الأخرى) وبدأت تتضارب المعلومات والقصاصات والتصريحات والتصريحات المضادة.
ولازالت الحقيقة محاطة بالغموض في هذا الملف.
فإن كان من المرجح استفادة بعض فئات موظفي القطاع (فئتين) "الممرضين وتقنيي الصحة" و"الأطر الإدارية والتقنية" من الزيادة العامة في الأجور المخصصة لمعظم القطاعات العمومية المحددة في مبلغ 1000 درهم، واستبعاد فئتي "الأطباء والصيادلة وجراحي الأسنان" و"المساعدين الطبيين" منها.
بمبرر استفادة "الأطباء...." من تعويضات الرقم الإستدلالي 509 التي طال انتظارها بالنسبة لهم (سنة 2022) مع عدم الحديث عن فئة "المساعدين الطبيين" المقصية بدورها، والذي يمكن إعطاءه تفسير ضمني غير مقنع أيضا مفاده "استفادتهم المترقبة" من تعويض (مفترض) قيمته 1800 درهم يتضمنه القانون الأساسي الجديد لهذه الفئة التي لا يتجاوز عدد أفرادها 400 موظف/ة إلا بقليل، المنتظر منذ سنوات.
وبغض النظر على كون أي حوار اجتماعي (قطاعي أو مركزي) مهما كان متقدما وناجحا لا يمكن أن يحقق كل المطالب التي تنتظرها وتستحقها الطبقة العاملة -بشكل عام- خصوصا في ظل موازين قوى لا تميل لصالحها، فإن الحوار الاجتماعي ببلادنا ما فتئ يخلف تبعات اكثر سلبية في قطاع الصحة وبشكل متكرر.
وهذا أمر يتطلب تقييم خاص حول الأسباب الذاتية والموضوعية المؤدية إلى ذلك.
لا زلنا لم نتناول هنا "محضر الاتفاق" الذي نص على استمرار مطلب الزيادة العامة القطاعية في الأجور لجميع موظفي الصحة -بشكل منفصل عن مكتسب التعويض عن الأخطار المهنية-، المحضر الذي تم التنصيص فيه على هذه النقطة ضمن النقاط الخلافية المرفوعة إلى رئيس الحكومة، بل وجاءت على رأسها.
والذي لا تتم الإشارة إليه -للأسف- بشكل صريح في "المضمون المطلبي" للمعركة النضالية للتنسيق النقابي (تصريح الندوة الصحفية للتنسيق النقابي، أنموذجا).
إلا إذا استثنينا الإشارات الضمنية التي يمكن استشفافها من بلاغات التنسيق النقابي للقطاع، ولا سيما بلاغه الأول الذي نص حرفيا على "تنفيذ جميع مضامين الاتفاقات الموقعة مع النقابات".
وفي حال ما استفادت بعض فئات نساء ورجال الصحة (الفئات المشار إليها) من الزيادة العامة في الأجور المترتبة عن الحوار المركزي، والتي يجب أن تستفيد منها على كل حال، وأن تشمل هذه الزيادة جميع موظفي قطاع الصحة دون استثناء على غرار موظفي باقي القطاعات العمومية.
فمن الضروري ألا تعصف هذه الزيادة بمكتسب الرفع من قيمة التعويض عن الأخطار المهنية المتفق في شأنه قطاعيا، وألا تحول دون تمكين مستحقيها من هذا التعويض.
وكذلك الأمر بالنسبة للتعويضات المرتبطة بالبرامج الصحية والمهام والحراسة..... الخ، مع مواصلة المطالبة والنضال لتعميمها على باقي الفئات المقصية.
أما في حال عدم استفادة كل موظفي الصحة منها فيجب أن تكون المعركة النضالية المقبلة معركة الزيادة العامة في الأجور قطاعيا وبمبلغ مستحق مع التشبث بتنفيذ المحاضر والاتفاقات المبرمة قطاعيا وبكافة مكتسباتها، بما فيها الزيادات في التعويضات عن الأخطار والحفاظ على صفة الموظف العمومي...
مع العمل على تطوير وتنويع هذه "المعركة" أكثر.
إن عدم المساواة بين موظفي الدولة الذي تنهجه الحكومة المغربية في تعاطيها مع ملف موظفي قطاع الصحة، خصوصا في هذه الظرفية الاستثنائية التي يمر منها القطاع وانتظارات عموم المواطنات والمواطنين منه والرهانات التي يجب أن تكون لبلادنا عليه (ولو بمناسبة تنظيمها لكأس العالم 2030 لكرة القدم) يبقى أمرا غير مفهوم وغير مقبول وغير منطقي.
وذلك حتى وإن كانت دواعيه مبنية على أحد الاحتمالين الرئيسيين (او بهما معا) أحدهما:
- ما يتم الترويج له عن وجود تجاذبات معينة في الكواليس حول حقيبة وزارة الصحة والحماية الاجتماعية والسعي الممكن للأحزاب المكونة للأغلبية الحكومية وخاصة حزب رئيسها لاستعادتها من "التقنوقراط" اعتبارا للأهمية السياسية (العائد الحزبي والانتخابي المباشر) التي يكتسيها هذا القطاع الحيوي. خصوصا في ظل "ورش الحماية الاجتماعية".
وثانيهما:
- عدم قدرة وزارة الصحة والحماية الاجتماعية على الدفاع عن مصالح موظفاتها وموظفيها أو تفاديها القيام بذلك، ربما للاعتبارات السالفة الذكر أو لغيرها، وتركهم يواجهون مصيرهم المحاط بالكثير من الإقصاء والغموض في التعاطي مع مطالبهم وانتظاراتهم وحقوقهم المستحقة، بما في ذلك عدم توضيح أمر إقصائهم من الزيادة العامة في الأجور داخل القطاع، وأن ما تم الاتفاق حوله (قطاعيا) يتعلق فقط بتعويضات يجب صرفها تفاديا للمزيد من الحيف الذي يطال موظفي قطاع الصحة باعتبارهم من موظفي الدولة كغيرهم، وكذلك اعتبارا لخصوصية هذا القطاع وللمتغيرات التي يعرفها والتي تشمل كذلك الأوضاع الإدارية والمهنية للعاملين فيه.
خصوصا مع وجود موظفي الصحة بين مطرقة الحكومة وسندان الوزارة حاليا، الأمر الذي يهدد حقوفهم المشروعة بالضياع في الإتجاهين. ويجعل هذه الاحتمالات وغيرها (كتوجهات او ممارسات معينة سائدة أو تسعى أن تكون متحكمة في دهاليز القطاع) أقرب للتصديق.
ومهما يكن الأمر فيجب رفع الحيف المزدوج الذي يطال موظفي القطاع العمومي للصحة وإنصافهم.
إن النهوض بقطاع الصحة وتحسين أوضاع العاملين فيه يجب أن يكون من الأولويات الحكومية والوزارية، فيكفي ما تعرفه البلاد من نزيف للكفاءات الصحية التي تغادر. سنويا المغرب للبحث عن ظروف عمل ووضع اعتباري أفضل، والتي لا يمكن التغلب عليها بقرارات تعسفية جافة تضرب في عمقها جودة التكوين وتقلل من قيمة الدبلومات المغربية بتقليص سنوات التكوين (كليات الطب.. مثلا).
هذه القرارات المجحفة التي تتم مواجهتها حاليا بإضراب مفتوح لطلبة الطب والصيدلة وطب الأسنان الذين يقاطعون الدراسة والامتحانات.
وهي خطة تدميرية يجب وضع حد لها في القريب العاجل وإيجاد حلول مناسبة للخروج من المأزق المترتب عنها، وتحسين شروط التكوين وظروف العمل والوضع المادي والمهني لنساء ورجال الصحة وتحفيزهم على خدمة مجتمعهم (أهلهم وذويهم) في ظروف أفضل.
بعد جولات الحوار الاجتماعي الذي ضمت "خلوات" واجتماعات لم يحضرها الوزير المسؤول عن القطاع في "تميز" لا يتمتع به إلا قطاع الصحة والحماية الاجتماعية بالمغرب على الرغْم من ثقل المتغيرات التي يشهدها القطاع والتي أسفرت عن إقرار عدد من القوانين المهيكلة الجديدة للقطاع العمومي للصحة (أو ما تبقى من عموميته) المفروض أن بلادنا تراهن على النهوض به، وكذلك على المستوى الرمزي/ السياسي المترتب عن عدم حضور وزير قطاع معين للحوار الاجتماعي مع ممثلي العاملين فيه، جاءت أزمة التنكر للاتفاقات المتعلقة بالاستجابة الجزئية لبعض مطالبهم العادلة والمشروعة ومكتسباتهم الوظيفية وتضحياتهم الجسيمة والمهام الإنسانية النبيلة التي يقومون بها، ويعتقد ان الجزء الكبير منها مرتبط بهذا الخلل.