إذا كان للفساد أكثر من وجه وقناع وذراع. فإن هناك أكثر من مدخل لمحاربته. ولعل واحدة من أدوات وآليات هذه المحاربة في بلادنا عدد من الهياكل والنصوص التشريعية التي تلتقي مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وفي صداراتها الملكية المتمثلة لروح دستور 2011 الذي ربط المسؤولية بالمحاسبة، مؤكدة دائما العمل على رفع التحديات الداخلية باتجاه بناء مغرب التقدم والكرامة. ثم هناك إحداث اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد سنة 2017، بمرسوم رقم 264-17-2 يهدف، كآلية للحكامة، إلى "تتبع وتنفيذ مختلف التوجهات الاستراتيجية والتدابير والمشاريع والإجراءات الكفيلة بتعزيز النزاهة ونشر قيم التخليق والشفافية، ومواكبة مختلف القطاعات المعنية ببرامج السياسة العمومية المتعلقة بمكافحة الفساد". ويتآزر كل هذا الجهد بوجود المجلس الأعلى للحسابات والهيئات المدنية ذات الطابع الحقوقي، التي جعلت من مكافحة الفساد العصب الأساسي لنشاطها الجمعوي. علما بأن كل هذه المرجعيات تتوافق مع مقتضيات المادة 20 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
على ضوء ذلك تخصص «الوطن الآن»، ملف هذا العدد، للجدل الذي رافق ظهور بند محاربة جريمة الإثراء غير المشروع في تعديل القانون الجنائي واختفائه بما يعكس حالات التردد بين السعي إلى تحقيق الوثبة باتجاه المستقبل مقابل حالات تشده إلى الوراء. وهو ما يعكس أيضا كون بلادنا تعيش، في نفس الوقت، سرعات متناقضة تعبر حالة تأزم مرحلة الانتقال نحو الديموقراطية بكامل أسسها.
في 31 مارس 2015 كانت وزارة العدل والحريات «أيام حكومة عبد الإله بنكيران» قد أعلنت عن عملها بصدد إتمام إعداد مشروع قانون جنائي جديد على اعتبار تقادم العديد من المضامين التي يعود تاريخ وضعها إلى سنة 1962، وضمن التعديلات المطروحة ما يهم إحداث بند تجريم الإثراء غير المشروع.
وبينما كانت هذه الصياغة تنتظر أن تأخذ مسالكها التشريعية المعروفة في اتجاه إقرار مشروع قانون جنائي متجدد، تعطلت المسالك في حكومتي بنكيران وسعد الدين العثماني بتبريرات مختلفة.
في نونبر 2021 قررت حكومة عزيز أخنوش رسميا، وبعد أن لم يتم على تعيينها سوى وقت يسير، سحب مشروع القانون المعني الحامل لرقم 16.10، وبررت ذلك بصعوبة مناقشته بشكل مجزأ، وبضرورة مناقشته في شموليته، تماما كما جاء ذلك على لسان مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان الناطق الرسمي باسم الحكومة.
في 24 يوليو 2023 أكد عبد اللطيف وهبي، وزير العدل سحب مشروع مجموعة القانون الجنائي من البرلمان، وذلك في جلسة الأسئلة الشفهية بمجلس النواب، موضحا بأن «بعض الفصول التي سحبت تطرح إشكالا»، وبأن «الإثراء غير المشروع إذا تم تطبيقه، كيف سنتعامل مع مبدأ قرينة البراءة المنصوص عليها دستوريا، أليس هذا تناقضا؟»
السؤال المشروع في هذا السياق:
لماذا اتخذ قرار السحب؟
ولماذا تتعثر المسالك التشريعية إلى حدود اليوم في تجسيد ما قالت الحكومة إنه ثغرة في المشروع السابق؟
وهل يعني هذا التعطيل المتوخى منه، حسب منطوق الحكومة، فقط تحويل المجزإ إلى الشمولي؟
الآن، وبعد هدر الزمن النفسي والمادي منذ طرح مشروع قانون تجريم الإثراء غير المشروع قبل ثماني سنوات، نجد أن التفسير البليغ لقرار السحب، يجد تفسيره في سلوك الحكومة التي تبين منذ تعيينها أنها، ببساطة ووضوح، حكومة الباطرونا التي تلهف كل الامتيازات، وبأنها حكومة الأثرياء الجشعين الذين يناصرون الفساد في النهار والليل ضدا على ما رفعته من وعود وشعارات الأحزاب التي تكون الأغلبية الحكومية الحالية، وضدا على البرنامج الحكومي وتصريحات الوزراء بخصوص ادعاء «الدولة الاجتماعية»، تزامنا مع ادعاء تجفيف منابع الفساد، وإنصاف المواطنين على قاعدة العدالة وتركيز مبدأ الشفافية في تدبير الشأن العمومي.
وها هي قراراتها المكلفة على نفسية المغاربة وجيوبهم ونفسياتهم: التوالي التدريجي في الزيادات الملتهبة في أسعار المواد الغذائية الأساسية، وإبطال معاني الحوار الاجتماعي مع النقابات. ثم هناك احتداد التعبيرات الاحتجاجية التي عشنا تواصلها الغاضب في قطاعات التعليم والصحة والتشغيل.
وفي السياق ذاته تجدر الإشارة إلى سلوك مقيت سبق أن نبهنا إليه في وقت سابق، ويهم إقدام الحكومة ذاتها على إقبار 34 تقريرا لهيأة النزاهة والوقاية من الرشوة تتضمن 1000 توصية كان من شأنها خلق بيئة لردع المتلاعبين بالمال العام، وتجويد مسطرة استراداد الدولة للأموال المنهوبة فضلا عن تطوير آليات الإفلات من العقاب.
مجمل القول إن المغرب لا يحتاج فقط إلى إعادة نص تجريم الإثراء غير المشروع إلى الترسانة التشريعية المغربية. بل هو في حاجة كذلك إلى إعادة تفعيل كل النصوص الذاهبة نحو هذا الاتجاه، وفي مقدمتها تنزيل المنظومة الدستورية، وضمنها الخطب الملكية، وتجديد هوية ووظائف الهياكل ذات الصلة بالمراقبة وحماية المال العمومي، ودعم العمل الجمعوي المدني الذي يحارب الفساد.
يقال إن الديموقراطية لا تصلح إلا بوجود الديموقراطيين. بناء عليه نقول إن الفساد لا يمكن أن يُكافح أبدا بوجود المفسدين.