التَّناقض هو أن يوجدَ في نفس الوضع أو نفس الموقف ما يقبله العقلُ وما يرفُضُه نفسُ العقل، أي أن يتواجدَ في نفس الوضع أو في نفس الموقف الشيءُ ونقيضُه.
وعندما أتحدَّثُ عن مجتمع التَّناقضات، فالأمرُ يتعلَّق بمجتمع منظَّم مؤسَّسيا، ورغم هذا التنظيم، تتعايش فيه الأشياء ونقائضُها. والغريب في الأمر أن هذا المجتمعَ يعمل ويشتغل رغم هذا التَّعايش بين الشيء ونقيضه.
وقبل أن أدخلَ في صُلب الموضوع، أريد أن أُثيرَ الانتباهَ أن حديثي عن مجتمع التَّناقضات، هو حديثٌ عامٌّ، أي أنني لا أقصد مجتمعاً معيَّنا. ما أقصده هو أنه لا يوجد، على الإطلاق، مجتمعٌ خالي من التَّناقضات. كما لا يوجد مجتمعٌ منتشرٌ فيه الخير حصريا. ولا يوجد مجتمعٌ ناسُه كلهم أشرار. بل ما هو متداولٌ ومعروف منذ القِدم، هو أن الخيرَ يتساكن مع الشر في نفس المجتمع. الخير يحارب الشرَّ اجتماعيا، إنساتيا، أخلاقيا وقانونيا. والشرُّ يحارب الخير كلما أُتيحَت له الفرصة في تحدٍّ صارخ للمجتمع وإنسانيتِه وأخلاقه وقوانينه.
بل إن التَّدافعَ الذي يحدث حينما يُحارب الخيرُ الشرَّ أو حينما يُحارب الشرُّ الخيرَ، هو الذي يسمح للمجتمع أن يشتغلَ مؤسَّسِيا بدون توقُّف. غير أنني قد أكون مضطرا، في نهاية هذه المقالة، أن أتَّخذَ المجتمع المغربي كمثال لتوضيح الصراع القائم بين المتناقضات.
وفي هذا الصدد، ورغم وجود التناقضات داخلَ المجتمع، فهذا الأخير مُطالب بأن يتغيَّرَ في الاتجاه الإيجابي، أي أن يتطوَّرَ إنسانيا، أخلاقيا، فكريا، اجتماعيا، اقتصديا، ثقافيا…، علما أن المجتمعات الجامدة محكومٌ عليها بالانقراض. ولا داعيَ للقول أن الخير، بجميع أنواعِه، هو الذي يسعى إلى تحقيق تطوُّر المجتمع بجميع تجلياته. أما الشرُّ، فإنه يتربَّص الفرصَ للاستفادة من التَّطوُّر في تحدٍّ صارخ للقيم الاجتماعية والإنسانية.
وهذا يعني أن المجتمعَ المثالي، أي المجتمع الخالي من الشرِّ أو المجتمع المبني فقط وحصريا على الخير، لا وجودَ له. ورغم وجود هذا النوع من التَّناقض بين الخير والشرِّ، المجتمع يتغيَّر، يتطوَّر. بل كثيرٌ من المجتمعات استطاعت أن تتجاوزَ التناقضات لتبلغ مستوًى جيدا أو عاليا من التَّطوُّر، علما أن المجتمع السَّوي ينبذ نقيضَ الشيء إذا كان يُعيق تطوُّره. والدليل على ذلك أن المجتمعات الحالية التي بلغت مستوياتٍ عالية من الرُّقيِّ والازدهار، تجاوزت هذه التناقضات باحترامها للديمقراطية وحقوق الإنسان. وأهمُّ تناقضٍ تجاوزته هذه البلدان، هو تعارض الدين والسياسة. ففصلت بينهما، أي تركت الدين للأفراد والسياسة للجميع.
إذن، التَّناقضات، من الممكن تجاوزُها إذا كانت الإرادةُ حاضرة وإذا كان هاجس الحكَّام وشعوبهم هو السعي إلى تبني الديمقراطية الحقيقية وليس الديمقراطية المصطنعة التي تضمن دوامَ هؤلاء الحكَّام في السلطة وتُهمِّشَ الشعوبَ.
السؤال الذي يفرض نفسَه هنا، هو : "لماذا بلدانٌ استطاعت أن تتجاوزَ التناقضات وبلغت مستوياتٍ عاليةً من الرُّقيِّ والازدهار، بينما بلدانٌ أخرى وقفت هذه التناقضات سدا منيعا ضد تحقيق هذين الرُّقيِّ والازدهار"؟
للإجابة على هذا السؤال، سآخذ مثالا حيا من التناقضات تُعاني منه كثيرٌ من البلدان السائرة في طريق النمو وعلى رأسها البلدان العربية والإسلامية. التناقض المقصود هنا هو الصراع الصامت، القائم بين الحداثة modernité والتَّقليدانية traditionalisme.
الحداثةُ عبارة عن مفهوم يُرجى من ورائه أن يتصرَّفَ الأشخاص طِبقا لمتطلَّبات العصر الذي يعيشون فيه، وليس حسب قيمٍ اعتُبِرت وتُعتبر مُتجاوَزة. في هذه الحالة، الحداثةُ، كمفهوم، تنبني على أبعادٍ فكريةٍ معيَّنة كالتَّحرُّر émancipation من الخرافة mythe ومن الشعودة sorcellerie ومن القيل والقال potins… وكل ما من شأنه أن يُعيقَ تطوُّرَ المجتمع وتقدُّمَه وإقبالَه على التَّجديد innovation. الحداثة هي ضد الجمود والدوران في حلقات مُفرَغَة…
أما التقليدانية، فهي عبارة عن نظامٍ يتمسَّك فيه الأشخاص بعادات coutumes وتقاليد traditions الماضي المُتوارثة بين الأجيال transmises de génération à génération، علما أن بعضَ المُنتمين لهذا النظام يعتبرون هذه العادات والتقاليد ثابتة، أي غير قابلة للتغيير. وهذه العادات والتقاليد يمكن أن تكون اجتماعية أو ثقافية، كما يمكن أن تكون ذات طابع ديني. والأشخاص المُتمسِّكون بالتقليدانية، يتَّبعون العادات والتقاليد بدون سابق تفكيرٍ أو بدون ردَّة فعلٍ.
والتَّقليدانية يمكن أن تختلطَ بالسياسة والدين. وإذا اختلطت بالسياسة، فإنها تشكِّل تيارا إيديولوجياً يريد تسييرَ المجتمع الحالي بقواعد وأحكام تنتمي للماضي. وإذا اختلطت التقليدانية بالدين، فإنها، هي الأخرى، تشكِّل تيارا فكريا لا يعترف، في مجال الدين، إلا بما قاله الأولون ولو أصبح كل هؤلاء الأولين في عِداد الأموات. وهذا يعني أن الأولين تركوا، بعد موتهم، تراثا دينيا وفِقهيا يعتبره فقهاء وعلماء الدين الحاليون تراثا ثابتا وغير قابل للتغيير. مع العلم أن بعض المنتمين للتقليدانية يستعملون الدين لأغراضٍ سياسية، أي يستعملون الدين كمَطِيةٍ للوصول إلى كراسي السلطة. حينها، يصبح التيار الفكري الديني عبارة عن إيديولوجيا الهدف منها احتلال كراسي السلطة.
بعد هذه التَّوضيحات حول الحداثة والتقليدانية، فما هو الصراع القائم بين هذين المُتناقضين؟ شئنا أم أبينا، هذا الصراع له، في نفس الوقت، طابَعٌ ديني وسياسي. لماذا؟
أولا، صراعٌ له طابع ديني لأن الأغلبية العظمى من المغاربة محافظون conservateurs، وفي نفس الوقت، يتصرَّفون كأنهم حداثيون modernistes. بل إنهم يتبنون جوانب كثيرةً من الحداثة بعقلية مُحافظة avec une mentalité conservatrice. وهذا الأمر يزيد الوضعَ تعقيدا حيث يصبح الصراع، على مستوى الأشخاص، بين الدين والحداثة، وليس بين تيارين فكريين متناقضين. وهذا، في حد ذاته، نوع من الاستلاب الثقافي aliénation culturelle. ولهذا، فالإنسان المغربي يجر معه، في وعيِه وفي لاوعيِه، عقليتين متناقضتين. الأولى تجعله متفتِّحا على الحداثة. والثانية تجعل منه إنسانا مُحافظا إذ أن هذا الإنسانَ لا يتحمَّل أن يرى، مثلا، شخصا آخر يُفطِر في الفضاء العمومي خلال شهر رمضان. رغم أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يقول في كتابه الكريم : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ… (البقرة، 256). ويقول كذلك : "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ… (الكهف، 29). ويزداد الصراع حِدَّةً لأن الإنسانَ المغربي يدخل في نزاعٍ مع عقيدته ومع ما أراده اللهُ، سبحانه وتعالى، للدين أن يكونَ.
ثانيا، صراع له طابع سياسي لأن الصراعَ يكون بين فئتين متناقضتين. الفئة الأولى، على قلتها، تريد نظامَ حكمٍ مبني على العلمانية، أي على حرية العقيدة… والفئة الثانية تخلط بين السياسة والدين، وتريد فرضَ فهمٍها للدين على الآخرين. والسياسة، بالنسبة لهذه الفئة، ليست إلا مَطِية تمكِّن من الوصول إلى السلطة. والحقيقة أن هذه الفئة لها مشروع اجتماعي/ديني تريد فرضَه، إن آجلا أو عاجلا، على الغير. علما أن هذا المشروعَ يتنكَّر ويرفض جزأً كبيرا من حقوق الإنسان.
أرأيتم درجةَ التَّعقيد التي وصل ويصل لها الصراعُ الذي يتصارع فيه المغاربة، أولا، مع أنفسهم، وثانيا، مع مختلف التيارات الفكرية المحلية والمستوردة، بالأخص، من العالم الغربي. ورغم كل هذه الصراعات والتناقضات، فالبلاد تتطوَّر وتنمو، ببُطءٍ، لكن من حسن إلى أحسن. فما هو الحلُّ للخروج من هذا المأزق الذي يُؤرِّق ضمائرَ المغاربة؟
الحل الوحيد هو بناء الإنسان المغربي، منذ نعومة الأظافر، بناءً يتماشى مع حقيقة الدين ومع طموحات هذا الإنسان في العيش في مناخٍ سياسي ديمقراطي يضمن كرامةَ العيش للجميع والتَّمتُّع بالحقوق كاملةً، كما ينص عليها الدستور.