رغم الهزائم المتكرّرة التي تعرض لها تنظيم "داعش" في أكثر من مكان، ورغم القبضة الأمنية القوية التي أصابته في مقتل، وشلت الكثير من قدراته الإرهابية، فإن لا شيء يثبت أن مقاتليه وضعوا السلاح، وتراجعوا نحو حدود النار في المواقع المشتعلة، وخاصة في ليبيا ودول الساحل، رغم حرمانهم من أي إمكانية للتقدم المريح أو التغلغل عميقا داخل الأراضي التي ترعاها أجهزة الأمن أو الجيوش النظامية، مما يشكل هزيمة عسكرية وجيوسياسية لهذا التنظيم الإرهابي الذي أصبح يراهن على بعض خلاياه النائمة أو فلوله العائدة إلى الأوطان أو ذئابه المنفردة.
هذا هو الرهان الذي تضعه أجهزة الأمن المغربية، وعلى رأسها الديستي وذراعه القوي «البسيج»، على الطاولة دون أي إغفال أو تراخي، ما دام التنظيم يسعى جاهدا إلى إعادة تأهيل نفسه عسكريا من جديد، على أمل تسخير مجنديه ضد رموز الدولة ومؤسساتها.
لم تيأس «دولة الخلافة» المفترى عليها من السعي إلى الحل الحربي من أجل احتلال موقع السلطة والقرار، على المستوى الأمني والعسكري، والتنافس على وضع اليد على الموارد الاقتصادية للمغرب، كما لم تيأس من تحويل جزء من التراب المغربي إلى حاضنة اجتماعية يقصدها الإرهابيون متعددو الجنسيات، وليس أدل على ذلك من التقارير الدولية التي تؤكد أن جماعة البوليساريو تضخ عناصرها في قلب هذا التنظيم الإرهابي لزعزعة استقرار المغرب، لولا جاهزية العناصر الأمنية المغربية ويقظتها، ونجاحها في إحباط العديد من العمليات الإرهابية وتفكيك العديد من الخلايا الدموية. إذ تمكن «البسيج»، على سبيل المثال، منذ إنشائه إلى متم 2023، من تفكيك 91 خلية «85 تابعة لداعش»، منها 21 خلية (سنة 2015)؛ 19 خلية (سنة 2016)؛ 9 خلايا (2017)؛ 11 خلية (سنة 2018)؛ 14 خلية (سنة 2019)؛ 8 خلايا (سنة 2020)؛ 4 خلايا (سنة 2021)؛ خليتان (سنة 2022)؛ 3 خلايا سنة 2023 كما تمكن إلى خلال هذه السنة «إلى حدود 6 يونيو 2024»، من تفكيك 5 خلايا.
إن تواتر هذه العمليات الأمنية الاستباقية، يؤكد أن المغرب لم يخرج كليا من النفق المظلم للإرهاب فيه، وأن «داعش» تعمل على قدم وساق من أجل استرجاع أنفاسها، وأن العودة إلى القتال من خلال وحدات إرهابية صغيرة، أو «ذئاب» انفرادية، في هذه المدينة أو تلك، أو تلك القرى وذاك الإقليم، مسألة لا مجال للاطمئنان إلى خمودها، أو القول بخفوت اتقادها لدى فئة ضالة تحلم بالجنة وتعتبر أن التطور الطبيعي للجهاد هو ارتداء الحزام الناسف وتفجيره في وجه الأبرياء، من أجل تأكيد تبعيتهم «لخليفة المسلمين»، وتحويل المغرب إلى مناطق نفوذ لهذه الخلافة!
ومع ذلك، تؤكد المؤشرات الأمنية أن هذا التواتر في العمليات الأمنية ضد «داعش» وضد كل التنظيمات المتطرفة، لا يشكل أي مصدر للقلق ما دامت أجهزة الأمن المغربية، لديها القوة والحنكة اللازمتان لاستباق أي تهديد وإخماده في مهده بشكل ممنهج وواضح، مما يؤكد أن عناصر الأمن تعمل بدون كلل وبجد وثقة، لأنها تدرك أن الحرب على الإرهاب طويلة الأمد، ولا مجال لقطع التواصل مع ما يجري في صفوف الجماعات الإرهابية التي تنشط في ليبيا او تندوف أو الصحراء الكبرى، أو حتى في أوروبا، على أساس تقوية الشوكة، وتوفير الوسائل لتجنيد جيش قوي من المتطرفين الاستحلاليين، المحليين أو الأجانب، للانتقام من الأنظمة «الكافرة» وتخوين رموزها وتحويلهم إلى أهداف يحل قتلها.
فبالتزامن مع الإعلان عن عملية يوم الخميس 6 يونيو 2024 التي قادت إلى اعتقال 4 أشخاص بكل من مدن سلا وطنجة وتطوان، خططوا لعمليات إرهابية بالغة الخطورة تستهدف منشآت حيوية وحساسة، قضت المحكمة المركزية للتحقيقات رقم 5 التابعة للمحكمة الوطنية الإسبانية، بسجن مغربي يبلغ من العمر 38 سنة، اعتقلته شرطة أليكانتي بتعاون مع «الديستي»، ووجهت له المحكمة تهمة نشر مضامين جهادية والتواصل مع معتقلين آخرين موقوفين في جرائم الإرهاب في المغرب وإسبانيا، وكذا في مناطق النزاع بسوريا والعراق، مما يؤكد الخطر الإرهابي لا يترك أي مساحة فارغة دون أن يحاول استغلالها. كما يؤكد أن هزيمة «داعش» في معاقلها التقليدية، لم تشمل ركائزها الإيديولوجية التي تحتشد في رؤوس أعضائها وذئابها المنفردة.
لقد تبين، في أكثر من مناسبة، أن المقاربة المغربية في مكافحة الإرهاب، أصبحت محط اهتمام من طرف أبرز أجهزة الأمن في العالم، الأمر الذي يفسر انخفاض منسوب تكاثر الخلايا، كما يفسر تمكن المغرب من اختراق التنظيمات الإرهابية التي وضعته على رأس قائمة الدولة المستهدفة، بل يفسر تحوله إلى وجهة أمنية منخرطة على نحو لامشروط في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، في كل مكان، لما يمثله الإرهاب من تحدي كبير بالنسبة لجميع دول العالم.
إن تواتر العمليات الاستباقية التي تقوم بها أجهزة الأمن المغربي، على مدى سنوات من العمل الاحترافي الدؤوب، تشير إلى أمر واحد، ألا وهو انتزاعه لهوية قارة وموثوقة للوقاية من الضربات الإرهابية، وليس على ذلك من الاعتراف الدولي الذي حازته الأجهزة الأمنية المغربية من مختلف أجهزة الدول التي لها باع طويل في محاربة الإرهاب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى إسبانيا التي تربطها بالمغرب ملفات شائكة، تتعلق بمحاربة الإرهاب والهجرة غير الشرعية والمخدرات والجريمة المنظمة بمختلف أشكالها.
لقد راكم المغرب، إذن، نجاحاته الأمنية التي يواصلها بدأب على أكثر من صعيد، إذ لا يكتفي بحدوده الجغرافية، بل تمكن من بناء جسر للتعاون الدولي، وتمتين خطوط الاتصال الأمني مع الكثير من الدول، لمجابهة جميع الأنشطة العدوانية التي تستهدف هذا الدولة أو تلك. كما تمكن، منذ تكليف عبد اللطيف الحموشي بالقطب الأمني، بعد تعيينه مديرا عاما للأمن الوطني سنة 2015 وحتى الآن، من تفكيك 95 خلية إرهابية، ما يؤكد المهنية العالية في تنزيل إستراتيجية الأمن الاستباقي ضد الإرهاب والتطرف، والتي بدأها الحموشي منذ تعيينه مدير لجهاز «الديستي» سنة 2005.