من وحي الذاكرة: لعبة "بُوهَيْرُوسْ" التي جمعت بين فنون التّْبَوْرِيدَةْ والريّاضة والألعاب والثقافة الشعبية

من وحي الذاكرة: لعبة "بُوهَيْرُوسْ" التي جمعت بين فنون التّْبَوْرِيدَةْ والريّاضة والألعاب والثقافة الشعبية الزميل أحمد فردوس ومشهد لفارس مغربي

تعتبر رياضة لعبة "بُوهَيْرُوسْ" من الألعاب الشعبية الأصيلة التي عشقها الفارس، والفلّاح، والكسّاب المغربي قديما، لعبة شعبية جميلة ضاربة بجذورها في تربة القبائل المغربية، والتي كان يتم التخطيط لمراحل الإعداد لها، وتجهيز عدّتها، وآلياتها البشرية، ومقوماتها المادية واللامادية، قبل وبعد الاحتفال بمناسبة "عِيدْ الَكْبِيرْ" عيد الأضحى، على اعتبار أنها وفق ـ الرواية الشفهية ـ كانت تعتمد في تطبيق قوانين منافساتها ميدانيا، على أذكى وأقوى وأشجع فرسان بعض القبائل المغربية وأمهرهم، ممن خبروا ركوب صهوة الخيول السّريعة الرّكض، القادرة على المناورة، والاستجابة للفارس البطل في الكر والفر واستكشاف الميادين. لذلك سأصنف لعبة "بُوهَيْرُوسْ" كلعبة شعبية ضمن الألعاب التراثية بحكم أنها تُعَدُّ موروثا ثقافيا شعبيا مغربيا أصيلا يجمع بين قيم الدفاع عن الأرض والعرض، كونها تجمع بين مفاهيم النخوة والشهامة والشجاعة والكرم وروابط الدم وحسن الجوار.

 

من لعبة ـ سّْبَعْ بُو لَبْطَايَنْ ـ إلى لعبة "بُوهَيْرُوسْ"

 

حسب التقاليد والعادات والطقوس الشعبية المغربية ذات الصلة، فقد كان يتم تنظيم هذه اللعبة بعد إقامة مساء يوم عيد الأضحى بمجموع تراب المجالات الجغرافية القروية، لعبة أخرى لها من الإحالات والرموز والدلالات المرتبطة بعدة معتقدات وتمثلات، وهي لعبة يمكن تصنيفها ضمن العروض المسرحية الفرجوية المتنقل التي تجمع بين ما هو أسطوري وديني، وبين صناعة الفرجة، والحركة والإيقاع والرقص والغناء، وهي المعروفة بلعبة ـ سّْبَعْ بُو لَبْطَايَنْ ـ الذي ترافقه شخصيات أخرى لها دلالاتها ورموزها في المخيال الشعبي.

 

زمن وتوقيت اللعبة الشعبية "بُوهَيْرُوسْ"

 

زمن اللعبة الشعبية "بُوهَيْرُوسْ" محدد لدى أغلب الشرائح الاجتماعية التي دأبت على ممارستها ببعض القبائل المغربية، وخصوصا في البادية كقبيلة "الشّْيَاظْمَةْ" بحلول اليوم الثاني بعد نحر كبش العيد، وكانت تقام المنافسة الميدانية لهذه اللعبة بشكل جماعي بين تجمُّعين سكنيين قريبين ومتجاورين، (دَوَّارَيْنِ) أو (قَبِيلَتَيْنِ)، تربط بينهما عدة خصوصيات إنسانية وثقافية وأعراف وتقاليد، إلى جانب الروابط الاجتماعية والاقتصادية مثل: القرابة العائلية والنسب، والمصاهرة والأعمال الفلاحية والزراعية المشتركة أو تقاسم مياه الرّي.

 

"بُوهَيْرُوسْ" لعبة تعتمد على سلاح "صُرَّةْ" بقيا العظام التي يجب التخلّص من شرّها

 

من بين الأسلحة الأساسية التي كان يعتمد عليها المتنافسين في لعبة "بُوهَيْرُوسْ" الشعبية، هي بقايا عظام رأس الخروف والكتف، التي يتم جمعها بعد تناول وجبة شهية في بيوت كل ساكنة الدوار، حيث يتم تحضير وإعداد أطباقها التي يتّم طهيها وسط آنية تسمى بـ "الْكَسْكَاسْ" بواسطة بخار المياه الممزوجة بالتّوابل المطلوبة في هذا النوع من الطّبخ المغربي، مثل لَبْزَارْ والْكَمُّونْ، والثُّومْ والْبَصَلْ والْقُزْبَرْ والْمَقْدُونِسْ، أو إعداد لحمة الكتف والرأس بوجبة طعام الْكُسْكُسْ المغربي التراثي. على اعتبار أن سلاح بقايا تلك العظام هي سِرُّ اللعبة الشعبية "بُوهَيْرُوسْ" بحيث يتم جمع العظام وصَرَّهَا داخل قماش أبيض من نوع ثوب "حَيَاتِي" كنفايات عظمية وجب التخلص من شَرِّهَا، ورميها في وسط الدوّار المنافس، ويتكفل أحد شباب الدوّار / القبيلة برميها داخل التجمع السكاني/الخصم في اللعبة، والذي يكون سكانه على علم ودراية بتوقيت الهجوم وتنفيذ المكيدة، ومستعدين لكل احتمالاتها الميدانية.

 

ما هي شروط الاستعداد لتنفيذ للعبة "بُوهَيْرُوسْ" الشّعبية؟

 

طبعا، تكون المداولات بين كبار القوم وأفراد القبيلة والدوّار، قد تم الحسم من خلالها وأفرزت مجموعة من القرارات، ويتمّ استقرار الرّأي، على الاختيار الصائب بالنسبة لأقوى فارس من الشّباب، وأمهرهم وأذكاهم في المناورة والدهاء والخبرة في ميدان ركوب الخيل، حيث من الواجب والمفروض أن يكون على دراية كبيرة بمداخل ومخارج ومسالك وطرقات الدوّار/ القبيلة/ الخصم المستهدف في اللعبة الشعبية "بُوهَيْرُوسْ".

 

1 ـ دراسة ميدان المناورة وتنفيذ اللعبة

 

 من المعلوم على مستوى ميدان النزّال والكرِّ والفرِّ، فإن المسالك الطرقية التي سيمر منها حصان الفارس /البطل، تكون في غالب الأحيان ضيقة ومحاطة بنباتات الصبّار، ومن الممكن أن توضع فيها كمائن للإيقاع بالعدو المفترض من طرف الخصم.

 

2 ـ مواصفات الفارس المتطوع لتنفيذ الهجوم

 

من المفروض أن المرشّح المكلّف بمهمة التخلّص من بقايا عظام لعبة "بُوهَيْرُوسْ" ورميها وسط الدوّار/القبيلة الخصم دون القبض عليه والعودة للديار سالما، يتّصف بمقومات ومواصفات الفارس البطل والشجاع، والمناور على صهوة حصانه الثّائر، حيث يتم تجهيزه على حساب الأهل والأحباب، بأفخم الألبسة التقليدية التي نسجتها وحاكتها وقامت بخيّاطتها أنامل الْجَدَّاتْ والأُمَّهاَت والأخوات من نساء القبيلة في وقت سابق مثل: الْفَرَاجِيَّةْ، والتّْشَامِيرْ، والجَّلَّابَةْ، والسَّلْهَامْ، فضلا عن الْعَمَامَةْ والسِّرْوَالْ الْقَنْدْرِيسِي، والْبَلْغَةْ والشّْكَارَةْ والْخَنْجَرْ، والدَّلِيلْ.

 

 

3 ـ انتقاء حصان الفارس والعدّة

 

في هذا السياق، يتم استقرار الرأي التشاوري بشكل ديمقراطي، على اختيار أحسن وأسرع الخيول وأجودها مواصفات بالمنطقة، وإحضار أجود وأفخم عُدَّةٍ من مستلزمات امتطاء صهوة الخيول، ذات الصلة بالصناعة التقليدية المغربية الأصيلة، "سْنَاحْ الْعَوْدْ" على أساس أن لحظة التّباري والمنافسة لها قيمة تراثية كبيرة، تستوجب الحسم والاتفاق على استعمال ووضع أجمل السّروج المرصعة بخيوط الصّم المزركشة، والجداول والخيوط الحريرية ذات الألوان الزاهية، دون التفريط في صحة وسلامة وقوّة الرّْكَابَاتْ والِّلجَامْ والدّير، المتميز للتّحكّم في قيّادة الحصان وضمان السلامة للفارس.

 

4 ـ ليلة الإحتفال بعريس عملية الهجوم

 

على مستوى الاستعدادات أيضا، يقام حفل تكريميّ تشاركيٌّ موّسع بين كل أفراد الدوار/القبيلة، على شرف "عْرِيسِهَا" الفارس/البطل الذي أنيطت به مسؤولية ومهمة رمي بقايا عظام لعبة "بُوهَيْرُوسْ" من طرف الفتيات العازبات ونساء الدوّار، تخلل فقرات برنامجه أهازيج من الغناء والرّقص والنّظم والإنشاد على إيقاع الدّفوف والطّعاريج، تمجيدا لشجاعة فارسهم المقدام الذي يستعد للمواجهة وتحمل مسؤولية رفع رأس الدوار/ القبيلة، من خلال تفوقه في مهمة عملية الهجوم، ورمي صرّة العظام داخل القبيلة الأخرى دون القبض عليه متلبسا.

 

5 ـ قوانين رياضة لعبة "بُوهَيْرُوسْ" الشّعبية

 

عند وصول ساعة الصّفر، في يوم المواجهة، يتم مرافقة الفارس المغوار فوق صهوة حصانه الجامح والثائر "الْفَرَّادِي وَحْدُو غَادِي"، بالغناء والنظّم والتهليل والتكبير والزغاريد النسائية التي تشرئب لها الأعناق، من طرف جميع سكان القبيلة ذكورا وإناثا، إلى حدود ديار القبيلة الأخرى (الدُوَّارْ)، ويتم توديع الفارس/البطل المفترض على إيقاع الأذكار والحمد والشكر لله، والدعوة له بالنجاح والفلاح في مأموريته الميدانية التنافسية، من أجل أن يعود لقبيلته سالما وظافرا غانما، بعد أن يرمي ويقذف بصُرّة بقايا عظام لعبة "بُوهَيْرُوسْ"، ويطلق العنان لجواده "عَوْدِي لَزْرَﮜْ بَلْجَامُو، مْهَرَّسْ لَحْجَرْ بِـﮜدَامُو"، دون أن يتم القبض عليه من طرف أبناء القبيلة الأخرى، والتي من المفترض أن يكون كل رجالها وشبابها، قد تجنّدوا ودرسوا ميدانيا كل الاحتمالات للإيقاع بالفارس الخصم، حامل صُرَّة بقايا عظام لحم الرأس والكتف، ووضعوا كمائن وخططا وتكتيكا حربيا لمنعه من تحقيق هدفه المعلوم.

 

6 ـ التخلّص من صُرَّة العظام دون القبض على الفارس يُعَدُّ انتصارا كبيرا

 

ما دامت صُّرَة "بُوهَيْرُوسْ" بين أيدي الفارس فوق صهوة جواده، وهو يتجول بين مسالك وطرقات الدوار المفضية للبيوت، ومادام لم يقذف بها داخل ديّارها، فلن يتجرأ عليه أي أحد، أو يعتدي عليه، ولا يمكن المساس بسلامته. الأهم والأساسي أن عيون المدافعين على حرمة القبيلة لا تفارق الصُّرَة.

 

ما دامت صرَّة "بُوهَيْرُوسْ" بين يدي الفارس، فالاحترام واجب. لكن بمجرد أن يطوّح ويرمي بها، وتفارق صُرَّة بقايا العظام يد الفارس/البطل المفترض، حتى ينطلق شباب القبيلة المعتدى عليها بمقذوف شرّ تلك العظام، ويستنفروا كل طاقاتهم من أجل الإمساك بالعدو المفترض/الفارس داخل حدود ديّارهم، ـ حسب القول المأثور "البادئ أظلم"ـ منهم من يمتطي صهوة الخيول، أو البغال، أو جريا وركضا على الأقدام، حيث يتم محاصرة كل منافذ القبيلة ومخارجها، من أجل القبض على الفارس المعتدي على القبيلة والتنكيل به حسب الأعراف والعادات المعلومة في هذا النّزال الرياضي الشّعبي.

 

إذا نجح الفارس الذي هاجم القبيلة الخصم، وتمكّن من تنفيذ مهمة رمي صُرَّة بقايا عظام "بُوهَيْرُوسْ" من خلال اجتيازه حدودها دون القبض عليه، وعاد إلى قبيلته سالما، يُعَدُّ هذا الإنجاز انتصارا رائعا.

 

7 ـ شروط تتويج المنتصر

 

في هذه الحالة تحتّم قوانين وأعراف اللعبة الشّعبية "بُوهَيْرُوسْ" أن يقام حفل باذخ على شرف قبيلة الفارس/البطل المنتصر. بل يتم الاحتفال داخل بيته بحضور الجميع، بتمويل من لحوم أضاحي أكباش القبيلة المندحرة والمنهزمة. ويفرض على رجالها الإنصياع لجميع طلبات أهل القبيلة المنتصرة في حدود الأعراف والعادات والتقاليد، من خلال توفير كل شروط الاحتفال بيوم النصّر ـ أكلا وشرابا، وطربا، ورقصا وغناء، وخدمة الناس ـ أما القبيلة المنهزمة فالمفروض فيها أن تستعد في السّنة المقبلة لطقوس اللعبة الشعبية واختيار فارسها الذي سيتحمل مسئولية رمي صُرَّة بقايا عظام لعبة "بُوهَيْرُوسْ" التراثية داخل ديار القبيلة المنتصرة ويتخلص من عار الهزيمة التي ستلاحق قبيلته طول السنة.

 

 

8 ـ القبض على الفارس بعد رمي صُرَّة "بُوهَيْرُوسْ" يُعَدُّ انتصارا

 

في حالة لا قدر الله، إن تم القبض على فارس القبيلة التي كلفته بمسؤولية ومهمة رمي الصرَّة، والتخلص من شرّها، من طرف رجال وشباب الدوار التي تعرض للهجوم فذلك يعد هزيمة نكراء، وطامّة كبرى ستحلّ بالقبيلة المنهزمة على طول السنة إلى موعد عيد الأضحى، حيث يتم إنزال الفارس من فوق صهوة الحصان، وتكبيله، ثم جرجرته وسحله أمام الملأ. في حين تقوم النساء والفتيات من ساكنة القبيلة المعتدى عليها، بطلاء وجهه وكل ملابسه التقليدية البيضاء بسواد "حْمُومْ" أدخنة النار التي تلتصق بقدور الطّهي.

 

8 ـ الإنتقام من الفارس الذي وقع في الأسر

 

أكثر من هذا أن الفارس المنهزم الذي وقع في الأسر بين يدي رجال القبيلة، يتم تكبيله ووضعه فوق صهوة الجواد بشكل يصبح وجهه مقابل ذيل الجواد، وهو يسير في الاتجاه المعاكس في الطريق المؤدي لقبيلته المنهزمة، مصحوب بأهازيج مدلة ونظم شذرات غنائية تقلّل من شجاعة القبيلة وقيمة فرسانها.

 

وفي مرحلة ثانية يتم تسليمه لأهله مدلولا صاغرا، كما يتم تسليم كبير القبيلة صُرَّة بقايا عظام "بوهيروس" التي كان ينوي رميها بالديار والفرار دون القبض عليه، على أساس إعادة الكرة في السنة المقبلة.

 

 تختتم لعبة "بُوهَيْرُوسْ" الشعبية، بإقامة مراسيم الاحتفال بهزيمة الفارس المعتدي داخل قبيلة المنتصرين الذين تمكنوا من صد العدوان، وبالطبع يكون الحفل بالنصر، على نفقت قبيلة الفارس المنهزم مع الانصياع لجميع طلباتهم في حدود الإمكانيات المتوفرة لكن دون التنازل عن تمويل الحفل من لحوم أضحيتاهم!