يجب على أهل العلم والفكر والثقافة التصدي للأفكار التكفيرية المتطرفة التي تنتشر كالنار في الهشيم هذه الأيام في مجتمعاتنا المسلمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، من أجل تثبيت الأمن والاستقرار والسلم والسلام والتعايس بين جميع مخلوقات الله تعالى، فديننا هو دين الوسطية والاعتدال، والأمة المسلمة وصفها كتابها الكريم بالأمة الوسط، يقول تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" لهذا نشر المنهج الوسطي سنة نبوية وفريضة شرعية، يجب على العلماء والفقهاء والدعاة التمسك بها مع تكريس قواعدها وضوابطها ومفاهيمها، والتصدي للأفكار والمناهج المنحرفة المؤدية إلى العنف والغلو والتطرف، وبناء شخصية إسلامية متوازنة منتجة وإيجابية وواعية، وفتح الحوار والنقاش في القضايا المشكلة، بأساليب شرعية وأخلاقية، وتعميق مبادئ تحمل وتقبل فكر الآخر..في الحقيقة حين ندرس تاريخنا الإسلامي، نجد هذا الانحراف عن منهج الإسلام ووسطيته بدأ مع جماعة الخوارج، فأزمتهم وانحرافهم كما نعلم، ليس فيما يتعلق بأداء الواجبات الدينية من صلاة وصيام وزكاة ونحوذلك ؛ بل إنحرافهم وجنوحهم إلى التطرف والتنطع أتى عن طريق فكرهم الأعوج، مع ضعف فهمهم لمقاصد الدين ، ولنصوص القرآن الكريم ، فقد كانوا يقرأون بدون تدبر، ويحفظون بدون وعي ، لذا كفروا الصحابة رضي الله عنهم ومن بينهم الإمام علي رضي الله عنه. مع الأسف، بدأ هذا الفكر يبرز من جديد في أوساط شباب المسلمين وخصوصا وسط بعض الجماعات الإسلامية؛ نظرا لقلة زادهم في العلم الشرعي وعدم معرفتهم بمقاصد الدين الإسلامي، ممايسهل للمتربصين بهم عبر الشبكات العنكبوتية صيدهم وسقوطهم كالخرفان أمام أيديهم..!! طبعا وهناك جهات غربية تشجع هذا التوجه وهذا التيار وتغدق عليه أموالا باهضة وبسخاء منقطع النظير؛ لاستعمالهم كقنابل موقوتة عند الحاجة ! فالشعار الذي حمله الخوارج في صدر الإسلام "إن الحكمُ إلاَّ لله" يحمله خوارج اليوم، وبه وعلى ضوئه يكفرون حكام المسلمين ويبيحون دماءهم، بالإضافة إلى القيام بالتشهير لكل من يخالفهم في رأيهم الضال المنحرف دون ذرة من حياء، يظنون أنهم يحسنون صنعا وهم في حقيقة الأمر يخربون دين الإسلام بأفواههم وأفكارهم العقيمة، واذا قمنا بمقارنة صفات الخوارج الأجداد نجدها تنطبق تماما على صفات الخوارج الجدد اليوم، ومن صفات الخوارج في الحديث النبوي أنه لم يرد في فرقة من الفرق الإسلامية من البيان النبوي ما ورد في الخوارج، فقد تواترت الأحاديث في التحذير منهم وبيان صفاتهم، ومن صفاتهم التي ورد بها الحديث:- قلة فهم القرآن ووعيه ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله أنه قال في وصفهم : "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة" متفق عليه .
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله أنه قال في وصفهم "يقتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان".
وروي عن الإمام علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وصف الخوارج "حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام" متفق عليه. ومن أوصافهم التحليق، كما ثبت في صحيح البخاري مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصفهم "سيماهم التحليق " والمراد به : حلق رؤسهم على صفة خاصة، أو حلقها بالكلية، حيث لم يكن ذلك من عادة المسلمين ولا من هديهم في غير النسك، وخاتمة الأوصاف النبوية للخوارج أنهم "شر الخلق والخلقية" وأنهم "كلاب النار" كما في مسند أحمد ، وأنهم: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" كما ثبت ذلك في الصحيحين. وهناك صفات كثيرة اتصفوا بها وعرفوا من خلالها وأبرزها للعيان الفظاظة والشدة والتنطع والغلو في الدين، فمقياس الالتزام عندهم هوتقطيب الجبين ، وقص الشارب، وحلق الرأس، والميل إلى تحريم كل شيء ،وجعله هو الأصل ؛بينما الإسلام الذي فهمناه وتعلمناه من شيوخينا ومن جهابذة العلماء، وماجاء به نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، من قيمه وأصوله وأركانه الذي بني عليها التيسير لا،التعسير، وأن تنطع هؤلاء في المسائل الخلافية وإثارتها بين العامة وعلى صفحات الجرائد ومواقع الشبكات العنكبوتية دليل جهل بالإسلام، وبأحكامه ومقصاده وعدم فهم الواقع. ومما يؤكد أن هناك علاقة حميمية بين قلة المعرفة والفقه والتنطع والتشدد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه:" إن الله لم يبعثني معنتا ولامتعنتا، ولكن بعثني معلما وميسرا" فمدارس ومناهج التيسير دائما ارتبطت بالفقهاء والعلماء الكبار، ولذلك كان حبر هذه الأمة وترجمان القرآن ومن دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين ومعرفة التاويل، وهو إبن عباس رضي الله عنه، أفقه الصحابة ورائد مدرسة التيسير، ولوسلك هؤلاء الجهلة في دعوتهم طريق اليسر والعفو والتسامح والصبر، والابتعاد عن التطرف والعنف، لجذبوا قلوب الملايين إلى الإسلام؛ لأن من طبيعة الإنسان الميل إلى من يعطف عليه..مخطئ من يعتبر الحلم عجز، وأن العفو ضعف ، وأن البسمة خنوع وإذلال، وخفض الصوت دروشة، فهذه حجج يلجأ إليها اللائمون، ويتبجح بها الجاهلون والحمقى ، والذي يريد أن يسبر روح الحقيقة وأن يتفحص ماهيه الأمور، يجد أن ضبط النفس عند الغضب والاحتكام إلى العقل في ثورة الانفعال هو شارات القوة ، ومن مقتضيات البطولة في حياة الإنسان عامة، والمسلم خاصة ، روى مالك في موطئه أنه عليه الصلاة والسلام قال :" ليس الشديد بالقوة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". فقد أكد القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ان الفظاظة وغلظ القلب ... تسبب النفور، وتورث العداوة، وتقضي على روح تقبل الخير في الناس ، وتؤخر مسيرة النصر ، وتفجر طاقة اليأس ، وصدق الله العظيم إذ يقول: " فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفرلهم.." وفي هذا السياق روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " بال أعرابي في المسجد ، فقام الناس ليوقعوا فيه ، فقال صلى الله عليه وسلم دعوه وأريقوا على بوله سجلا ( دلوا ) من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولن تبعثوا معسرين".
هذا هو ديننا، وهذا هو منهجنا ومنهج رسولنا صلى الله عليه وسلم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده كماجاء في الحديث الشريف .
الصادق العثماني، باحث في الفكر الإسلامي وقضايا التطرف الديني