على هامش حفل تنصيب الرئيس محمد إدريس دبي يوم الخميس 23 ماي 2024، وتعليقاً على ما راج حول اللقاء الذي جمع رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدّبيبة مع الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني في تشاد، وعلاقة ذلك بالمؤامرة الجزائرية الفاشلة لإقامة تحالف مغاربي يقصي المغرب..
وحتى لا نَتيه في الكثير من التفاصيل، علينا أن نركّز على ما يهمنا نحن المغاربة في الموقف الموريتاني الذي رفض تكتلاً مغاربياً دون المغرب، وهذا الموقف الشجاع من الرئيس ولد الغزواني كان بمثابة صفعة للنظام العسكري الجزائري، لا من حيث الشكل ولا من حيث الجوهر.
فمن حيث الشكل كان الرئيس محمد ولد الغزواني متواجداً في الجزائر لحضور منتدى الدول المصدرة للغاز في مارس 2024، وتوقع جنرالات النفط والغاز الجزائريين أن الرئيس الموريتاني سيُجاملهم، وأنه لن يجرؤ على رفض الدعوة الجزائرية للقاء مغاربي ملغوم، ولكنه صدمهم بموقف مبدئي يرفض الطعن في جاره الشمالي، وغادر الجزائر دون المشاركة في اللقاء الثلاثي؛ وهذا ممّا يحسب للقيادة الحالية في موريتانيا.
وأما من حيث الجوهر، فالرفض الموريتاني يعتبر هزيمة للسياسة الجزائرية تجاه موريتانيا، ونهاية لكل محاولات النظام الجزائري جرّ موريتانيا إلى صفّه واستعداءها ضد المغرب. فلا زيارات وزراء جزائريين إلى نواكشوط ولا محاولات ابتزاز موريتانيا آتت أكلها، وباءت كل الخطط الجزائرية بالفشل. فقد تحوّل معبر "شوم تندوف" إلى نذير "شؤم تندوف" لأنه كاد أن يُودي بحياة الرئيس ولد الغزواني الذي تعرض موكبه لحادثة دموية راح ضحيتها أقرب حراسه الشخصيين، فأصبح المعبر بحقّ فأل شؤم لا يبشر بخير يأتي من نظام أوغل في دماء شعبه وجيرانه دون استثناء.
وأما ما أسمته الجزائر بالمساعدات الغذائية، فالشعب الموريتاني أذكى من أن تنطلي عليه الخدعة وما وراءها من أهداف بئيسة، خاصة وهو يرى الشعب الجزائري يصطف في طوابير لشراء العدس والزيت والحليب، فالصدقة في المقربين أولى.. وقل مثل ذلك في شحنة البصل وما أدراك ما البصل التي أرسلتها الجزائر إلى بلاد شنقيط لِتنكشف طبيعة الوعود البنفسجية التي يعد بها تبون، "وما يعدهم إلا غُروراً"، بتشجيع المبادلات التجارية بين البلدين، وحال لسان الموريتان يقول "فاقد الشيء لا يعطيه".
وقُل مثل ذلك بالنسبة لفتح دكّان جزائري سمّوه بنكا في نواكشوط، والموريتان تجّار بالفطرة بارعون وحذقون ويعرفون أن النظام البنكي الجزائري مُفلس في بلده فكيف ينجح في موريتانيا؟! وأوّل شاهد على إفلاسه منع السلطات الجزائرية لموظفيها من سحب أجورهم دفعة واحدة من البنوك لانعدام السيولة في حوادث متكررة؛ وثاني شاهد هو تفضيل الجزائريين اليورو والدولار على الدينار في مدخراتهم داخل بلدهم. وأخيراً وليس آخراً انهيار قيمة العملة الجزائرية التي لا تساوي حتى الورق الذي طبعت عليه، وعلى سبيل المقارنة فقط فالدرهم المغربي يعادل أو يفوق 14 دينارا جزائريا، رغم أنه كان في فترة من الفترات مساوياً له على الأقل في المبادلات المالية الرسمية! فأنّى إذن للبنوك الجزائرية أن تَمدّ رِجلها خارج حدودها إلاّ إذا كان الغرض هو مُماحكة البنوك المغربية، كما قال الشاعر "كالهرّ يحاكي انتفاخاً صولة الأسد".
وفوق ذلك كله، لا شكّ أنّ ذاكرة الشعب الموريتاني والدولة الموريتانية لن تنسى أبداً أن الجيش الجزائري هاجم مع ميليشيات الجبهة الانفصالية موريتانيا ووصلوا إلى مشارف العاصمة نواكشوط، وقتلوا أزيد من ألفي موريتاني (2000) ما بين سنتي 1975 و1978، وهو ما أرغم موريتانيا على التوقيع تحت التهديد في الجزائر سنة 1979 على اتفاق مع الجبهة الانفصالية سيفتح الطريق للاعتراف بجمهورية تندوف الورقية سنة 1984، وهي إهانة للدولة الموريتانية لن تتقادم ولن يطالها النسيان.
لذلك كله علينا كمغاربة أن نستحضر كل هذا المشهد لمساعدة موريتانيا على إزالة آثار الإهانة المتمثلة في الاعتراف بكيان تندوف تحت التهديد الجزائري، لأن المعادلة الجيوسياسية تغيرت ولم يعد بإمكان النظام الجزائري استباحة أمن موريتانيا أوقلب النظام فيها، والدّليل على ذلك هو التحدّي الذي رفعته مالي والنيجر بوجه الجزائر التي ظلت تستبيح سيادتهما وتحرض الجماعات المسلحة ضدهما.
أما ليبيا فقد تبرأت هي الأخرى من محاولة إقصاء المغرب وأوفدت مبعوثاً خاصاً إلى الرباط لشرح موقفها. ونحن نعلم جيداً الظروف السياسية التي يمرّ منها هذا البلد الشقيق وحالة الانقسام ببن شرق ليبيا وغربها، ونعلم أن الشعب الليبي لا يثق في النظام الجزائري الذي أرسل مئات المقاتلين المرتزقة المنتمين لما يسمى جبهة "البوليساريو" لدعم الرئيس المخلوع معمر القذافي ضد ثورة 17 فبراير الليبية، وهذه الجريمة ستبقى وشماً في ذاكرة الشعب الليبي. كما نعلم أنّ الحكومة الليبية سبق لها أن ندّدت بانتهاك سيادتها من طرف الجزائر عدة مرات، نذكر منها جولات وزير الخارجية الجزائري الأسبق عبد القادر مساهل داخل التراب الليبي ولقاؤه مع فصائل ليبية دون إذن من الحكومة الليبية، بالإضافة إلى المناوشات العسكرية على الحدود بين قوات الجنرال خليفة حفتر والجيش الجزائري.
لذلك لا خوف على الموقف الليبي والموريتاني، ولكن على المغرب أن يبادر إلى استثمار فشل المؤامرة الجزائرية ضدّ الاتحاد المغاربي، من أجل الدفع بالعلاقات الاقتصادية والاستراتيجية مع البلدين إلى مستويات أعلى، ومن أجل مساعدة نواكشوط على وجه الخصوص للقيام بالخطوة الحاسمة لتصحيح الخطأ التاريخي في حقّ المغرب، وسحب اعترافها الذي أُرغِمت عليه تحت التهديد بجمهورية تندوف. وهذا يتطلب تحرّكاً مكثفا للخارجية والحكومة المغربية اليوم وليس غدا.