جمال المحافظ: عودة للتناوب في الذكرى الرابعة لرحيل اليوسفي

جمال المحافظ: عودة للتناوب في الذكرى الرابعة لرحيل اليوسفي الراحل عبد الرحمان اليوسفي، وجمال المحافظ

في الذكرى الرابعة لرحيل شيخ الاشتراكيين، عبد الرحمان اليوسفي، (1924 -2020) الكاتب الأول للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يكون من المفيد جدا، استحضار تجربة حكومة " التناوب التوافقي" التي عرفها المغرب ما بين سنوات 1998 و2002 .

 

قبل 26 سنة، في 14 مارس 1998، استقبل الراحل الحسن الثاني (1929 -1999) في القصر الملكي في الرباط، عبد الرحمان اليوسفي الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي كان قد عينه في الرابع من فبراير من السنة ذاتها، وزيرا أول، للحكومة رقم 25 بالمغرب، وهو ما دشن «التناوب التوافقي» كما تواضعت على تسميته الأدبيات السياسية والإعلامية المغربية.
آنذاك وصف تعيين هذه الحكومة، التي كانت تضم ثلاثة أحزاب من المعارضة، ووزراء سيادة، بالحدث التاريخي، الذي وضع حدا لقطيعة مع قوى المعارضة الرئيسية دامت لعقود، خاصة منذ أول حكومة برئاسة عبد الله إبراهيم (1918 ـ 2005).

محاولة للانتقال

كما كان اتفاق الفاعلين السياسيين، على أن يشكل تأسيس حكومة للتناوب، مرحلة لتدشين إصلاحات عميقة، بإمكانها أن تنقل البلاد من مرحلة إلى مرحلة أخرى، تؤهلها لتحقيق انتقال ديمقراطي، بناء على خريطة سياسية حقيقية، وواضحة المعالم، تفرزها صناديق الاقتراع في انتخابات نزيهة.
بمناسبة ذكرى 20 غشت 1995 كان الراحل الحسن الثاني قد أعلن العزم على مراجعة الدستور الذي جرى سنة 1996 في أفق إحداث برلمان بغرفتين، وهي خطوة فُسّرت آنذاك بأنها « آلية للتحكم في المشهد السياسي »، لكن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، احتل المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية في سنة 1998 بدون أن تحصل «الكتلة الديمقراطية» المعارضة على الأغلبية، لكنها قبلت غالبيتها المشاركة في حكومة تضم سبعة أحزاب وعددا من وزراء سيادة، وبدعم من حزبين ممثلين في البرلمان.

بناء الديمقراطية
وفي تحليلات صحفية، آنذاك وصف تشكيل هذه الحكومة رقم 25 في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، بأنه «مؤشر على تقارب مكونات الحقل السياسي، وصفقة تفاهم سياسي، مبني على الثقة، أكثر منه تعاقدا مسطرا، كلف تحضيره أزيد من سبع سنوات، وأكثر من 2000 يوم عمل من التفكير والتخطيط والمفاوضات السرية والترتيبات المعقدة، وأيضا من التنازلات المتبادلة».

كما أن هذه الحكومة كانت نتيجة جهود سياسية مشتركة، لأن بناء الديمقراطية كتعبيد الطريق، إذ أنك حين تفتح طريقا، ستتيح التواصل بين الناس، وكذلك الأمر حين توجد مؤسسات ديمقراطية مسلم بها، فإنها تكون أداة حوار وتبادل بل تضامن، حسب محمد العربي المساري (1936 -2015) وزير الاتصال في النسخة الأولى لحكومة التناوب. فعدم حصول «الكتلة الديمقراطية» في الانتخابات على الأغلبية التي ليست في الواقع «لعبة تجميع رقمي» بل هي عملية يجب أن تسمح بانبثاق أساس مشترك، يتمثل في وحدة البرنامج، وانسجام التركيبة والرؤية الإجمالية للأشياء، حسبما يراه البعض.

لكنْ يُطرح في المقابل تساؤل حول " كيف تكون إحدى أسبقيات برنامج التناوب، هو التخليق مع وجود أطراف مشاركة في الحكومة، كانت تتهمها الأحزاب الديمقراطية، بالتهرب الضريبي والغش الانتخابي والفساد الإداري، كما يرى الأستاذ الجامعي والفاعل السياسي محمد الساسي. ومع ذلك، فإن حكومة التناوب، على ما يبدو كانت تدرك إنها مقبلة على معركة نضالية كبرى، وأن إرادتها في التغيير ستصطدم بقوى الجمود والتخلف، التي هي دوما القوى نفسها التي تشد إلى الوراء، وتحنّ إلى الماضي، كلما كان هنالك اندفاع نحو التجديد والتقدم.

فهذه القوى - يوضح محمد اليازغي الكاتب الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في حديث نشرته جريدة «العلم» في مارس 1998 - ليست أشباحا أو كائنات غيبية، وإنما هي تلك الفئات التي استفادت من الأوضاع السابقة، وتتحصن الآن في العديد من الأجهزة الإدارية والقلاع المالية والاقتصادية".

إنقاذ البلاد
بيد أن هناك من يذهب إلى القول، إن ما ترتب عن واقع مشاركة أحزاب «الكتلة الديمقراطية» في حكومة التناوب، وبفعل ما أحدثه ذلك من رجة في المشهد السياسي المغربي، من نتائج عديدة، ساهمت في تطوير نظرة الفاعلين لمشروع الإصلاح وبرنامجه، بحسب الجامعي والكاتب كمال عبد اللطيف، إذ ليس المرء هنا بصدد تناوب طبيعي على الحكم، وإنما إزاء جملة من الشروط الاستثنائية لممارسة الحكم، بشروط لم يسبق لها أن توفرت في الحياة السياسية من قبل، تتولى فيه حكومة مهمة سياسية مزدوجة، هي إنقاذ البلاد من مخاطر السكتة القلبية، وتدشين مسار الانتقال الديمقراطي، ضمن شروط انتقالية صعبة. التكيف والإنصات

إلا أن التجربة السياسية المغربية، تفرز عناصر تغيير أكيدة، هي بطيئة ولا شك، والتفاوض حولها صعب وقاس أحيانا، لكن النظام السياسي بكل مكوناته، تمكّن من التكيف مع ضغوط الزمن، والإنصات إلى الاختلافات، وإلى مصادر الاعتراض، بل اضطر أغلب الفاعلين في الحقل السياسي إلى تغليب الرؤية السياسية على القناعات الأيديولوجية، كما جاء في محاضرة للباحث الأمريكي جون واتربوري في محاضرة كان ألقاها في ربيع 1997 بالقاعة الكبرى بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال الرباط.
بيد أن مشروع التناوب، الذي يحمل الكثير من خصوصيات المغرب السياسي بمختلف معاركه، وصراعات قواه الحية مع ما هو سائد، « لم يذهب بعيدا في عملية تأسيس القواعد المانعة لإمكانية التراجع عن الإصلاحات المحتملة ومكاسبها، الأمر الذي لا يمنع من أن يظل المجال السياسي المغربي، فضاء لحصول ممكنات متناقضة».

غير أن هناك من يرى أن تعيين إدريس جطو وزيرا أول سنة 2002، «بمثابة المسمار الأخير في نعش الكتلة، والخروج عن المنهجية الديمقراطية في تعيين الوزير الأول، من الأغلبية البرلمانية». وبالمقابل، لم تكن هناك بدائل سياسية، تستطيع أن تعيد للمجال السياسي التوازن الضروري فيه، وهو ما استغلته صحف فتية – خلال تلك المرحلة - وحوّلت الفعل الصحافي بعد سنة 1998، إلى فعل سياسي في حد ذاته، وأصبح التدخل الصحافي تارة يأخذ طابعا أكاديميا، ومرات أخرى يصبح الصحافي منظرا استراتيجيا أو منشطا ثقافيا، فمناضلا متعدد الأبعاد، ووسيطا في النزاعات ذات الطبيعة المختلفة، حسبما يرى الأستاذ عبد الله ساعف.

سفر نحو المستقبل

أما محمد اليازغي، أحد وزراء حكومة التناوب، فيعتبر أن ما سيسجل لليوسفي خلال قيادته لحكومة التناوب «هو دوره المتميز في سفر المغرب نحو المستقبل، والدفع بالوطن إلى رحلة انتقال ديمقراطي، سيعرف مدا وجزرا، لكنه انتقال ديمقراطي، انطلق في مارس 1998، وهي فترة تؤسس لكل ما بعدها، وتمهد الطريق لكل ما سيعرفه المغرب، لما ستهب رياح الحرية والديمقراطية للربيع العربي.

وإذا كان الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي السابق، عبد الواحد الراضي ( 1935 – 2023 ) أول شخصية من حزب معارض ينتخب رئيسا لمجلس النواب، اعترف بأن «التناوب لم يحدث» على الرغم من إقراره،، بأن «بناء الديمقراطية» تتطلب أفعالا بنيوية عميقة واستراتيجية، لكنها تتأخر إلى أن تظهر نتائجها»، فإن التناوب كان " تجربة متميزة" في التغيير السياسي مقارنة بالتجارب التي عرفتها الأنظمة السياسية عبر العالم.

المنهجية الديمقراطية

فالمغرب شهد وصول قوى المعارضة الرئيسية الأولى لمراكز القرار، وليس فقط في ظل محافظة المؤسسة الملكية، على مقومات مشروعيتها السياسية، بل وبنجاحها في تقوية مرتكزات هذه المشروعية. وفي نفس الوقت، فإن نجاح أحزاب الحركة الوطنية التي شكلت المعارضة الرئيسية منذ السنوات الأولى للإستقلال، تمكنت من ممارسة التناوب، بعد أن كانت قد احتفظت بإستقلاليتها عن أجهزة الدولة وبقدرتها الذاتية على تعبئة المجتمع كما سجل الأستاذ الجامعي عبد الحي المودن، في مقال بعنوان " التناوب وآفاق التغيير السياسي " نشرته مجلة مقدمات ، ( عدد مزدوج 22-23 -2001 ص 107).

غير أن عبد الرحمن اليوسفي الوزير الأول بحكومة التناوب، أعلن في المحاضرة الشهيرة التي ألقاها سنة 2003 في بروكسل، " فشل المغرب في الانتقال من التناوب التوافقي إلى التناوب"، وقال في هذا الصدد إن " القبول بقيادة تجربة التناوب هي مخاطرة، أخذت فيها بالحسبان المصلحة الوطنية وليس المصلحة الحزبية. واليوم وقد انتهت هذه التجربة بدون أن تفضي إلى ما كنا ننتظره منها، بمعنى التوجه نحو الديمقراطية عبر خطوات تاريخية إلى الأمام… فإننا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام متطلب وطني، يلزمنا بالانتظار سنتين، على أمل أن نرى إمكانية تحقق الحلم في انتقال هادئ وسلس نحو الديمقراطية".