بعد عدة تجارب عرفتها المدرسة العمومية المغربية منذ فجر الإستقلال والتي كلها كان لها طعم الفشل الذريع، وكلفت الشعب المغربي أموالا باهضة دون نتائج تذكر على أرض الواقع، تأتي تجربة مدرسة الريادة، وهي عبارة عن مشروع يهدف إلى تصحيح النقائص التي تم رصدها في القراءة والحساب على أن أقصى ما يمكن أن تقوم به مدرسة الريادة هو الرفع من نسبة التحكم في التحصيل وفي التعلمات.
و تشمل هذه التجربة أزيد من 600 مدرسة ابتدائية و ترى وزارة التربية الوطنية بأن التجربة ستساعد على تجاوز الأعطاب التعلمية/التعليمية في مجالي القراءة و الحساب بالنسبة للتلاميذ بالمدارس الإبتدائية.هو مشروع مبني على الفراغ العلمي و انعدام إشراك الفاعلين التربويين من كل الفئات وعدم الإستشارة مع القطاعات ذات الإرتباط بالمدرسة العمومية.وذلك وفق تصور عام ومندمج للمرحلة التعليمية المقبلة من حيث الأهداف والمرامي ،ومن حيث البرامج والمناهج الدراسية ،وتأهيل الأستاذ ليكون في مقدمة المشروع.
لقد عرفت المدرسة العمومية عدة تجارب لم تستطع إخراجها من التخلف التربوي والفكري و من الضبابية في الإختيارات الإرتجالية المبنية على الجهل المركب لبعض المقيمين على الشأن التعليمي .لقد عرفت التمزق منذ فجر الإستقلال بفعل تعدد المبادئ وتناقضها بين التعليم الأصيل والتعليم الحر و التعليم العتيق والتعليم العصري.
ثم جاءت أطروحة الوزير الراحل محمد بنهيمة التي تدعو إلى المدرسة النموذجية وإلى تعميم اللغة الفرنسية بالمدارس العمومية مما أدى الى التخلي عن المبادئ الأربع التي توصلت إليها لجنة إصلاح التعليم لسنة 1958 ، و سميت اللجنة الملكية لإصلاح التعليم في عهد عمر بنعبد الجليل وزير ثاني للتعليم في عهد الإستقلال.
ومخطط محمد بنهيمة تبنى قرارات كانت ضربة موجعة بالنسبة للمدرسة العمومية ومن بينها تقليص التمدرس و إلغاء التكوين المهني و التقني والعودة إلى المدرسة النموذجية للتخفيف على ميزانية الدولة . وإلى يومنا هذا لم تستطع الدولة المغربية الكشف عن حقيقة الأعطاب التي تصيب الآلة التعليمية/التعلمية ، بالرغم من توالي الوزراء على هذا القطاع و توالي اللجان من أجل إيجاد صيغة مناسبة لإصلاح التعليم وتمكين المدرسة العمومية من مكانتها التربوية والعلمية و الإجتماعية والثقافية لتكون المنارة التي تستهدي بها الأجيال الصاعدة من ظلمات الجهل و التخلف . لم تفلح الحكومات المغربية المتعاقبة ولا وزراء التعليم الذين تعاقبوا على هذا القطاع ولا المجلس الأعلى للتعليم و لا اللجن التي يتم تشكيلها في كل مرة من أجل البحث عن الصيغة المناسبة لإصلاح الوضع التعليمي في البلاد، لم تفلح في الكشف عن حقيقة الأعطاب التي يعرفها التعليم المغربي.
إنه لما لم تنجح كل التجارب في إخراج المدرسة العمومية من التيه في ظلمات الأمية المكتسبة و الضعف القرائي و الحساب ومن التخلف الفكري من حيث النقد و البحث العلمي والإبداع و اكتساب المهارات الفكرية والعقلية و أدبيات النقد و قواعد التحليل العلمي والإكتشافات العلمية بشهادة المنظمات الأممية مثل اليونسكو والمنظمات التي تعنى بالتعليم على مستوى العالم ،كان على الدولة المغربية مراجعة سياساتها بالكامل فيما يتعلق بالتعليم وذلك بالتخلي عن الوصفات الجاهزة و المستنسخة من دول أجنبية ،على الرغم من فشلها،(بلجيكا ، فرنسا ، كندا؛) وهي وصفات لم تزد التعليم في المغرب إلا تعقيدا وهدرا للمال العام العام وتعطيل النمو الفكري و العقلي لدى التلاميذ.وجعلت هذه التجارب الفاشلة من التعليم مجالا للريع و الكسب غير المشروع .إن أي إصلاح حقيقي للتعليم يجب:
أولا : أن يكون مؤطرا بقرار سياسي يقطع مع ماضي التجارب الفاشلة و الوصفات المستوردة ومع مضامين الكتب المدرسية المستنسخة و المشوهة و التي لا تقدر القيم الإنسانية ولا القيم الثقافية المحلية و الوطنية ،
ثانياً : على أي إصلاح أن يكون متمحورا حول المكونات الأساسية للمنظومة التعليمية/ التعلمية، التي هي : الأستاذ ، التلميذ(ة) ،المحيط السوسيو ثقافي،الآباء و الأمهات و الكتاب المدرسي .
ذلك لأن سياسة الدولة في توظيف الأساتذة في صيغتها الحالية عبر التعاقد ما هي إلا سياسة قائمة على سوء نية غير معلنة تنطوي على استغلال شباب له رغبة العمل في الحقل التعليمي . وهي تريد بذلك توفير ميزانية التكوين و التأهيل الصحيح والهادف للأستاذ. لأن مقومات الأستاذ ، ليس كما تريده الدولة، دون حقوق و لا اعتبارات إنسانية ولا كرامة، إنما الأستاذ هو ما تتطلبه المنظومة التربوية، كما هو متعارف عليها عالميا،أي اعتماد مدارس عليا لتكوين أساتذة التعليم الابتدائي وأساتذة التعليم الثانوي. مدارس لحاملي شهادة الباكالوريا أو الإجازة حيث تكون مدة التكوين من سنتين الى أربع سنوات حسب السلك التعليمي المرغوب فيه، و يخضع الأستاذ الطالب إلى التكوين المتعدد الجوانب ،التكوين البيداغوجي و التربوي، و التمكن من ديداكتيك تدريس المواد و القدرة على الإنتاج الأدبي للدروس باعتماد المراجع المتعددة المناسبة والتي تستجيب لحاجيات الطفل و لمتطلبات الوسط الذي يعيش فيه. فيكون بذلك الطالب الأستاذ باحثا تربويا وكاتبا ومؤلفا و مرشدا و منشطا ووسيطا اجتماعيا. وعند تخرجه يكون قادرا على إنتاج الدروس التي تستجيب لحاجيات المتعلمين و المتعلمات، و يحظى بالمصاحبة التربوية و بالتحفيز المادي و المعنوي و بالتعويض عن الإنتاج الأدبي و عن الساعات الإضافية أو التنقل من أجل المصلحة، كما تكون له حماية اجتماعية وأمنية وصحية حتى يكون متفرغا تفرغا كاملا للمهمة التربوية .
اما بالنسبة للتلميذ فإن الدولة لا تزال تعتبره رقما إحصائيا ليس إلا ، وليس كمكون محوري في المنظومة التربوية، شأنه شأن أبناء العالم ، فهو في حاجة إلى برامج مساعدة على النمو العقلي و الفكري و صقل المواهب و المهارات من خلال أنشطة مقترحة في هذا المجال، التي تتجلى في سيكولوجية اللعب والرسم والإبداع الفني، والمسرح و الغناء، و في البحث عبر القراءة والانفتاح على المكتبات و الخزانة المدرسية.و الخرجات العلمية الاستكشافية عبر نظام الفصول الدراسية المتنقلة école transplantée" " والرحلات المدرسية" وهي عمليات تربوية يذهب فيها الأستاذ والتلاميذ إلى أماكن بعيدةٍ عن المدرسة لتعلم أشياء متعددة ملموسة ومختلفة من خلال رؤية الأشياء التي لا يمكن رؤيتها إلا في تلك الأماكن والمواقع.ومن خلال هذه العمليات يكتسب المتعلم(ة) التحدي لخوض تجارب لا يمكن القيام بها إلا في تلك الأماكن.
أما الكتاب المدرسي فهو ليس الكتاب المعتمد الآن، أي نصوص جامدة ذات محتويات جافة وأسئلة ليس لها امتداد معرفي و لا تكويني ،يطغى عليه النقل و الإستنساخ و يحمل في طياته قيما لا تتناسب و القيم الوطنية وتخليق الحياة العامة..
إن من أهداف الكتاب المدرسي الحقيقي هو تمكين المتعلم (ة) من القدرة على التفكير في المضامين و في الأبعاد الأدبية و اللغوية و القدرة على التواصل مع النص و اكتشاف ما يحتويه من قيم إنسانية و من معلومات تاريخية وجغرافية وبيئية و يكون بوابة للقراءة المتعددة والشمولية التي من شأنها تحول المتعلم (ة) من القارئ السلبي إلى القارئ الإيجابي ثم إلى القدرة على التعلم الذاتي. يكون إعداد الكتاب المدرسي بالصيغة التشاركية مع الأساتذة والخبراء الإجتماعيين على مستوى الأكاديميات. كما يساعد الأستاذ على التخطيط لعمليّة التدريس و استشراف المنهجية التي يجب أن يتّبعها ضمن استراتيجيّة معيّنة..
أما المدرسة فعليها أن تكون منفتحة و تتمتع بقابلية الإستقبال على مستوى البنية التحتية ووضع القاعات الدراسية لتكون قابلة لإنجاز أنشطة تربوية عبر الورشات أو القيام بعروض مسرحية أو عرض أشرطة وثائقية .وتتوفر على ملاعب رياضية وحدائق ومسابح .لتكون مدرسة مندمجة تضامنية و اجتماعية و ثقافية و مصدر للقيم الإنسانية والأخلاقية و التربية على المواطنة وعلى الديمقراطية ،مدرسة يكون تدبير أنشطتها من لدن المتعلمين و المتعلمات و بمشاركة الآباء و الأمهات و الفاعلين الإجتماعيين المحليين..
كفانا من التجارب في أبناء الشعب المغربي وكفانا من مدرسة عبارة عن معتقل فكري وعقلي ولا يتولد عنها إلا العنف والتطرف والجريمة والأمية المركبة والغش والإنحراف..