لحسن العسبي: ما مستقبل علاقات الرباط وباريس في حال فوز اليمين المتطرف؟

لحسن العسبي: ما مستقبل علاقات الرباط وباريس في حال فوز اليمين المتطرف؟ لحسن العسبي
يستطيع المرء من البداية الإنتصار ليقين أنها ستكون علاقات جيدة. ليس لأن الرباط تتواءم أكثر مع النخبة الأشد محافظة في فرنسا، بل على العكس لأن تلك النخبة الفرنسية هي الأكثر تفهما وإدراكا لمصالح باريس الحيوية الكبرى مع المغرب (بمعنى آخر هي تدرك أن فرنسا أكثر حاجة إلى المغرب وليس العكس). مثلما أنها ثقافيا أكثر النخب الباريسية المحترمة للمغرب بحكم تاريخه ومكانته الحضارية.
 
هل هذا يعني أن علاقات الرباط وباريس ستكون سمنا على عسل في حال فوز حزب ماري لوبين بالإنتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة (هناك احتمال وارد لانتخابات رئاسية سابقة لأوانها سببها المقامرة التي دخلها الرئيس ماكرون انتخابيا)؟
 
منطق الأمور يؤكد أنها لن تكون كذلك، تأسيسا على الخلفية الثقافية التي تؤطر منظومة اليمين المتطرف بباريس التي هي "قومية". لأن كل الفكر القومي الفرنسي تاريخيا يحكمه تعال يجد مرجعيته في أثر تاريخ التجربة الإستعمارية للجيش والرأسمال الفرنسي. بالتالي كما لو أن التاريخ يعيد نفسه في علاقة فرنسا بعمقها الجيو ستراتيجي أروبيا، متوسطيا وإفريقيا، مع بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، تماما كما حدث لهم في ثلاثينات القرن العشرين، حين بدأت تتبلور مبادئ "القومية الفرنسية" المتجددة ضمن سياق مواجهتها للقوة الألمانية المنافسة أروبيا، التي أنضجت إفريقيا في الطريق منهجية "فوكار" المتطرفة التي علينا ألا ننسى أن راعيها الأول كان هو الجنرال دوغول زعيم "فرنسا الحرة".
 
إن قدر باريس التاريخي منذ ما بعد الثورة الفرنسية، التي جاءت بنابليون بونابارت (تعزيز حاسم لدور الجيش في صناعة قدر فرنسا)، هو أن تبني وجودها (كأمة) في صراع مع محيطها الأروبي خاصة في شقه الألماني وعمقه السلافي شرقا حتى موسكو. ويكاد الأمر يعيد نفسه اليوم مع تجدد الزعامة الألمانية أروبيا سياسيا واقتصاديا وماليا (بدعم أمريكي كامل)، ومع تجدد الصراع الروسي الأروبي عبر البوابة الأوكرانية، الذي هو صراع حضاري بين ما يمكن وصفه ب "الأورسة" و "الأوربة".
 
بالتالي، لا يمكن استيعاب "القلق الشقي للوعي الفرنسي" بدون استحضار ما يمثله ثقل "الإحساس القومي الغالي (Gaulois)" في الهوية الفرنسية على مستوى النخبة خاصة في شقها العسكري والمالي والثقافي والإعلامي. وأن ما تعيشه باريس اليوم هو تطور صيرورة طبيعية تماما ضمن المنظومة الفرنسية المخصوصة، التي تأسست تاريخيا ضمن سياق صراع دائم مفتوح مع عمقها الأروبي ضمن المنظومة الغربية المسيحية (حتى ذاكرة الصراع الدموي بين الكاثوليكية الفرنسية والبروتستانتية الألمانية حاضرة في الخلفية). لهذا السبب فإن "الإعتداد الفرنسي بالذات القومية" دوما عال في باريس. وتيار اليمين المتطرف هناك اليوم ليس سوى تجل لتطور صيرورة أروبية غربية يجد فيها الفرنسيون أنفسهم دوما في موقع دفاع (وهنا كل العنف في الخطاب والمواقف الكامن في هذا التيار). مع تسجيل أنه إذا كان من يشاغب باريس في المراحل السابقة لحسابات السياسة والجيو ستراتيجية خلال القرنين 18 و19 حتى بدايات القرن 20 هي بريطانيا العظمى (سيدة البحار حينها)، فإن من يشاغبها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هي الولايات المتحدة الأمريكية (سيدة البحار اليوم). ذلك أن واشنطن تتفهم "الغرور الفرنسي" كما تصفه كتابات خبراءها الإستراتيجيين، لكنها مدركة أكثر للحجم الحقيقي لباريس كقوة أروبية إقليمية (بالنسبة لها فرنسا قوية في اللسان وليس في الذراع).
 
براغماتية اليمين المتطرف الفرنسي
تأسيسا على كل هذا الفرش المختصر جدا على المستوى التحليلي، فإن صعود اليمين المتطرف (المحتمل) إلى مستوى القرار الحكومي بقصر ماتينيون في تعالقه مع الملف المغربي سيكون مختلفا تماما عن كل الموروث العلائقي المتحقق منذ عهد الزعيم دوغول وصولا إلى عهد أضعف رؤساء فرنسا الحديثة إيمانويل ماكرون. مرتكز اختلافه كامن في أن نخبة لوبين تضع الرباط ضمن خريطة عامة للمصالح القومية العليا لفرنسا كبوابة حاسمة لها إفريقيا وأطلسيا (فيها الكثير من موروث الرؤية الإستراتيجية للماريشال ليوطي).
 
نعم مداخل باريس تلك متوسطيا وإفريقيا متعددة فيها الرباط والجزائر وتونس والقاهرة، لكنها تضع لكل باب منها أسلوبا مختلفا تحوز فيه الرباط نقطة اختلاف متمايزة (لا نقول متميزة)، مرتكزها أن موروث الدولة عتيق ورصين وثابت وأنه لا شيء ممكن في الجغرافية المغربية بدون التنسيق مع ذلك الموروث المجرب. لهذا السبب فإن رؤية نخبة اليمين الفرنسي مثلا للجزائر مختلفة جدا عن رؤيتها للمغرب، ومنطق الأمور هناك سيدفع في اتجاه التشدد أكثر مع الملف الجزائري (شهور العسل مع ماكرون القادم من موروث ذاكرة اليسار الفرنسي مغاربيا لن تستمر).
 
إن ما يميز نخبة اليمين المتطرف الفرنسي هي أنها تمتلك "خارطة طريق" واضحة سياسيا، تدبيرا، أمنيا، عسكريا واقتصاديا. وهي خارطة طريق مسنودة بخلفية ثقافية "قومية محافظة"، شعارها المركزي "فرنسا أولا". بل إن ما تحققه اليوم من تجاوب مع رجل الشارع الفرنسي الجديد آت من وضوح هذه الخريطة بالتحديد، لأنها تقدم مشروعا مجتمعيا متكامل الأضلاع للفرنسي الذي تاريخيا تحركه نزوع قومية هوياتية راسخة (أحسن من يستغل بحنكة هذا النزوع الفرنسي هي واشنطن في تعاملها مع باريس. فهي تلعب معها لعبة الدغدغة والإغراء في الخطاب بينما تمارس معها الصرامة في الفعل).
 
ضمن "خارطة الطريق" هذه فإن العلاقة مع الرباط سيحكمها منطق براغماتي صرف. المقصود هو أن جماعة لوبين تدرك أن مغرب 2024 ليس هو مغرب القرن العشرين كله بمختلف مراحله ما قبل وما بعد الإستقلال. وأن عالم اليوم ليس هو عالم المئة سنة الماضية. بالتالي فهي أكثر إدراكا لما تنتظره الرباط من باريس بحسابات المصالح القومية العليا على القدر نفسه الذي تدرك أن أوراق المغرب أصلب من ذي قبل، لأنها مسنودة بتنويع في علاقاته الدولية بأفق إفريقي جديد وأطلسي جديد وآسيوي جديد. أن البنية التحتية لآلية الإنتاج الاقتصادية المغربية صارت مندمجة أكثر ضمن منظومة السوق العالمية بمقاييس حداثية أرسخ تحكمها توازنات المصالح العليا المتبادلة وأن محاور الرباط أصبحت متعددة (مدريد، لندن، برلين، واشنطن، بكين، تل أبيب، القدس، الرياض، أبوظبي، دكار، نواكشوط وكل عواصم دول الساحل الإفريقي).
 
بصيغة أكثر وضوحا، إذا كانت نخبة اليمين المتطرف بفرنسا تمتلك "خارطة طريق" واضحة فرنسيا، فإن المغرب هو المجال الدولتي الوحيد في عمقها المتوسطي والإفريقي الغربي والأطلسي المتوفر بدوره على "خارطة طريق" واضحة بالمعنى الجيو ستراتيجي. وفي حالات مماثلة يسلس التواصل بيسر أكبر من باقي المجالات المحيطة مغاربيا ومتوسطيا وإفريقيا بالنسبة لباريس المنتظرة تلك (التي قد تحملها صناديق الإقتراع إلى الحكم في هذه الدورة الانتخابية وقد تؤجلها مؤقتا فقط إلى الدورة الانتخابية الموالية).
 
هل هذا يعني أن علاقات الرباط وباريس في حال صعود اليمين المتطرف إلى الحكم لن تعرف مشاكل؟ بالعكس تماما، فلائحة الملفات المتوترة طويلة، في مقدمتها شكل تدبير ملف المهاجرين المغاربة بفرنسا، حيث ينتظر أن تصدر باريس إلى المغرب كل الشرائح التي تشكل عبئا أمنيا عليها، التي ستضاعف من أزمة البطالة في المغرب ومن مشاكل الجريمة المنظمة أكثر. سيكون من الوهم الإعتقاد أن فرنسا الجديدة تلك ستتخلص من شرائح المهندسين والأطباء ورجال القانون والصناعيين والتجار المغاربة المساهمين في منظومة تنمية فرنسا (وهؤلاء بالمناسبة كفاءات وطاقات وازنة تحتاجهم المغرب بقوة لم تنجح أبدا الرباط في استقطابهم للعودة إلى بلدهم الأصل)، بل إنها ستعمل بقوة على إغراق المغرب وباقي الفضاء المغاربي والإفريقي بكل من لم تسمح المنظومة التنموية الفرنسية (والثقافية أيضا) بإدماجهم ضمن النسيج القومي الفرنسي بقيم البلد الغربية المسيحية الديمقراطية. بالتالي ينتظر أن تصدر باريس إلينا كل عناصر التطرف التي نضجت عندها (وهذه فاتورة ثقيلة علينا مغربيا).
 
مثلما أنها ستكون مدافعا شرسا جدا عن استعادة الرأسمال الصناعي والعسكري والأمني والثقافي الفرنسي لمكانته المرجوة بالفضاء المغربي ضمن حساب فرنسي جديد متوسطيا وإفريقيا، بطموح فرملة اتساع النفوذ الإسباني والبريطاني والألماني ضمن النسيج التنموي بالمغرب. علما أن ما يهم باريس أكثر في هذا المجال هو تحقيق التوازن الأروبي مصالحيا ضمن الفضاء المتوسطي أكثر مما يهمها النفوذ الأمريكي أو الصيني أو الروسي به. فاستراتيجية نخبة اليمين المتطرف الفرنسية تراهن على أن تستعيد باريس دورها كبوابة مركزية للمغرب أروبيا (بكل ما يوفره ذلك من منطق وصاية في الخلفية الثاوية).
 
ما هو المقابل البراغماتي الذي ستمنحه حكومة اليمين المتطرف المنتظرة (المحتملة) للمغرب؟
منطق الأمور يذهب في اتجاه أنها ستكون أكثر جرأة في اتخاد ما يلزم من قرارات مرتبطة بالمصالح القومية العليا للمغرب كدولة ترابيا وأمنيا، على القدر نفسه الذي ستعيد ترتيب أوراق نفوذها الثقافي والحضاري ضمن منظومة صناعة النخب بالمغرب.
 
هذا كله يدفع بالمرء إلى القول (بغير قليل من التحفظ) ضمن سياق افتراض الإحتمالات القادمة أن علاقات المغرب بفرنسا توجد اليوم عند منعطف جديد غير مسبوق بمنطق النظام العالمي للقرن الواحد والعشرين. لأن ذلك مندرج ضمن باب أكبر لتحول تاريخي في فرنسا نفسها يقطع مع فرنسا دوغول بشكل نهائي (انتهى زمن فرنسا الحرة).
 
فبلاد مونتيسكيو تغير جلدها ك "أمة" ذات نزوع قومي عال، وأن ذلك سيغير شكل علاقاتها مع محيطها الأروبي ومع باقي العالم. هل ستكون الفاتورة عنيفة (أروبيا) كما جرت العادة في القرنين 19 و20، أم أن الأمر سيتم بمنطق التدافع السلمي بحساب "رابح رابح"، ذلك متروك للمستقبل ولمدى ذكاء نخب فرنسا الجديدة التي سيكون من الوهم الإعتقاد أنها بنزوعها "القومي الوطني" محصورة في خطاب ووجوه قادة حزب ماري لوبين، بل إنها ممتدة بعمق إلى المؤسسة العسكرية والأمنية وإلى النسيج المالي والصناعي والإقتصادي الفرنسي.