ألقى المفكر المغربي عبد الصمد الكباص محاضرة في جامعة محمد السادس متعددة التقنيات بمدينة بن جرير، في إطار أشغال مؤتمر الدراسات الثقافية الذي نظمه مركز الدرسات الإفريقية مؤخرا ، تحت إشراف الفيلسوف علي بن مخلوف و البروفيسور طارق صبري من جامعة ويستمنستر بلندن.
في المحاضرة التي حملت عنوان: ” الصورة والصوت والكتابة، التكنولوجيا آخر الجسد”، أكد الكباص أن الجسد يشكل انتقالا في سيرورة الحياة، ارتبطت بالتشكيل الثقافي للطبيعة التي حولت الحياة إلى حياة إنسانية. موضحا أن الجسد بنية تجاوز الحياة لأنه يبتكر غايات تتجاوز غاياتها، مثلما يشارك في إنتاج العالم وتغلفه بكثافاتها الرمزية.
واعتبر عبد الصمد الكباص أنه إذا كان بإمكاننا أن نميز الإنسان باعتباره كائنا يوميا، فذلك لأن الإنسان هو الوحيد الذي يحظى بجسد من دون باقي الكائنات الحية، وجسده هذا هو الذي يعقد أساس التمفصلات اللازمة لإنتاج اليومي الذي يستلزم مهارات في الحياة مستندة لمنطق الرغبة و سيولات الذاكرة و ابتكارات الخيال، مثلما يستدعي تكتيكات خاصة لكي يجلب إمكانا ما إلى دائرة اليومي انطلاقا من منطق الاستعمال.
وقال في هذا الصدد “علينا أن نتذكر الدرس الأنثروبولوجي المترتب عن قيمة دفن الموتى لدى الكائن البشري وارتباطه بالكثافة الرمزية للجسد باعتباره علامة لما يفوقه. "الجسد فعل، وكل فعل يرسي تعاقدا مع الآخر، و ينسج شكلا لممارسة المكان، و أسلوبا في استهلاك الزمن. وبهذا يصبح الجسد هو المكان الذي يُدوّن الانتقال إلى الآخر.”
وأكد الكباص في محاضرته أن اليومي يشير إلى استجابة لوضعية الإنسان باعتباره كائنا قادرا على تمييز حاجياته ورغباته، و هذه الاستجابة تتحقق كقاعدة للاستهلاك كفعل منتج، و كإبداع ومهارة وأسلوب. مبرزا أنه في أساس هذه العملية يوجد استهلاك الزمن، و تحويل دماره إلى ذاكرة لاحمة للوجود مع الغير مع تفعيل الأداء السردي للحياة، التي هي في قاعدتها حياة جسد. واستنادا إلى هده الرؤية اقترح تعريقا لليومي باعتباره حاضرا تجره توقعات المستقبل و تدفعه الذاكرة.
وأضاف الكباص قائلا ” االجسد فعل، وكل فعل يرسي تعاقدا مع الآخر، و ينسج شكلا لممارسة المكان، و أسلوبا في استهلاك الزمن. وبهذا يصبح الجسد هو المكان الذي يُدوّن الانتقال إلى الآخر.” متسائلا ” اي معنى يمكن الاحتفاظ به للطريق إن لم يكن الحاجة إلى التواجد في مكان آخر؟ّ و اي معنى للسكن الخاص إن لم يكن الحاجة في الإبقاء على مسافة مع الآخر تسمح باستضافته مع الإبقاء على وضعه كضيف و ليس كصاحب بيت، أي متملك لكثافته الرمزية المتعلقة بذاكرة الجسد الذي يستخدمه وحميميته؟”.
وقال الكباص إن الحواس هي المواقع التي تتمفصل فيها الحياة اليومية، مؤكدا أن الجسد يجرب وجوده باعتباره موضعا لحدوث العالم فيها. فأن نرى و نسمع ونشم و نتذوق و نلمس، ليس شيئا آخر أكثر من فتح مساحة لتجريب ما يمكنه أن يكونه العالم كجسد. وفي هذه العملية تتحقق الأبنية الثقافية التي تتشكل فيها الحياة باعتبارها منتوجا أنثروبولوجيا، اي كحصيلة لعمل بشري متحرر من هاجس البقاء. والإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي طور غريزة مضادة للطبيعة، سماها بالثقافة. ترتبط هذه الوضعية بما يمثله الإنسان بوصفه كائنا لا يناسب طبيعته، فما يتوقع من نفسه أكبر دائما مما يمكن لطبيعته أن تحققه له. إن طبيعته خيبة تأسيسية بالنسبة له
واعتبر الكباص أنه يطرح علاقة الصورة والصوت و الكتابة والتكنولوجيا، باعتبارها تخص طرق تجريب الجسد لوجوده كموضع لحدوث العالم. مقدما في هذا الصدد مسلمة ينطلق منها، و فرضية يعرضها للاختبار.
بالنسبة للمسلمة قال الكباص إنها تتمثل في كون الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي طور غريزة مضادة للطبيعة، سماها بالثقافة. ترتبط هذه الوضعية بما يمثله الإنسان بوصفه كائنا لا يناسب طبيعته، فما يتوقع من نفسه أكبر دائما مما يمكن لطبيعته أن تحققه له. إن طبيعته خيبة تأسيسية بالنسبة له، لذلك فالمضاعفة تشكل استجابة لوضعه الانتهاكي، فهو لا يكتفي بالاستمتاع والمعاناة، و إنما يضاعفه في رغبته في الكلام، و لا يكتفي بالأشياء، بل يخلق الصور و يمنحها واقعا، ولا تشبعه المادة بل يحولها إلى مجرد بداية في مسلسل رمزي لا حدود له. مؤكدا أن حرب الإنسان ضد طبيعته، انتقلت إلى حرب شاملة يخوضها ضد الطبيعة بعامة.
أما الفرضية التي يسعى إلى اختبارها فتتمثل في كون إعادة تعريف الثقافة بوصفها صراع حواس. إنها نتيجة للخصام الذي يخوضه الجسد بين حواسه، و الحاسة المهيمنة هي التي تطبع ثقافة كل عصر. و اعتمد كمدخل لاختباره هذا، التباين ما بين الثقافات ما قبل الحداثية والثقافة الحداثية. وقال في هذا السياق” بالنسبة للديانات التوحيدية، كانت الأذن مفتاح الإشباع باليقين، و كان الصوت(عن طريق الوحي) هو حامل الحقيقة. ما هو جدير بالتصديق هو ما يسمع وليس ما يرى. فكانت الحقيقة الأسمى حقيقة سمعية، مثلما كان الصوت مجال الإذعان لها، لأنه رسالة تَعْبُرُ مسافات الأزمنة و تصل المحدود باللامحدود. والانبثاق الأول للمقدس هو انبثاق سمعي في هذه الديانات، لذلك فالمؤمن الحقيقي فيها يكتفي بما سمع يقينا، و لا يطلب إثبابا مرئيا عنه.
وأكد في نفس المسار، أن الصوت في هذه الحالة هو حامل اللامحدود الذي لا سيطرة عليه ، الذي تصبح في ظله النظرة مقموعة بالتناهي المسيطر عليه حسيا، في حين أن ما هو مسيطر عليه لا يمكن أن يكون مقدسا، إلا إذا كان علامة لما يفوقه. وبالمقابل فالصوت يبدو أنه كيان غير مادي، عنصر من الروح الكبيرة التي توجد في الهناك البعيد، الأكبر من كل مكان قد نتصوره، والتي تنفذ إلى أعماق أرواحنا الصغيرة.
هذه الثقافة هي حصيلة صراع بين الحواس حسمت انطلاقا من الهيمنة التي منحت للصوت كقوة إذعان متعلقة بإرادة السماع التي يتوقف عليها الوصول إلى الحقيقة.
ولإيضاح فكرته أورد كمثال القرآن قائلا ” الكتاب في الثقافة العربية الإسلامية، كان يدل على متن شفوي معد للسمع. و لذلك عندما أراد علماء القرآن تعريف هذا الأخير قالوا بالحرف إنه كلام الله المتعبد به لفظا و معنى. أي أن احترام عنصره الصوتي جوهر اساسي من تقديسه، هذا التعريف كان مأسسة عقائدية لانتصار السمع على النظرة، من خلال ترسيخ السلطة الروحية للمؤدى صوتيا. بل إن القرآن وقد صار مصحفا بعد جمعه ظل كتابا يتكلم، وينصت له.” وما يتمخض عن هذا الوضع، حسب الكباص، هو أن هذه الثقافة هي حصيلة صراع بين الحواس حسمت انطلاقا من الهيمنة التي منحت للصوت كقوة إذعان متعلقة بإرادة السماع التي يتوقف عليها الوصول إلى الحقيقة. علما بأن هذا الصراع، الذي انتهى ضد النظر و العين، يتعلق بالمبدأ الذي انطلاق منه يمكن لعصر ما أن يحدد آليات إنتاج الحقيقة والتعرف على الواقع وتبرير السلطة.
وعندما ننتقل إلى الأزمنة الحديثة، يقول الكباص في محاضرته، سنجد أن الحداثة ارتكزت على تفعيل المهمة التأسيسية للعين في بناء الثقافة، أي تحديد العالم الإنساني. فلم يعد للأذن و السمع سلطة أكبر في تحديد و كشف ما هو حقيقي على حساب ما هو مرئي. و بعد أن كان الصوت مشبعا باليقين و السمع حامل اللامحدود، صارت النظرة مشبعة بمعقولية موضوعية مطلوبة. فأضحى على إنسان الأزمنة الحديثة أن يتوغل في العالم بعينيه، وأن يكون للمعرفة مقابل جديد هو معرفة رؤية الأشياء، وهو الوضع الذي وجد تأويله الابستيمولوجي في التثمين الميتودولوجي للملاحظة باعتباها خطوة اساسية في مسار بناء الرصد العلمي لظواهر العالم، و التي لا يمكن فصلها عن المعاينة أي القياس استنادا لما تقرأه العين.
وقال الكباص، إن ليوناردو دافنشي كان أحد الفاتحين المبكرين لهذا المسار، فقد اعتبر في كتابه فن التصوير ـ متحدثا عن الفلك ـ أن قدراتنا في النظر ستوسع المكان. فكانت النتيجة توسع ثلاثي، الأول ميكروسكوبي باكتشاف عالم مجهري كبير في الوحدات الأشد صغرا، و الثاني ماكروسكوبي بتوسيع المكان الكبير فلكيا، باستكشاف الفضاء. لكن حدثت نتيجة لم تكن منتظرة من قبل دافنشي، تهم التوسيع الثالث، و جاءت من تطورات القدرة في النظر في أرجاء الكون فلكيا. وهي أن علم الفك، يعلمنا اليوم، أنه كلما تغيرت وسيلة النظر تغير ما يرى، مثلما يعلمنا أنه كلما نظرنا أبعد توغلنا أكثر في الماضي. أي أنه بقدرما نرى أبعد بوسائلنا التلسكوبية، بقدرما نعود أكثر إلى ماضي الكون و التعامل مع ذاكرته. و يعني ذلك توسيعا غير متوقع للزمن.
وخلص الكباص من التحليل أعلاه، أن الحداثة كثقافة ترسخت انطلاقا من حسم الصراع بين الحواس لفائدة النظر. معتبرا ذلك مقدمة لتحليل أثر هذه الخلاصة على ممارسات الصورة والصوت و الكتابة. حيث اعتبر هذه الأخيرة ممارسة للمكان، إنها اسغلال تعاقبي للمكان، إذ لا كتابة دون تقدم في المكان، لذلك كان المشي كتابة بوسيلة أخرى. و أضاف في نفس السياق أن الكتابة تمفصل بين الجسد و المكان، عبر تفعيل تكنولوجيا الكلمات. للتدليل على ذلك استدعى تصور جون فرانسوا ليوتار، الذي يقول إن القراءة هي كنس بصري للحروف، أما المعنى فلا يحصل إلا سمعيا. ليستخلص الكباص من ذلك، أن الكتابة هدنة مؤقتة بين العين والأذن وتلطيف للصراع بينهما ، للانتصار لما يتحدى الزمن، اي المُدوَن الذي يدل على الجسد وهشاشته.
وتوغلت محاضرة المفكر عبد الصمد الكباص في مناطق شائكة تخص ترحالا بين الصوت و الصورة و الكتابة في ظل المنعطف التكنولوجي، مشددا على ضرورة فصل التكنولوجيا عن مفهوم الأداة، لأنها ليست وسيلة و إنما بيئة شاملة نشكل امتدادا لها، إلى حد أن الجسد أضحى في حد ذاته تشغيلا تكنولوجيا.
” نلاحظ أن حديثنا استحزذ عليه الصراع ما بين السمع و النظر، وماذا عن الحواس الأخرى:كاللمس والذوق والشم؟”
واستحضر مرة أخرى ممارسات الكتابة وتحولاتها العميقة في ظل المنعطف التكنولوجي، مقارنا بين الكتابة بخط اليد على الورقة كمكان نصي،بين الكتابة على مفاتيح الحاسوب حيث يتحقق النص على الشاشة، مبرزا من خلال ذلك أنه في الوقت الذي تكون فيه الكتابة بخط اليد امتدادا للجسد تحمل اثره الشخصي وعثراته و قوة تركيزه وضعفه وارتعاشاته، أي موسومة بهشاشته، حيث يكون النص جسدا آخر، نجد أن الكتابة على لوح الحاسوب، تؤسس لفصل وجودي بين الجسد و النص، فهما مفصولان ببرمجيات لا يتحكم فيه ، و ينشأ النص بحروف محايدة لا أثر فيها لجسد من يكتب، و الأكثر من ذلك فهما لا يتقاسمان ذات المكان. الجسد هنا في مكان مجرب وحي، و النص هناك في مكان لا يمكن تحديده، يحلق في فضاء آخر، يحضر حينما نسندعيه، و يختفي حينما نغلقه، إنه عنصر ضمن شاشة سائلة. و النتيجة التي نحصل عليها هي فقدان ما أسماه ب”ميتافيزيقا المخطوط”، التي ارتكز عليها عصر الكتابة باليد، باعتبارها جسد يجرب نفسه في الحروف، وهي ميتافيزيقا مبنية على افتراض أن للنص غرافيا، ألغاز وأسرار و تاريخ تكشفه العثرات و لطخات المداد والتشطيبات و الجمل المعادة و الكلمات المضافة بين السطور. إنه نص يدل على تطوره، مثلما يدل أداء الكتابة حروفيا على مزاج الجسد الذي كتبه وحميميته ورغبته.وفي سياق اختبار فرضيته” الثقافة صراع حواس” ومآلاتها في المنعطف التكنولوجي، تساءل الكباص قائلا” نلاحظ أن حديثنا استحزذ عليه الصراع ما بين السمع و النظر، وماذا عن الحواس الأخرى: كاللمس والذوق والشم؟” و استحضر في سياق إجابته عن هذا السؤال تصنيف الحواس لدى كانط في الانثروبوجيا، والتباين الذي ظهر مع الفيلسوف الفرنسي رافيسون وميرلوبونتي بين النظر واللمس. مستخلصا، من خلال مناقشة متشعبة لقدرات النظر و السمع والكتابة في ظل الممارسات التي فرضها الميديوم الشامل، أن التكنولوجيا أملت تعديلاتها الخاصة على مدار هذا الصراع بين الحواس. مؤكدا أن التكنولوجيا الذكية بفرضها للشاشات الملساء كمجال مستحوذ على فرصة ظهور العالم وتحصيله، أملت تغييرا جذريا في علاقة الحواس وصراعها. حيث دفعت الإنسان إلى إعادة ابتكار حاسته الرهيفة. و أرست منطقا بديلا مفاده: أن ترى هو أن تكون قادرا على اللمس. مشددا أن هذا الوضع يشكل مقطعا جد مؤقت في مسار تاريخ طويل موسوم، ليس فقط بصراع الحواس، وإنما بدرجة القمع التي تمارسه اتجاه بعضها البعض. وهو القمع الذي يحدد ما نكونه في قلب الثقافة التي نحيا بها.
شارك في هذا المؤتمر عدد من المختصين في الدراسات الثقافية المغربية و الفلاسفة كسعيد الرداد ومحمد الزرورة ومريم الهيتمي ومولاي ادريس معروف وادريس كسيكس وسعاد الدوادة وجمال باحماد وسعيد كريويد ومريم لوكريني وعلي بن مخلوف وطارق صبري وحسن أوزال وعبد الصمد الكباص.