القرآن الكريم فيه ما هو مرتبطٌ بالدين، أي بما يُصطلحُ عليه بالعِبادات. وفيه كذلك ما هو مرتبط بما يجب أن تكونَ عليه العلاقات بين الناس، أي ما يُصطلحٌ عليه بالمعاملات.
والمعاملات، كما أرادها اللهُ، سبحانه وتعالى، في قرآنه الكريم، لها علاقة ب"العمل الصالح". و"العمل الصالح" يمكن أن نُلخِّصَه في كل التَّصرُّفات السلوكية، الإنسانية والأخلاقية التي، على الناس أن يعملوا بها، في حياتهم الدنيوية اليومية ليتساكنوا ويتعايشوا في مجتمعات يسود فيها الأمنُ والأمان والعدل والتكامل والتكافل والتَّضامن والتَّسامح والتَّآزر…
و"العملُ الصالح"، كما يعتقد كثيرٌ من الناس، ليس مرتبطا، فقط وحصريا، بالقيام بالعِبادات أحسنَ قيامٍ. الاعتناء بالعبادات عملٌ صالحٌ، لكن مفهومَ "العمل الصالح" يجب ألا يبقى محصورا في إتقان العبادات. بل يجب إدراكُه بالمعنى الواسع والشامل. ولهذا، ف"العمل الصالح"، بالمعنى الواسع والشامل هو مجموع الأعمال المعنوية والمادية التي تُسهِّل التَّساكنَ والتَّعايشَ داخلَ المجتمعات. إذن، فأي عملٍ يقوم به الناسُ داخلَ المجتمعات ويسيرُ في اتجاه تسهيل وتقوية التَّساكن والتَّعايش، فهو عملٌ صالحٌ.
في هذه الحالة، "الأعمال الصالحة" التي تُسهِّل وتُقوِّي التَّساكنَ والتَّعايشَ كثيرةٌ ومتكاملة. بل لا حصرَ لها ما دامت مرتبطة بالعقل البشري. والعقل البشري يتطور باستمرارٍ، بتطوُّر ما يُنتجُه من علمٍ وتكنولوجيا.
غير أن "الأعمال الصالحة" لا تكون صالحة إلا إذا أخلص الناسُ في أدائها أو القيام بها. إذن، الإخلاص في العمل هي القيمة الاجتماعية التي يتأسَّس عليها "العملُ الصالح". أو بعبارة أخرى، الإخلاص في العمل هو أساس نجاح التَّساكن والتَّعايش داخل المجتمعات.
السؤال الذي يتبادر للذهن، في هذه الحالة، هو: "هل هناك ارتباطٌ بين العبادات والمعاملات؟
ما أستعين به للإجابة على هذا السؤال، هو أن آياتٍ كثيرةً تتحدَّث عن "العمل الصالح" تربط هذا "العملَ الصالحَ" بالإيمان. بل إن آياتٍ من القرآن الكريم تبدأ ب"الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…". وهذا يعني أنه، بالنسبة لله، سبحانه وتعالى، "العمل الصالح" مرتبطٌ بالإيمان، أو بعبارة أخرى، الإيمأن يحثُّ الناسَ على القيام ب"الأعمال الصالحة" داخلَ المجتمعات. بل دعونا نقول : الإيمان يحث على القيام ب"العمل الصالح" و"العمل الصالح" يقوِّي الإيمان. من بين هذه الآيات، أذكر على سبيل المثال :
1."رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا" (الطلاق، 11).
2."إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ" (البينة، 7). "خَيْرُ الْبَرِيَّةِ" تعني خير مخلوقات الله.
3."مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل، 97).
انطلاقا من القرآن الكريم، يتَّضح أن العبادات والمعاملات عنصران مرتبطان ارتباطا وثيقا. لماذا؟ لأن العبادات ما هي إلا معتقدات croyances يؤمن بها الناسُ ويمارسونها، عن طريق التَّديُّن، في حياتِهم الدنيوية اليومية. ومن فضائل العبادات، إذا تمَّت ممارستُها بإيمان قوي، أن تحثَّ الناسَ على أن يُحسِنوا معاملاتهم داخلَ المجتمعات. والقارئ المتدبِّر لآيات القرآن الكريم، سيجد أن الجزءَ الأكبرَ من هذا القرآن مُخصَّصٌ للمعاملات. والدليل على ذلك، هو أن الآياتِ التي وردت فيها عبارةُ "العمل الصالح"، كثيرة وموجودة تقريبا في جل سُوَرِ القرآن الكريم.
في هذه الحالة، العِبادات تلعب دورَ المُحفِّزات القوية puissants facteurs motivants، الإيمانية، الروحية والوِجدانية، التي تدفع الناسَ إلى القيام ب"العمل الصالح" على أحسن وجه. لماذا؟
أولا وقبل كل شيءٍ، لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، غنيٌّ عن العباد، أي ليس في حاجة لا لعبادة الناس له ولا لمعاملاتهم، طيبةً كانت أم سيِّئة. إن كانت طيبة، فالإنسانُ هو الرابح. وإن كانت سيِّئةً، فالإنسان هو الخاسر. ولهذا، فالعبادات والمعاملات، كلًّها، في صالح الإنسان. وهنا، يجب أن نطرحَ على أنفسنا السؤالَ التالي : "لماذا فضَّل اللهُ، سبحانه وتعالى، الإنسانَ على جميع مخلوقاتِه بالعقل"؟ علما أن اللهَ، عزَّ وجلَّ، غني عن العباد، ولا يخلق شيئا من الأشياء عَبَثاً.
اللهُ، سبحانه وتعالى، فضَّل الإنسانَ عن جميع مخلوقاته، بالعقل، ليس فقط ليعبُدَه الناس، ولو أنه قال في الآية رقم 56 من سورة الذاريات : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". إلا أن علماء وفقهاء الدين فسَّروا هذه الآية تفسيرا خاطئا، أي أن اللهَ، سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس، فقط وحصريا، ليعبدوه. بل التَّفسير العقلاني والمُتَماشي مع إرادة الله، هو أنه، سبحانه وتعالى، خلق الجنَّ والإنسَ "ليس فقط ليعبدوه". في هذه الآية الكريمة، الاستثناء لا يعود على الجن والإنس، بل على عبادة الله.
ولهذا، فالله، سبحانه وتعالى، لم يخلق الإنسانَ عبثا. بل خلقه ليُعمِّرَ الأرضَ إعمارا يُرضيه ويُرضي الناسَ جميعا. ولماذا سنَّ اللهُ، سبحانه وتعالى، العبادات؟ سنها، ليس لأجله هو، الذي يستغني عن عباده. بل سنَّها لتكون "حافزا قويا" une puissante motivation تحثُّ الناسَ على القيام بالأعمال الصالحة حين إعمارهم للأرض، أي حين بناء المجتمعات. وبناء المجتمعات لم يتوقف ولن يتوقَّفَ إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها.