محمد العمرتي: دولة فلسطين والقانون الدولي.. من الوجود إلى الاعتراف

محمد العمرتي: دولة فلسطين والقانون الدولي.. من الوجود إلى الاعتراف محمد العمرتي

طفت على السطح   من جديد مسألة الاعتراف بدولة فلسطين في غمرة الحرب التي تخوضها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.  ففي سياق تداعيات هذه الحرب والتفاعلات التي أفرزتها في الشق القانوني والقضائي أمام هيئات العدالة الدولية (محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية)، احتدم النقاش مرة أخرى، بشأن مشروعية ومآل حق دولة فلسطين في اكتساب العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتحدة، وهي مسألة كانت ولا تزال تثير خلافا قانونيا جوهريا وتخضع لتجاذبات دبلوماسية  وسياسية حادة منذ أمد طويل.

 

وعلى الرغم من كون الاعتراف بدولة فلسطين مسألة قديمة، فالملاحظ أنها تطرح اليوم بحدة وإلحاح أشد وأقوى مما كان عليه الأمر في الماضي. فقد تواترت في خضم الحرب الدائرة في غزة مجموعة من التصريحات الصادرة عن عدد من المسؤولين السياسيين الأوروبيين التي تؤكد أن الاعتراف بدولة فلسطين قد خرج من دائرة " التابوهات". كما أن إعلان كلا من إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا وأرمينيا عن اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، وإعلان بلجيكا عن عزمها على إعادة النظر في موقفها من هذه المسألة، والتحول الملموس للرأي العام الدولي إزاء القضية الفلسطينية بفعل الصدمة التي احدثتها الحرب على غزة، أدى الى تبديد هواجس وتردد بعض الدول الأوروبية في حسم موقفها من الاعتراف بفلسطين، وأدى أيضا إلى ورفع عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة المدرجة في قائمة الاعتراف بدولة فلسطين الى 146 دولة.

 

ويجدر التذكير في هذا الصدد، أن فلسطين تعتبر عضوا في منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) منذ عام 2011، كما أن المحكمة الجنائية الدولية قد تخلت عن موقفها الأصلي المرتبك من عضوية فلسطين في المحكمة، وراجعته من خلال موافقتها في 2021 على مصادقة فلسطين على نظام روما الأساسي للمحكمة الذي يفتح وفقا لمادته (125) باب التوقيع والانضمام" لجميع الدول"، بالإضافة إلى أن الوضع الحالي لفلسطين في إطار منظمة الأمم المتحدة هو " دولة ملاحظة دائمة:« Etat observateur permanent »

 

ولعل ما يبعث على الاستغراب أن الدولة التي تمثل المفهوم- المركزي في القانون الدولي الراهن، وكانت ولا تزال الشخص الأصلي والرئيسي في العلاقات الدولية والقانون الدولي، لا نجد لها تعريفا " رسميا " على الصعيد العالمي، كما أن إحجام لجنة القانون الدولي عن الاستمرار في محاولة تعريف الدولة في أشغال دورتها لعام 1949 بشأن تحديد حقوق وواجبات الدول أمر يكتسي دلالة هامة في هذا الصدد.  وفي جميع الأحوال، إن الدولة موجودة، وينصرف مدلولها الأكثر شيوعا   في نطاق القانون الدولي على: «مجموعة بشرية تقيم على نحو قار في إقليم له تنظيم سياسي خاص يرتبط به وجوده السياسي ويخضع مباشرة للقانون الدولي".

 

وتنبثق من هذا التعريف الذي بلوره الفقه الدولي وطوره اجتهاد المحاكم العناصر المكونة والمؤسسة للدولة التي تتمثل في أساسين، أولهما جوهري، يشمل شرطي وجود مجموعة بشرية (السكان – الشعب)، وإقليم أي الحيز المكاني الذي يقيم فيه سكان الدولة على سبيل الاستقرار. أما الأساس الثاني للدولة فهو عضوي، ويكمن في وجود تنظيم سياسي مستقل من الناحية القانونية ولا يخضع لسلطة أعلى منه، وبمعنى آخر يتمتع بالسيادة ويمارس الاختصاصات الداخلية والخارجية للدولة.

 

واعتبارا لكون الاعتراف لفلسطين بصفة الدولة مسألة توجد في قلب الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ولا يمكن فصلها عن تطوراته منذ عام 1948، فمن البديهي أن يثار النقاش حول مدى اكتساب فلسطين لعناصر وشروط وجود الدولة في سياق الحرب على غزة، وأن يستأثر بالاهتمام من جديد من وجهة القانون الدولي. بيد أن إمعان الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن في إبقاء دولة فلسطين في منطقة "الانتظار" ل «عضو ملاحظ دائم " في الأمم المتحدة، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الاعتراف بفلسطين كدولة كاملة العضوية في هذه المنظمة، قرار محرج لهذه الدول الى حد كبير، كما يفضح العجز المرضي للمجتمع الدولي وفشله في اتخاذ القرار المحايد والعادل بشأن نزاع عمر لأزيد من سبع عقود.

 

أولا : العودة الى شروط وجود الدولة في القانون الدولي

 أثار النزاع الإسرائيلي الفلسطيني الدائر في قطاع غزة نقاشا قديما/ جديدا حول وجود دولة   فلسطينية بالمفهوم الذي يكرسه القانون الدولي، بما يعني إعادة طرح مسألة مدى استيفاء الكيان الفلسطيني للعناصر والأركان المادية والقانونية (الجوهرية والعضوية) التي يعتمدها القانون الدولي للإقرار باكتساب كيان معين لوضع الدولة. 

 

ويكشف هذا النقاش الذي تم احياؤه  مؤخرا في بعض الأوساط الأكاديمية والدبلوماسية  استمرار موقف عنيد لا زال ينازع في الوجود القانوني لفلسطين كدولة، وينفي  عنها هذه الصفة، تارة بالتحجج بانعدام ركن السلطة السياسية المستقلة والمتمتعة بالسيادة، وتارة أخرى بالدفع بقرينة عدم توفر "شرط" الاعتراف، بالرغم من كون القانون الدولي قد استقر منذ زمن طويل على أن نشأة الدولة ووجودها لا يعد رهينا بحصولها على الاعتراف بها من قبل الدول الأخرى، طالما  أن شرط الاعتراف يكتسي من الناحية الشكلية طابعا ذاتيا  و يصدر من جانب واحد ،  وذلك أخذا بنظرية الاعتراف المقرر/ التصريحي  التي باتت هي السائدة في العمل الدولي، والتي  تبناها معهد القانون الدولي في قراره لعام 1936 بشأن الاعتراف بالدول الجديدة ( الاعتراف  عمل  تصريحي / مقرر يعاين وجود الدولة ولا ينشئها ، المادة الأولى ).

 

ويستند المؤيدون لهذا الطرح على  " اتفاقية "مونتيفيديو" لعام   1933بشأن حقوق وواجبات الدول  التي تعتبر اتفاقية جهوية  لم تصادق عليها سوى 16 دولة ، فضلا عن كون  تعريفها للدولة  لم يحظ بتكريس واسع على الصعيد العالمي ، معتبرين أن السلطة الفلسطينية لا تتوفر على المميزات الأساسية للدولة والضرورية للاعتراف بها، وليخلصوا في نهاية المطاف الى أن " السلطة الفلسطينية لا تتوفر على سكان بصفة الدوام والاستمرار، ولا تكتسب إقليما محددا، كما أنها لا تتوفر على حكومة تسيطر على إقليمها وتملك القدرة على تدبير شؤون سكانها ولا لربط علاقات مع الدول الأخرى ".

 

 وعلى خلاف ما يزعم أنصار هذا التحليل المغرق في "الشكلانية القانونية " Formalisme juridique    بخصوص الوضع القانوني لفلسطين، فالمسلم به من طرف تيار واسع من كبار المؤلفين   في القانون الدولي أن فلسطين تتوفر فعلا منذ زمن طويل على المميزات والعناصر المشترطة عادة للاعتراف بالدولة والمكونة لها وفقا للقانون الدولي.

 

فبالنسبة للإقليم، باعتباره الوعاء المادي والجغرافي للدولة، فمن المعروف أن أرض فلسطين التاريخية التي كانت موجودة  قبل اندلاع الصراع العربي – الإسرائيلي لسنة 1948، خضعت للتقسيم بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر في نونبر 1947، وقد تضمن نص هذا القرار على تعيين الحدود الجغرافية لإقليم الدولة العربية.  ثم خضع الإقليم الفلسطيني لتعديلات عديدة مع تعاقب قرارات الأمم المتحدة، ولا سيما قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967.

 

كما أن محكمة العدل الدولية أكدت في رأيها الاستشاري لسنة 2004(التبعات القانونية لإنشاء الجدار الفاصل على الأراضي الفلسطينية المحتلة – 9 يوليوز 2004) حدود الإقليم الفلسطيني التي تم تعيينها في اتفاقية الهدنة لعام 1949 وكما كانت عليه في 04 يونيو 1967.

 

أما الشعب الفلسطيني فكان ولا يزال مقيما على أرضه، بالرغم من تعرض جزء كبير من السكان العرب لإقليم فلسطين للتهجير القسري، وإجبار الفلسطينيين على النزوح والمنفى بعد النكبة في 1948، وفي مراحل لاحقة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي واتساع الاحتلال الإسرائيلي وامتداده لأجزاء واسعة أخرى من الإقليم الفلسطيني التاريخي.

 

فبعد مسار طويل وشاق من مقاومة الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية رسميا في 15 نونبر 1988عن قيام دولة فلسطين، وحقها المشروع في ممارسة سيادتها على كافة الأجزاء المتبقية من أرض فلسطين التاريخية التي احتلتها إسرائيل في عام 1967.  ومن المعروف أن إطلاق مسلسل مفاوضات أوسلو والتوقيع على اتفاقياتها في 1993 قد أفضى إلى قيام " السلطة الفلسطينية". وصارت هذه السلطة التي تأسست عقب هذه الاتفاقيات تتولى إدارة شؤون الشعب الفلسطيني من مقرها في رام الله في الضفة الغربية الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي.

 

 ومن المسلم به أن الحكومة الفلسطينية المنبثقة عن "السلطة الفلسطينية" ليس بإمكانها في الواقع ممارسة جميع اختصاصات السيادة الكاملة بسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي، الذي ظلت كل القرارات المتعاقبة للأمم المتحدة تعتبره منافيا للشرعية الدولية وانتهاكا متواصلا لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

 

ومن هذه الزاوية، يتعين القول إنه إذا كان القانون الدولي يشترط توفر صفة الفعالية في الحكومة، بالمعنى الذي يدل على أهلية السلطة القائمة في ممارسة واقعية لوظائف الدولة وقدرتها على الحفاظ على النظام العام واستتباب الأمن في الإقليم وتنفيذ التزاماتها الدولية، فإن افتقار الحكومة الفلسطينية لعنصر الفاعلية، لا يعتبر بأي حال سببا كافيا لإنكار وجود الدولة الفلسطينية. وفضلا عن ذلك، إن عددا من المنظمات الدولية والمؤسسات والوكالات المتخصصة (الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي للإنشاء والتعمير، الاتحاد الأوروبي...) تقر بتوفر السلطة الفلسطينية على مؤسسات قائمة الذات، بلغت طورا كافيا من التطور الذي يؤهلها لممارسة وظائف الدولة. ومن ثم، إن حكومة السلطة الفلسطينية تملك القدرة على مباشرة علاقات دولية من خلال شبكة دبلوماسية واسعة لممثليها في دول العالم بما فيها تلك التي لا تعترف لها بصفة الدولة.

 

 وبالتالي، إن مسألة الاعتراف بصفة الدولة لفلسطين، تحيل في الواقع إلى وضع يعتبر تقليديا ومعروفا في العلاقات الدولية، وهو لا يتعلق بوجود دولة فلسطين واستيفائها لكافة الشروط الموضوعية والذاتية للاعتراف بصفة الدولة بمقتضى القانون الدولي، بقدر ما يثير إشكالية خضوعها للاحتلال ضدا على الشرعية الدولية.

 

ومن اللازم التأكيد بهذا الخصوص أن توفر مجموع عناصر الدولة (الإقليم والسكان والسلطة السياسية المستقلة) في كيان ما، لا يستتبع دائما وبالضرورة الاعتراف له بصفة الدولة من قبل الدول والمنظمات الدولية، مما يعني أن هذه الشروط والمعايير لا تسمح دائما بالاستيعاب المطلوب وبشكل كامل لواقع الدولة. فثمة حالات وأوضاع عديدة ومختلفة عن بعضها البعض، تثبت أن الممارسة الدولية في مجال الاعتراف لا تخلو من المفارقة وأوجه التناقض. ويتمثل القاسم المشترك لجميع هذه الحالات التي لا يمكن جردها وذكرها في هذا المقام الضيق، في حصول أو عدم حصول بعض الكيانات على الاعتراف بصفة الدولة. وقد أدت هذه الظاهرة الى التنافر الملاحظ بين وجود الدولة في الواقع والآثار القانونية لهذا الوضع.  وهكذا نجد في السوابق الدولية أن كيانات لم تكن تتوفر على إقليم ولا على سلطة سياسية وحظيت مع ذلك بالاعتراف بصفة الدولة، بينما لم تحصل كيانات أخرى منظمة سياسيا وقائمة فعلا في إقليم محدد على الاعتراف بوضع الدولة.

 

وباختصار، إن وجود فلسطين بصفتها دولة بمقتضى القانون الدولي، لا يمكن بأي حال اختزاله ولا رهنه وإخضاعه لاعتراف إسرائيل والولايات المتحدة أو فرنسا او لغيرها من الدول، وانما يتوقف حصرا على الوجود الموضوعي للعناصر المكونة للدولة المحددة آنفا. وإذا انطلقنا من كون الوجود القانوني لدولة فلسطين أمر لا خلاف حوله بمقتضى القانون الدولي، فإن السؤال الذي يطرح حتما يتعلق بالفائدة القانونية من حصول هذه الدولة على الاعتراف؟

 

ثانيا: لماذا الاعتراف بدولة فلسطين؟

  تكمن أهمية اعتراف الأغلبية العظمى لأعضاء الأمم المتحدة بدولة فلسطين في كون هذه الدول سوف تستخلص هذا الاعتراف بصفة الدولة لفلسطين، جميع النتائج التي تترتب عن القرارات المتواترة المعتمدة في إطار هذه المنظمة، سواء تعلق الأمر بقرارات الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية.ومن المعروف أن جميع هذه القرارات تؤكد أن حل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني وفقا للشرعية الدولية   يقوم على أساس وجود الدولتين، إسرائيل وفلسطين، والتي يجب ان تكون حقوقهما مضمونة بشكل متبادل.  ومن هذا المنطلق، إن الاعتراف سويا بفلسطين وإسرائيل كدولتين قائمتين وفقا للقانون الدولي يترتب عنه بالضرورة الإقرار بأن أي مفاوضات بين الدولتين، لا يمكن أن تعيد النظر في صفة الدولة بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك، طالما أن مسألة اكتسابهما لصفة الدولة تعتبر محسومة بمقتضى القانون الدولي.

 

وبالتالي، فبقدر ما بات من غير المفهوم إنكار حق إسرائيل في الوجود كدولة، فأنه من غير المقبول أيضا التمادي في إنكار واقع وجود دولة لفلسطين وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره طبقا للشرعية الدولية،

 

وعلى هذا الأساس، لا يمكن سوى استغراب الموقف المتهافت الذي لا زال يدعو الى التأجيل غير المبرر للاعتراف بدولة فلسطين، أو يماطل في الاعتراف بها بذريعة وجوب ان يكون هذا الاعتراف "مستحقا " أو نتيجة للتفاوض بين الأطراف.

 

ومن البديهي أن "حل الدولتين " لا يستبعد إطلاقا إجراء مفاوضات بين طرفي النزاع، والتي يستحسن أن تكون تحت رعاية الأمم المتحدة باعتبارها الضامنة تاريخيا لممارسة كلا الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي لحقهما في تقرير المصير. كما أن طريقة التفاوض تبقى السبيل الوحيد لتسوية جملة من القضايا المستعصية فعلا، والتي تفاقمت بفعل المدة الطويلة للنزاع والتبعات السياسية والحقوقية والإنسانية لسياسة الاحتلال ومخلفاته على الشعب الفلسطيني، ومن أبرزها على سبيل المثال لا الحصر، مسألة ضمان الأمن المتبادل  لإسرائيل وفلسطين، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى أراضيهم التي هجروا منها قسرا في 1948  وخلال المراحل  اللاحقة من النزاع، وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية التي أقامها  ومددها الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية ووضع القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية.

 

في هذا السياق الذي حاولنا تحديد ملامحه الكبرى، يبدو لنا أن ادعاء بعض المناهضين للاعتراف بصفة الدولة لفلسطين، بأن هذا الاعتراف سوف يضفي الشرعية على حركة حماس ويكسب القوة السياسية والشرعية المعنوية لحركة مصنفة من طرف الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الغربية الأخرى ضمن" قائمة الجماعات الإرهابية"، ادعاء لا يقوم على أساس مقنع، وذلك لاعتبارين رئيسيين من الوجهة القانونية على الأقل.

 

فمن جهة أولى، تعتبر السلطة الفلسطينية الحكومة الرسمية لفلسطين، فهي التي تمارس حقوق فلسطين في إطار الأمم المتحدة ولدى منظومتها لحقوق الإنسان (مجلس حقوق الإنسان وهيئات المعاهدات) ولدى منظمة اليونسكو وأمام المحكمة الجنائية الدولية، وهي التي تتمتع بحق التمثيلية والاعتماد الدبلوماسي لدى عدد كبير من الدول الأجنبية وتبرم الاتفاقيات الدولية مع هذه الدول.

 

ومن جهة ثانية، ففي كل الأحوال يعتبر الاعتراف بالدولة أمرا منفصلا ومستقلا عن مسالة مشروعية من يمثلها. ذلك أن الاعتراف بدولة إسرائيل لا يعني بالضرورة تبني موقف داعم للحكومة القائمة فيها، ولا الموافقة على سياسة الاحتلال التي تنهجها أو مساندتها، ولا يعني مطلقا غض الطرف عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني وللحقوق الأساسية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضد السكان المدنيين في قطاع غزة، ولا يجب أن يتم تأويل هذا الاعتراف كموقف يعارض متابعة المسؤولين الإسرائيليين المشتبه في ارتكابهم لجرائم دولية، ولاحتمال ارتكابهم لجريمة الإبادة الجماعية، الأمر الذي يستوجب محاكمتهم امام المحكمة الجنائية الدولية. 

 

وبالمثل، إن الاعتراف بصفة الدولة لفلسطين لا يعدو كونه إقرارا بواقع وجودها   كدولة الى جانب إسرائيل، أيا كانت مميزات وعيوب السلطات القائمة في الدولتين. وعليه، لا يجب ربط الاعتراف بدولة فلسطين بالأحداث التي وقعت تحديدا في السابع من أكتوبر 2023 وما كان لها من تداعيات، ذلك أن هذا الاعتراف لا علاقة له بتحريك المتابعة الجنائية في حق المشتبه فيهم من الفلسطينيين سواء من حماس أو غيرها من الفصائل الفلسطينية الأخرى، بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.   

 

 يمكن الخلوص مما سبق أن الخلافات القائمة بين الدول حول موضوع الاعتراف بدولة فلسطين تعكس من زاوية القانون الدولي، اختلافاتها في تقدير مدى تحقق الشروط المطلوبة لقيام الدولة. فالجدير بالذكر أن قرار قبول دولة   فلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة قد حظي بتصويت أغلبية ساحقة في الدورة الطارئة للجمعية العامة المنعقدة في 10 ماي 2024 (143 صوت بنعم من بين 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، 9 ضد وامتناع 25). ولا شك في أن كثافة عدد الدول التي عبرت عن موافقتها الصريحة على الاعتراف بصفة الدولة لفلسطين، ومنحها وضع العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتحدة يعتبر ردا سريعا وقويا على الفيتو الذي استعملته الولايات المتحدة في مجلس الأمن في 18 ابريل 2024، ضد مشروع قرار للمجلس بشأن قبول دولة فلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة (12 صوت لصالح القرار، 1 ضد، فيتو الولايات المتحدة، امتناع عضوين عن التصويت، المملكة المتحدة وسويسرا).

 

 صحيح أن الجمعية العامة باعتبارها جهازا رئيسيا للأمم المتحدة لا يفترض أن تعترف بالدول، بيد أن تكييفها للوضع الذي يوجد فيه كيان معين، يعتبر نتيجة لتصويت دول ذات سيادة. وحينما تعبر هذه الدول عن رأيها من خلال تصويتها التأكيدي على موافقتها على انضمام هذا الكيان الى حظيرة الدول الأعضاء، فإنها تصرح بداهة باعترافها   لهذا الكيان بصفة الدولة.

محمد العمرتي ، أستاذ سابق للقانون الدولي وحقوق الإنسان، بكلية الحقوق – جامعة محمد الأول - وجدة