نبيل عادل: لماذا لا يخلق اقتصادنا الثروة وفرص العمل؟

نبيل عادل: لماذا لا يخلق اقتصادنا الثروة وفرص العمل؟ نبيل عادل، أستاذ الاقتصاد و الدراسات الجيوسياسية بالمدرسة العليا للتجارة والأعمال
لماذا لا يساهم الاقتصاد الوطني في خلق الثروة ومناصب الشغل؟ هل استنفذ النموذج الحالي للاقتصاد الوطني كل إمكانياته ولم يعد قادرا على الاستجابة لمتطلبات المغاربة والمغرب الحديث؟ ماهي العوامل التي تكبح عجلة نمو الاقتصاد الوطني؟
أمام الاختلالات التي طبعت سياسات الحكومة في التشغيل علما أن حكومة عزيز أخنوش تجاوزت نصف ولايتها ولم تفلح في تحقيق وعدها بخلق مليون منصب شغل، بل حتى تحقيق متوسط هذا الرقم.

"أنفاس بريس" فتحت هذا النقاش مع خبراء، ومحللين اقتصاديين، ننشر رأي البروفيسور نبيل عادل، أستاذ الاقتصاد و الدراسات الجيوسياسية بالمدرسة العليا للتجارة والأعمال:

 
حطم معدل البطالة رقماً قياسياً جديداً، حيث وصل وفقاً لآخر الإحصاءات الرسمية إلى 13.5%. وحسب مجموعة من المراقبين، فإن هذا الرقم قد يصل إلى 15% قبل نهاية الولاية الحالية لهذه الحكومة، مما يكشف عن عدم فعالية سياسات السيد عزيز أخنوش في التعامل مع هذا المشكل المستفحل الذي ينخر جسد المجتمع المغربي. هذا الوضع غير الصحي ينبئ بعواقب اجتماعية وخيمة، خاصة وأن السيد رئيس الحكومة رفع سقف التوقعات عندما وعد خلال حملته الانتخابية بخلق مليون منصب شغل.
 
بعد انتصاف حياة هذه الحكومة، أصبح هاجسها الوحيد الحفاظ على الوظائف الحالية، أما خلق فرص عمل جديدة فقد صلى عليها السيد أخنوش صلاة مودع. وإذا كان لهذه الحكومة أدنى حس من الواقعية، فإن وزراءها يعلمون علم اليقين أن الوقت فات لعكس المنحى التصاعدي للبطالة، وهو ما يجرنا للسؤال المنطقي الوحيد الذي يهم المغاربة: لماذا فشلت حكومة "الكفاءات" في خلق الثروة وتخفيض معدلات البطالة كما وعدتنا؟
 
قبل الإجابة على هذا التساؤل الملغوم، يجب التذكير بأن السياسات الاقتصادية تنقسم إلى سياسات ظرفية وسياسات هيكلية. الأولى تهدف إلى الرفع من مستوى الإنتاج الوطني على المدى القصير لخلق الثروة، مما ينعكس غالباً بالإيجاب على سوق العمل. أما الثانية فترمي إلى تهيئة وتحسين الظروف المناسبة لإنجاح الأولى. ما يُعاب على الحكومات المتعاقبة هو تركيزها على ما هو ظرفي وإهمالها لما هو هيكلي. ويمكن فهم ذلك في ظل أنظمة الحكم العصرية التي تركز على السياسات قصيرة المدى التي يمكن استغلال نتائجها انتخابياً. أما السياسات الطويلة الأمد، ففضلاً عن كونها غير مربحة سياسياً، فإنها تحتاج إلى شجاعة من نوع خاص قد تكلف مهندسيها شعبيتهم، ليجني ثمارها من سيأتون للحكومة بعدهم. ولنا عبرة في الإصلاحات التي قام بها المستشار الألماني غيرهارد شرودر والتي كلفته منصبه، لتستفيد منها بعد ذلك سيدة ألمانيا القوية أنجيلا ميركل.
 
في رأينا المتواضع، هناك أربع عوامل بنيوية تعيق إقلاع المغرب اقتصادياً، لم تستطع أي حكومة التعامل معها بنجاعة إما لعدم توفر الكفاءة الاقتصادية أو لانعدام الشجاعة السياسية.
 
تغول القطاع العام
على مدى ربع قرن من الزمن، كان النمو الاقتصادي في المغرب مدفوعاً بالاستثمار العام، وكانت فاتورة تحفيز الطلب الكلي هي رفع أجور القطاع العام كنوع من الرشوة السياسية أو شراء السلم الاجتماعي، مما نتج عنه نمو إسمي زائف. ذلك أن القطاع العام لا يخلق الثروة بل يعيد توزيعها عن طريق الضرائب التي يقتطعها من القطاع الخاص المنتج للثروة.
 
في الحالة المغربية، كانت الأمور أسوأ، إذ أن النمو الاقتصادي كان أضعف من إمكانية تمويل القطاع العام بالسخاء الذي عايشناه. وبالتالي لجأت الحكومات للاستدانة من أجل الالتزام بتعهداتها الاجتماعية. كانت هذه أسهل طريقة للهروب إلى الأمام. فعوض كبح جماح انتفاخ كلفة القطاع العام بما يسمح به نمونا الاقتصادي، أصبحت الحكومة الحالية توزع بكرم حاتمي الزيادات في الأجور عقب أتفه تظاهرة، مما سيثقل كاهل القطاع الخاص الذي سيتحمل الكلفة النهائية لهذا التهور في تدبير الإنفاق العمومي. خاصة وأنه كلما زاد اقتطاع الدولة من الناتج الوطني لتمويل إنفاقها، كلما قلت الموارد التي تبقى بين يدي القطاع الخاص من أجل خلق الثروة.
 
الضريبة الديموغرافية
إن النمو الاقتصادي على المدى المتوسط والبعيد رهين بعنصر العمل كوسيلة إنتاج مركزية، أي أنه مرتبط بعدد العمال مضروباً في متوسط إنتاجية كل عامل. في المغرب ومنذ الاستقلال إلى يومنا هذا، كان النمو الاقتصادي مدفوعًا بقاعدة عمالة كبيرة في حين ظلت الإنتاجية منخفضة جدًا لأسباب هيكلية معروفة للجميع. اليوم ومع تراجعنا الديموغرافي المهول، فإننا نؤدي الفاتورة مضاعفة. ذلك أن الانخفاض الكبير في معدل الخصوبة يؤثر سلباً على قاعدة العمل التي ترتفع ببطء شديد. إذا أضفنا لذلك ضعف إنتاجية الاقتصاد المغربي التي تعد من بين الأضعف في العالم والأخيرة على مستوى المغرب العربي، فإن هذا يؤدي حتماً إلى تباطؤ نمو الناتج الوطني وبالتالي ارتفاع مستويات العطالة، اللتان تبقيان رهينتان بما تجود به السماء من تساقطات مطرية تنقذ الموسم الفلاحي وتضع الاقتصاد الوطني في حالة تنفس اصطناعي ولو إلى حين.
 
ومن أعراض آفة ضعف الإنتاجية أن الحد الأدنى للأجور في المغرب (37,000 درهم في السنة) يقترب من نصيب الفرد من الناتج الداخلي (39,000 درهم في السنة). هذا الوضع الكارثي يعني ببساطة أن المغرب لا يحسن دخل مواطنيه إلا بقرار سياسي فقط وليس بخلق فعلي للثروة. إذ غالبًا ما يكون ضعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي انعكاسًا لمحدودية الإنتاجية، لا سيما في القطاعات الرئيسية بالنسبة لاقتصاد المغرب مثل الزراعة، الصناعة التقليدية وتجارة التجزئة والخدمات الأساسية، حيث الإنتاجية منخفضة بشكل عام. ويتفاقم هذا الوضع بسبب هيمنة القطاع غير المهيكل الذي يتسم بضعف الإنتاجية وتدني الأجور. ويؤثر انخفاض الإنتاجية تأثيراً مباشراً على نسب النمو وبالتالي على خلق فرص العمل وهكذا دواليك. ويتطلب كسر هذه الحلقة المفرغة استثمارًا كبيرًا في التعليم وتحسين مناخ الأعمال وتحديث البنى التحتية من أجل تعزيز الإنتاجية، وبالتالي رفع نسب النمو الاقتصادي ومعدلات التشغيل.
 
 بطء الدورة الاقتصادية
إن الناتج المحلي الإجمالي لأي بلد هو حاصل ضرب حجم المعاملات في متوسط قيمة كل معاملة. في الاقتصادات النامية التي يكون فيها غالباً متوسط قيمة المعاملات منخفضًا بسبب عدم كفاية الكثافة التكنولوجية وهيمنة العمالة غير المؤهلة، يمكن رفع مستوى الناتج القومي وزيادته من خلال تسريع وتيرة المعاملات. بمعنى آخر، عوض إبرام صفقة واحدة قيمتها مليون درهم في الشهر (منتج ذو محتوى تكنولوجي مرتفع)، يبرم اقتصاد صاعد عشر صفقات في الشهر بقيمة مئة ألف درهم (منتوجات متوسطة التعقيد).
 
في المغرب نقوم بصفقات منخفضة القيمة في آجال طويلة جداً. ذلك أننا نعاني من أوجه قصور هيكلية تبطئ بشكل كبير من وتيرة المعاملات والدورة الاقتصادية. أولها هو أن الجزء الأكبر من الطلب الداخلي مصدره القطاع العام، والذي غالبًا ما يتميز بآجال تنفيذ بطيئة جداً. والثاني هو ثقل الدورات الاقتصادية لشركاتنا (المدة الزمنية الفاصلة بين التنقيب عن طلبيات جديدة والحصول على ثمنها بعد إنجازها) والتي عادة ما تمتد لعدة أشهر أو لما يفوق السنة في عديد من الحالات. والثالث هو العدد الكبير من الانقطاعات في هذه الدورة الاقتصادية خلال السنة بسبب كثرة العطل والتوقفات. إذ لدينا 10 أيام في السنة كعطل وطنية مدفوعة الأجر ومثلها 8 أيام من العطل الدينية. ويعد المغرب من بين أكثر دول العالم استفادة من العطل بما مجموعه 18 يوماً، أي بفارق بسيط عن الرقم القياسي العالمي المسجل في الهند والذي يبلغ 21 يوماً. إضافة إلى أن شهر رمضان المعظم يتسم بانخفاض الإنتاجية، كما أن الحركة الاقتصادية تكاد تصاب بالشلل قبل وبعد عيد الأضحى في حين أن العطل السنوية في بلادنا تمتد سيكولوجياً من نهاية يونيو إلى منتصف شتنبر.
 
اقتصاد مغلق
يمكن تفسير صغر حجم اقتصادنا ونموه المتواضع بالتركيز القوي لنموذجنا التنموي على الاستهلاك المحلي والإنفاق العمومي. إذ تتنافس شركاتنا على نفس الكعكة المتواضعة أصلاً وهي السوق المحلية، والتي تنمو ببطء شديد نتيجة للعوامل التي أسلفنا تحليلها. لذلك فإن المقاولين الشباب يصطدمون بواقع عنيد، ألا وهو ضيق سوقنا المحلية، مما يعني أن عدداً أكبر من الشركات الناشئة والحالية تتصارع على سوق محلية متواضعة تنمو ببطء شديد. وهذا هو ما يفسر العدد المهول من الشركات التي تعلن سنوياً عن إفلاسها. في حين أن معظم الاقتصادات التي أقلعت اعتمدت بالأساس على التصدير والاستثمار الخاص وهو ما لم ننجح للأسف في تحقيقه، إذ تبقى الأنشطة التصديرية متواضعة جداً وجل الاستثمار منبعه ومصبه الدولة وليس القطاع الخاص المنتج للثروة.
 
بالنظر لما سبق، فإن وصفة الإقلاع الاقتصادي ليست مستحيلة، لكنها تستوجب الشجاعة السياسية للقيام بإصلاحات جذرية مؤلمة يدفع ثمنها جيل أو جيلان على الأقل، لكنها ستضع بلادنا على المسار الصحيح الذي لا رجوع بعده إلى الوراء.
 
فالقرارات الكبرى التي تغير مسارات الأمم لا يأخذها رجال يخافون على جلابيبهم من الاتساخ، بل يأخذها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. رجال أقوياء لا يبالون لشعبيتهم الانتخابية، بل يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه. رجال لا تهمهم صورتهم، بل ما سيقولون للعزيز الجبار عندم يجمعهم ليوم تشخص فيه الأبصار.