مرة أخرى، وأكررها بدون كلل، أعتقد أن الحالة التي تُجَسّدها جارتُنا الشرقية هي فعلاً في حاجة إلى وقفات مختلفة، من لدن المتتبعين وأهل الرأي والتحليل من جهة، وعلى أيدي الأخصّائيين الاجتماعيين وأخصّائيي الطب النفسي والعقلي من جهة ثانية، ثم من لدن الباحثين في شؤون السياسة عامةً، والسياسة الدولية والقانون الدستوري خاصةً، والباحثين في كل القوانين والمعاهدات والأعراف المتواضَع عليها، "دولياً" على الصعيد الرسمي للأنظمة والحكومات، و "عالمياً" على صعيد مؤسسات وهيئات المجتمعات المدنية في كل بلاد المعمور من جهة ثالثة!!
تعالوا لنَنْظُرَ ملياً إلى هذه الحالة من خلال مقابلات منطقية تُلامس مختلِفَ مجالات الحياة العامة في ذلك البلد، الواقف حاليا أمام باب مسدود، أو كما يُقال باللسان الدارج: "داخل فحيط":
1- تتوفّر الجزائر على أكبر مساحة جغرافية في القارة الإفريقية، بغض النظر عما سرقته فرنسا الاستعمارية والمنافقة من كلٍّ من المغرب وتونس وليبيا والنيجر ومالي وألْحَقَتْه بالخريطة الجزائرية بشكل أو بآخَر؛ وتتمتع بتضاريس متنوّعة لا تختلف خصوصاً عن مثيلاتها المغربية والتونسية؛ وتتوفر على فرشات مائية جوفية هائلة؛ وعلى أودية تشهد تهاطلات مطرية غير هيّنة لا تحتاج سوى إلى ترشيد الاستفادة منها بطرق الخزن والري المختلفة والمتاحة... وبالرغم من كل ذلك، يعيش القطاع الزراعي هناك أوسوأ أيامه، وخاصة منذ ارتكاب الهواري بومدين لمسيرته "الكحلة"، التي طرد فيها نحو 350 ألف مغربية ومغربي كان معظمهم يعمل في الفلاحة ويؤمّن للجزائر محاصيل لم يكن مزارعوها الكُسالى والأميون يستطيعون تحقيقها ولا في الأحلام... فلمّا غادر الفلاحون المغاربة المطرودون إناثاً وذكوراً تراب الجزائر، لم تعد أسواق هذه الأخيرة تَعرِضُ سوى قلة قليلة من المنتجات الفلاحية، كالجَزَر (الزرودية)، والخُرشُف والقوق (القرنون)، والليمون الحامض (القارس)، واختفت من أسواقها تقريبا محاصيل كالطماطم والبطاطس والبطاطا الحلوة والبصل واللفت بمختلف أشكاله وألوانه والبقول والقطنيات، وإن توفّر منها شيء فغالبا ما يكون ضئيل الأهمية كمّاً وكيفاً، ويكون تداولُه خاضعاً لحسابات السوق السوداء، ولمضاربات قصمت ظهر الفئات المتوسطة والمستضعفة!!
والحال أن وضعهم هذا يُذَكّر بالحالة التركية، في عهدٍ كانت تركيا فيه تَحمل وصفَ "الرجل المريض"، وكان الأتراك فيه يوصَمون بكل نعوت التكاسل والاتكالية والانهزامية!!
2- تتوفر الجزائر على ثروة من الغاز والنفط تَضَعُها ضمن صدارة الدول المنتجة والمصدّرة لهذين الذّهَبَيْن الأَسْوَدَيْن، وتُدِرُّ عليها مُعَدّلا سنوياً يُناهِز 300 إلى 500 مليار دولار، تُؤمّن لها رصيدا هائلا من العملة الصعبة بلغ في فترة من فترات رئاسة المرحوم بوتفليقة إلى ما بين 1500 و2000 مليار دولار، ولكنها لم تعرف كيف تستثمر هذه الثروة المهولة، ولا كيف تُنفِق منها، ويُقال داخل الجزائر نفسها إن نظامها المريض أنفق منها حوالي 600 مليار دولار على صنيعته البوليساريو، عن طريق فبركة جمهورية لقيطة، أسَّسَ لها نظامُ العساكر العجزة جيشاً من المرتزقة وسلّحه بمختلف أنواع العتاد الحربي خفيفِهِ وثقيلِهِ، ومازال يفعل، وفتح لها سفارات في بلدان كانت تحكمها أنظمة فاشية مرتشية دفعت لها الخزينة الجزائرية ملايير أخرى من الدولارات مقابل اعترافِها بذلك المسخ، وتخطّت ذلك كله إلى شراء ذمم أنظمة كثيرة في "فترةِ غفلةٍ إفريقيةٍ" لتُلحِق مَسْخَها اللقيط كعضو مؤسِّس بالاتحاد الإفريقي، الذي حل محل منظمة الوحدة الإفريقية... وكل ذلك، لم تَجْنِ الجزائرُ منه سوى الخسارات والخيبات، لأن إفريقيا وغيرها من الدول المعنية بهذه الحكاية بدأت تستفيق تباعاً، وأخذت تغيّر مساراتِها تباعاً، وتتحوّل تباعاً إلى أنظمة وطنية مُتَنَصِّلة من تبعات الحرب الباردة، التي كانت تيسّر مأمورية الجزائر في جرّ بلدان كثيرة من ذلك الصنف "الاشتراكَوي" إلى تلك القضية الخاسرة بكل المعايير، والمتمثلة في نزاعها المفتعل مع المغرب حول صحرائه الغربية... وبقيةُ القصة وتداعياتُها يَعرِفُها الجميع!!
3- سبق القول إن في الجزائر/القارة فُرشاتٍ مائيةً جوفيةً تضعها ضمن المراتب الخمس الأولى عربياً، فضلا عن أودية في البادية والصحراء تشهد تساقطات مطرية متفاوتة تحتاج إلى سدود لترشيد استغلالها، ولكن النظام الجزائري رغم هذا المعطى الطبيعي الخام، ورغم مئات الملايير من العملة الصعبة المتهاطلة سنوياً على خزينته العامة، والتي تُوَفَِر له فُرَصَ إقامة عشرات السدود، لم يُعِر أدنى التفاتٍ لشيء اسمه سياسة مائية، أو سدود أو نحوها، وبقي منشغلا بقضيته الوحيدة والخاسرة، المتمثلة في معاداة المغرب والمغاربة والسعي إلى تقسيم التراب المغربي لفصله عن صحرائه الغربية، بهدف تطويقه شرقاً وجنوباً، ولِقطعه بالتالي عن امتداده الإفريقي، ولو أدى ذلك إلى إفراغ الخزينة العامة والحيلولة دون تمتّع الشعب الجزائري المُغَيَّب ولو بجزء يسير من أرصدتها الفلكية، وهذا هو الذي استمر الحال عليه طيلة نصف قرن من الكيد للمغرب ليل نهار، فكانت النتيجة الحتمية، والمتوقعة، ما نشاهده اليوم من جوع وخَصاص في المواد الأساسية، ومن عطش إلى الماء، الشَّروب وغيره، طال صُغْرَيات مدن الجزائر وبواديها، ولم يَترُك كُبْرَياتِ حواضرِها بما فيها عاصمة البلاد، حتى صرنا نرى ونسمع عن مواطنين هناك لم يلمس الماء أجسادهم على مدار أيام، بل أسابيع، بل خلال شهورٍ بالكامل، كما هو الحال في منطقة تيارت، التي تحولت بسبب عطشها، البالغ أقصى درجات الخطورة، إلى أيقونةٍ للحزن والأسَى لا تَقِلُّ بؤساً وحزناً وشقاءً عن غزّةَ المتناثرةِ اوصالُها والجريحة!!!
4- من النتائج الحتمية أيضاً، والتي كانت بدورها متوقَّعة، إفساد النظام الجزائري للوِدِّ قضيتَه مع 90% من الدول العربية، التي يحكمها أَعلامٌ أكابِر مازالت تتجلّى فيهم وفي سلوكاتهم عزة العرب الأقحاح ونخوتِهم، ممن لم يَجِدوا أدنى حَرَجٍ في تذكير ذلك النظام "الفرنساوي" المنتحل للصفة المغاربية، العربية والأمازيغية، بمبدإ احترام أواصر الأخوة والجوار، وبما يُفترَض أن تُرتِّبَه تلك الأواصرُ من الواجبات تجاه المغرب تحديداً، فضلا عن الواجب الديني، وهو الأساس، والذي يبدو أن نظام العساكر العجزة لا يفقه فيه شيئا، ما دامت عناصرُه القياديةُ العُليا لا تُفكر ولا تخطِّطُ ولا تتَخذُ قراراتِها البائسةَ إلا وهي غارقة في حالات من السُكرِ الطافحِ لا تستفيق منها إلا لتدخل فيها من جديد!!!
والنتيجة؟ عزلة عربية قاتلة، تنضاف إلى الخيبات الدبلوماسية التي كرّس لها الاعتراف الصريح للولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا بمغربية الصحراء، وإقرار ألمانيا وهولندا وبلجيكا والبرتغال بمصداقية مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، دون أن تخرج عن دائرة هذه الدول فرنسا المنافقة، ودول أخرى "شرقأوروبية" غير قليلة وأخرى "أمريكولاتينية" كانت إلى وقت قريب محسوبة على الخندق الاشتراكي، السوفياتي سابقاً، فضلا عن 36 دولة إفريقية من أصل 54، في انتظار انضمام مجموعة أخرى من الدول الكبرى لهذا المنحى الإيجابي والداعم كبريطانيا... والبقية قادمة لا محالة.
5- لم يكن قد بقي أمام النظام الجزائري من المجالات التي يمكنه ان يلتمس فيها بعض العزاء لو أنه استطاع ترشيدها وعقلنة تدبيرها، إلا المجال الرياضي، الذي يبدو أن الشعب هناك بات مَهْوُوساً به إلى حد الجُنون، لولا أنّ ذلك النظام بصفاقته السياسية وتدنيه الأخلاقي أفسد هذا القطاع بدوره وقضى على آخر بصيص من الضوء، الذي كان يتراءى فيه للمتتبعين بفضل نجاحات رياضية لا يمكن إنكارُها، ومنها الصورة المضيئة التي قدّمتها كرة القدم بذلك البلد في المنافسات القارية والعالمية، حتى أن منتخبه استطاع الفوز ذات نهائيات عالمية على نظيره الألماني، وما أدراك ما المنتخب الألماني، واستطاع الفوز بكأس الأمم الإفريقية التي احتضنت مصرُ نهائياتِها برسم دورة 2019، ولكن ذلك لم يدم طويلا، لأن ذلك النظام الفاشل، الذي اجتهد في عسكرة الرياضة بكل فعالياتها وشُعَبِها، زاد على ذلك بأن جعلها مطيةً لسياسته الفاشلة، حتى رأينا فرقاً ومنتخبات جزائرية من خيرة شباب ذلك الجار تمارس الانتحار والإقصاء الذاتي، بأوامر عسكرية ومخابراتية ولماذا؟ لأنّ منافساتِها المغربيةَ يرتدي أفرادُها أقمصة مُزيَّنة بخريطة المغرب مشتملةً على أقاليمه الجنوبية!!!
بهذا الخَبَل المُريع والمفرط، استطاع ذلك النظام أن يقضي قضاءً مبرَما على آمال شباب الجزائر ذكوراً وإناثاً في الاستئثار بمواقعَ طليعيةٍ لا يُنكِر أحدٌ أنها كانت ستؤول إلى بطلات وأبطال جزائريين، ويكفينا للاستدلال على ذلك أن نذكّر بأن فريق اتحاد العاصمة مثلاً كان متوقّعاً أن يفوز للمرة الثانية على التوالي ببطولة إفريقيا للأندية البطلة، وكذلك الشأن بالنسبة للفريق الجزائري للإناث في رياضة الجمباز، الذي توجد على راسه فتاة يانعة سبق تتويجها بطلةً العالم في تلك الرياضة... وكما شهد العالم كله ذلك وشبع منه سخرية وتأسُّفاً، حرم العسكر هذه الطاقات الفتية من التألق، بل ألقى كَلٌكَلاً عظيما من الظلمة الحالكة والخيبة على مستقبلها الذي كان واعِداً، ولا غرابة ان تُبَثَّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي أخبارٌ مفادُها أن كثيرين من هؤلاء الفِتية والشباب إناثاً وذكوراً يتحيّنون الفُرَص للفرار إلى خارج وطنهم، الذي اجتهد نظامُه في تدمير مستقبلهم بسَبْق الإصرار والترصُّد!!!
نهايته، ما الذي تستطيع الجزائر فعله لإنقاذ نفسها من دمار مُبرَم يحيق بها على جميع المستويات؟
في نظري المتواضع، ليس هناك سوى حلٍّ واحدٍ لا ثاني له ولا ثالث:
1- أن تجلس الجزائر إلى طاولة المفاوضات مع المغرب وجهاً لوجه، ورأساً لرأس، بلا وساطات، وبلا أدنى خرافات من قَبيل جمهورية العَبَث؛
2- أن تُتبِع ذلك بتدابير تثبت حُسن نيتها، وفي مقدمتها بشكل خاص: نزع سلاح مرتزقة البوليساريو، وتفكيك كتائبها اللقيطة والمنحدرة من بلدان الجوار الإفريقي، ومن موريتانيا ومن الجزائر ذاتها، وكذلك من بقايا فلول المعارضة المغربية الراديكالية الغابرة، التي فرّت عناصرُها من قبضة أوفقير، أيام صولة الجنرال أوفقير، وخليفته أحمد الدليمي، وغيرهما؛
3- فتح الحدود مع المغرب شمالاً وشرقا وجنوباً، وترك الخيار لمحتجزي مخيمات الذل والعار بالحمادة كي يعودوا إلى مغربهم متى شاؤوا ذلك؛
4- إتْباع ذلك بالتباحُث فعلاً حول فك الارتباط والتداخل الجغرافيَيْن شرقاً وجنوباً بإعادة الأراضي التي سرقتها فرنسا المنافقة، والتي وصفها بيدقها بنبلة بكونها "هدية كريمة لا يليق ردّها"؛
5- وأخيراً، الدخول بعد كل ذلك في البحث المشترَك للدعوة إلى انعقاد دورة استثنائية لقمة دول الاتحاد المغاربي بحضور جمهورية مصر العربية للشروع في تجديد دماء هذا الاتحاد، الشمال إفريقي، وبعثه من جديد وهو أكثر اتساعا، وأكبر حجماً، وأشدّ قوةً وقدرةً على ربح كل التحديات...
هذا إذَنْ في نظري المتواضع هو الحل الأوحد، الذي مازالت فُرَصُهُ مُتاحةً أمام الجزائر، نظاماً ودولةً وشعباً، وإلا فإن هذه الثلاثية ستكون مرشحة بالكامل، وأكثر من أي وقت مضى، للانتهاء إلى مزبلة التاريخ، وبشكل نهائي لا رجعة فيه... ... ...
اللهم إنّي قد بلّغتُ فاشْهَد!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي